طارق الطيب
طارق الطيب قصة قصيرة فوانيس رمضان زُمرةً في ليالي رمضان نكون. نحمل الفوانيس ونسير إلى البيوت. نتفرَّج على فوانيس كلٍّ منَّا. كُلٌّ يُبيِّن مميّزات فانوسه أو يدَّعي أن الزجاج، مثلاً
طارق الطيب
قصة قصيرة
فوانيس رمضان
زُمرةً في ليالي رمضان نكون. نحمل الفوانيس ونسير إلى البيوت. نتفرَّج على فوانيس كلٍّ منَّا. كُلٌّ يُبيِّن مميّزات فانوسه أو يدَّعي أن الزجاج، مثلاً، من نوع إنجليزي ممتاز كما تقول الأمُّ أو الأب. مثل تلك الحيل التي تنطلي دائمًا علينا نحن الصغار. أو أن القصدير المصنوعة منه الفوانيس هو من النوع الغالي المسكوب بالفضة، إلى آخر تلك المبالغات والتجميلات. نحاول السَّيْر جماعاتٍ مُتقاربةً متلاصقي الأكتاف. يدٌ تحمل الفانوس والأخرى تُداري على الشمعة من هبوب الرياح عند الانتقال من ناصية إلى أُخرى. تعلو أصواتُنا بالنشيد المُعتاد: ”حاللو يا حاللو رمضان كريم يا حاللو، ادِّينا العادة لِبَّة وزيادة والفانوس طأطأ والعيال ناموا والفراخ قاموا، حاللو يا حاللو رمضان كريم يا حاللو!“
نَمُرُّ على البيوت فنحصل على ”العادة“، من هذا على فول سوداني ولوز، ومن هذا على جوز وعين جمل، وربما على قطايف أو كنافة من البيوت الميسورة وربما على قطع نقديَّة صغيرة. نَنْزل من البيوت أو نخرج من الأحواش ونقتسم الغنيمة. أحيانًا يكون بيننا مفجوع يلتهم قطع القطايف أو قطع الكنافة في فمه مرَّةً واحدة، فينوبه منَّا الضرب والتأنيب والتهديد بعدم ضَمِّه إلى زُمرَتنا في الأيام التالية. ولا نُوقد له في هذا المساء شمعته إن انطفأتْ.
بعد أن نحصل على ”العادة“ نشكر صاحب البيت أو صاحبة البيت بجُمَلٍ تعَلَّمْناها من حوارات الكبار: ”ربنا ما يقطع لك عادة يا عمّ شعبان! ربنا ما يقطع لك عادة يا حاجة أمّ ياسر!“
سَمْعي ضعيف. نُجازف في ذلك اليوم، بالأغنيات إيَّاها، بالخروج عن حدودنا المعتادة إلى مكانٍ أبعد، تَشَوُّقًا إلى المغامرة وطمعًا في الحصول على عادةٍ أكبر: ”حاللو يا حاللو رمضان كريم يا حاللو، حِلّ الكيس وادِّينا بقشيش الله يخلِّيك يا حاللو!“
فجأةً أجد نفسي أسير وَحيدًا أُغَنِّي بمُفرَدي. أتلفَّتُ حولي لا أَجدُ ولا أسمع أحدًا من زملائي وزميلاتي. يعلو صوتي، من الخوف، بالنشيد: ”حاللو يا حاللو رمضان كريم يا حاااااللو!“ أنتظر أن أسمع هتاف أحد الزملاء أو الزميلات. لا أسمع. أرتعش. ألتفت حولي لأرجع. تُصفِّر الريح وتأخذ شمعتي. أصرخ من وسط الهتاف: ”حاللو يا حااااللو.. رمضان كاريم..“ بأعلى ما فيَّ من عزم. يخرج صوتي مشروخًا مبحوحًا.
أسمع صوت طبل بعيد، أتَّجه في العتمة ناحية الصوت. تتعثَّر قدمي في حجر وتلتوي رجْلي في حُفرةٍ. أرى من بعيد نورًا. أركُضُ في اتِّجاهه. أقترب. أجد فانوسًا يتوسَّط المكان يُشبه الفانوس المعلَّق في يدي بشمعته المنطفئة. لكنَّ شمعة هذا الفانوس الضخم أكبر منِّي حَجْمًا. الفانوس يُضيء المكان على مدخل بيت غريب عن إلفة البيوت التي أعرفها في حيِّنا أو التي رأيتُها من قَبْل. بيت يبدو مثل قصر كبير له بوَّابة عالية من الخشب المنحوت بأشكال عجيبة، درفة منه مفتوحة تبين حوشًا واسعًا، أرضه رَمْليَّة، عواميده تُشكِّل مستطيلاً، ملوَّنة بلون أزرق فاتح ورسوم في أسفل وأعلى في لون ذهبيٍّ، تحمل العواميد طابقًا علويًّا من الخشب وبين العواميد تبدو صنابير مياه تَضُخُّ ماءً أشبه بالحليب ينبثق برغوة أشبه بزبد البحر، من خلال أفواه تماثيل من المرمر في شكل أسماكٍ وطيور.
حين أدخل مُرْتعبًا من كابوس الخارج، يسقط منِّي الفانوس على البلاط الذي رأيتُه رَمْلاً أثناء دخولي. ينكسر الفانوس، تسقط شمعته المنطفئة. تُضيء لفترةٍ قصيرة ثم تنطفئ من جديد. أُنادي. لا يُجيبني أحد. أدخل من بين الأعمدة أبحث عن أيِّ شخص في الداخل. وأنا أُرَدِّد بصوتٍ مُرتَعشٍ: ”حاللو يا حاللو رمضان كريم يا حاللو!“
ما حدث في الداخل وما رأيت، أقسمتُ ألا أرويه أو أقُصَّه على أحد إلاّ إذا...، حتى هذه غير مُجازٍ لي بالبوح بها.
مُجازٌ لي فقط أن أحكي عن نفسي. لذلك سأقصر القول بأنني حين دخلتُ إلى رواق البيت وجدتُ أمامي مرآةً. بينما مازلتُ أُردِّد نشيدي: ”حاللو يا حاللو رمضان كريم يا حاللو!“ فإذا بي في المرآة أراني رجُلاً طويلاً ذا شارب ولحية أسمع صوتي يَرِنُّ في أُذُني خشنًا أجشَّ. في يدي فانوسٌ مكسور وشمعة صغيرة تُضيء وتنطفئ، وفي يدي الأخرى بقايا من زجاج أبيض، شظاياه صغيرة مُلوَّنة تلمع في المرآة.
(فيينا)