رفاعيات 4

رفاعيات 4 صفات العالِم وثقافته (ج/ ب) د. نعمات كرم الله تأتي بعد ذلك صفة الأصالة والثبات على المبادئ فلنقرأ في خطاب (جوهانا ريد) " نكهـة قـوزقرافي الحقیقیـة فـي أَن یظـل قریـة، ولعـل ذلـك مـن أَسـباب عظمـة حسون، الذي كتبت في سیرته خلال فترة وجوده فـي لنـدن :حـسون إنـسان قوي .. ِإنسان یسكن مدینـة

رفاعيات 4

رفاعيات 4
صفات العالِم وثقافته (ج/ ب)

د. نعمات كرم الله

 

 

 

 

تأتي بعد ذلك صفة الأصالة والثبات على المبادئ  فلنقرأ في خطاب (جوهانا ريد) " نكهـة قـوزقرافي الحقیقیـة فـي أَن یظـل قریـة، ولعـل ذلـك مـن أَسـباب عظمـة حسون، الذي كتبت في سیرته خلال فترة وجوده فـي لنـدن :حـسون إنـسان قوي .. ِإنسان یسكن مدینـة ، وفـي نفـسه تعـیش قریـة . ُّ حـسون وحـده قبیلـة كاملــة مــن العلمــاء، من وراء ما يعتبرونه خط الأفق ... خــط أُفــق عقــولهم وأَبــصارهم. أَرجــو أَن أَكــون قــد أَنــصفت حــسوًنا بعــض الــشيء، وأَنصفت أَیضا أَهل قوزقرافي." ( قبيلة من وراء خط الافق: ص174).
وهي صفة أساسية لأن من لا يحترم أصله وثقافته لا أحد يحترمه. واللافت للنظر هو تفسير دلالات عنوان الرواية (حسون قبيلة كاملة من العلماء...خط أفق عقولهم وأبصارهم) والتي تريد أن تقول بأنّ (حسون) جاء متجاوزاً لمستوى تفكير الأوربيين عن أنسان إفريقيا، وعجزه عن التعلم والتفوق، والصورة النمطية المرسومة له، مما يطرح سؤال إسباغ القيمة...    
ونجد أيضاً صفة الحرية، إذ لابد للعالم أن يكون حرّاً. جاء هذا خلال الحوار التالي:
العَّوام : حسون دخل الدنیا وخرج منها، كما یـدخل لـص بیتـا ویخـرج منـه ولا یشعر به أَهل البیت.
 ود السخي: لكنَّ حسون ود النعمان لم یحمل من الدنیا شیئا.
عبدالعاطي: لأَنه لم یجد في الدنیا شیئا.
رضوان : هذا الكون فسیح ولكن فیه أَشیاء صغیرة أَفسح منه.
 ود العالیــابي : صــدقت. الفكــر الحــر أَفــسح مــن الكــون، وفــي نفــس الوقــت یضیق ذرعاً به كل شيء في الكون.
 صبیر : ولهذا سافر حسون ود النعمان من وطنه.
ود العالیابي : ِالإنسان عظیم أَمام نفسه إذا صدق معها." (كي لا يستيقظ النمل: ص112/113).
والفكر الحر غالباً ما يواجه بالرفض والمقاومة . وهذه المقاومة تعكس، كما يشير عدد من المفكرين والفلاسفة،  ما يسمونه (أزمة العقل العربي!). واستخدامنا لمفردة (المقاومة) هنا تُفهم دلالاتها وتتضح بمقابلتها بمفهوم (التحديث).

 

 


ويأتي ذكر صفة الإبداع في إجابة دكتور (كتَكو) على سؤال ود الباشكاتب عما تبحث عنه  المخابرات  البريطانية في أوراق بروفيسور حسون:
المخــابرات البریطانَّیــة كانــت تعتقــد أَنَّ بروفیــسور حــسون قــد اختــرع شــیئا سیغیر خریطة أَشـیاء كثیـرة فـي أَذهـان العلمـاء. وان كَّنـا نعلـم أَنَّ بروفیـسور حسون قد أَحرز دكتـوراه فـي الكیمیـاء وأُخـرى فـي الفیزیـاء النووَّیـة؛ فیمكنـك بنفـسك أَن تخِّمـن ذاك الـشيء الكیِمـي ـــ فیزیـاِئي، الـذي لا أَقـول اكتـشفه بـل اخترعه بروفیسور حسون ، والذي سیغیر صورة العـالم أَو قـل سـیأتي بـصورة أُخرى للعالم .. صورة یتوقف علیها مصیر الكون كله...
بحــساب الــسنین عمــر بروفیــسور حــسون كــان قــصیراً، أَمــا بحـساب الاكتـشافات والاختراعـات فبروفیـسور حـسون مـا زال یعـیش وسـیظل یعیش إلى أَن یرفع الله العلم من الأَرض." (ص160/163).

أنّ عملية الخلق والإبداع لا تتأتى من فراغ فهي نتاج الذكاء وغزارة العلم أي المعرفة التراكمية التي تتيح الفحص وإعادة النظر في الظواهر، لأنّ المعرفة متطورة ومتجددة ومعروف أنه لا ثابت في العلم إلا التغير. لذلك يأتي الحديث عن نسبية الحقيقة العلمية كما يؤكد الفيلسوف الإنجليزي شارل بوبر.
 ويستلزم الإبداع أيضاً حسن التخطيط والتنظيم للافكار والخطوات المتبعة لتنفيذها، بالإضافة الى الحياد وعدم التمسك بالرأي. وهناك شرط أخر وهو النقد الذي لايقبل المسلمات والأمور على علاتها، وإنما يُنقّب ويبحث في أسباب الظواهر وخلخلة ما يرسخ في العقول من أوهام. ويجب الإشارة هنا إلى أهمية نقد الذات وتقبل النقد من الآخرين والسماع لآرائهم بموضوعية. والنقد بهذا الشكل يتطلب استيعابه وفهم دلالاته داخل الاطر الفلسفية التي وضعها إيمانويل كانط. فنقد الذات يعتبر خطوة أولى لنقد المجتمع كظاهرة من وجهة نظر فلسفية. وهكذا يفترض أن يبدأ الإنسان بنفسه كظاهرة لها أبعاد داخلية بما تستند عليه من فكر يحكم علاقاته مع الآخر وفكره، وأبعاد خارجية بما يرشح من سلوك.
 والجدير بالذكر هنا الصعوبة التي يواجهها هذا النوع الأخير من النقد فى مجتمعاتنا العربية. فإشكاله مزدوج: الأول يتمثل فى التربية الخاطئة والإعتداد الزائف بالرأي وعدم قبول الإنتقاد وإعتباره عداوة شخصية ووسيلة للنيل من الأشخاص أكثر منه آراء بناءة للتقويم والتقييم الذي تصب مصلحته فى التطوير والرقي الذي يعني تحضر المجتمعات. وهذا يظهر فى فقه الإخوانيات (واس البلاء فيه الشلة) المتبع فى مشاهد مختلفة ويعتبر هذا حالة عابرة. و الثاني، وهو الأهم، التركيز على الذات كظاهرة. فلابد من رؤية هذه الذات بشكل محايد ويجب أن يكون الإنسان آخر لذاته بمعنى أن يكون محايداً حتى يقرأ ذاته بموضوعية. فالنقد ليس هو وجهة النظر المعارضة ولكنه وجهة النظر المحلّلة التى تكشف طلاسم الظاهرة حتى تكون مهيئة للدراسة والتفكيك بشكل متأنى ودقيق. ثمّ يأتي شرط آخر وهو الحرية: الحرية على مستوى التفكير الإجتماعي وذلك بنقض المسلمات والعادات القديمة والمسكوت عنه. والحرية نفسها لديها مستصحبات وهى الوعي الإجتماعي القادر على الرفض وعدم الإستسلام والخضوع وتحمل النتائج: فإدخال النقد فى مجال اللاهوت من قبل إسبينوزا كان من الأهمية والخطورة بما أدى فى النهاية إلى إغتياله.
وإذا كان النقد إبداعاً فهو يشترط ذائقة نقدية وذهن مدرب بإمتلاك أدوات نقدية تستند على منهجية علمية موضوعية مناخها الأساسي هو الوعي والحرية، والوعي بهذه الحرية وقيمتها بغية محاربة المحاولات المستميتة للتنميط بخلق ذائقة مشتركة. وهكذا يكون النقد منهج مفتوح على المعرفة العلمية وعلى وعي جديد يكشف عن المعلوم والمجهول فى الفكر، مخالفاً أو متفقاً معه، ليؤسس لفكر جديد. وعليه لا يجب التعامل مع الفلسفة كبناء مذهبي لمفاهيم متعالية عن الفعل اليومي والحراك العام المتداول، بل هى النشاط العقلي الناقد للعقل نفسه مما يستلزم فهمها وإستيعابها على أنها نشاط دائم لتأسيس المعرفة من خلال أوجه النقد المختلفة. وهذا التداخل بين النقد والفلسفة هو الذي يتيح لنا تعميم النقد على سائر أنماط المعرفة، بما
يفضى إلى التطور والنمو والإستمرارية.  
نأتي الآن للشق الثاني من موضوع المقال وهو ثقافة العالِم، فهي تعني المعرفة الغزيرة والمنظمة وكذلك الإنفتاح على العلوم الأخرى في إطار العلاقات البينية للتخصصات.  والمثقف هو من يتذوق الفن والادب ليرهف حسه وشعوره وبالتالي إنسانيته.
وثقافة العالِم تعني انفتاحه على ثقافة الآخر واحترام الرأي والرأي الآخر. وذكرنا أنّ الحرية في التعبير هي شرط الإزدهار والتطور وإذا فُقدت فأننا نواجَه بأزمة ما يعرف بعلاقة الثقافة والسلطة بسبب أنّ الثقافة في مجتمعاتنا العربية عموماً يُسند أمرها إلى أشخاص يتعمدون تهميشها وإضعافها وفقأً للآيديولوجيات المختلفة المسيطرة. والسلطة التي نعنيها هي بمعناها المطلق أي سلطة العرف، وسلطة الدين، وسلطة الحكومات. وإذن المشكلة الرئيسة التي تواجهها الثقافة هي مشكلة السلطة وليس العلم. فالتغيير يستلزم التفكير والإهتمام بنوع العقل الذي يراد تشكيله وتكوينه في مجتمعاتنا.
ويجب على المثقف أن يركّز على اللغة لأنه بسبب غناها ومرونتها نجد فيها الدوكسا والتقليد والآيدولوجيا، وهي في نفس الوقت وسيلته لمقاومة هذه السلطات. فيجدر بنا في مؤسساتنا الأكاديمية تعزيز فرص الدراسات اللغوية وتطويرها من وجهة النظر الدلالية والتداولية بدلاً عن التركيز على الدراسات النحوية. فواقع الممارسة اللغوية يتجاوز، بدون شك، القاعدة النحوية. فصياغة الافكار لا تعني فقط بناء الجمل بصورة واضحة، سهلة الفهم وترتيبها بصورة متدرجة تُصيغ الفكرة وفقاً للجملة المفتاحية، وإنما تعني أيضاً معرفة الوظيفة التداولية التي تلعبها أدوات الربط في صياغة الحجج المعبر عنها. فاستخدام (بس) مثلاً في (تسقط بس!) لاتعني (فقط)، وفقاً لسياق استخدامها، بأي حال من الأحوال.  
يقال أنّ الثورات تبدأ بعد الثورة، وهذا ما أمنّ عليه ثوار ديسمبر بقولهم (حنبنيهو) في إصرار لتغيير الواقع الذي عاشوه وورثوه، والذي نظن أنّ من أولوياته تغيير الواقع الفكري والثقافي.