د.عبد الغفار الحسن محمد/جامعة وادي النيل /تخصص الأدب والنقد

أ.د.عبد الغفار الحسن محمد/جامعة وادي النيل /تخصص الأدب والنقد مقدمة: تسعى هذه الدراسة لتحقيق غايتين الأولى: تبيين أهمية الثنائيات الضدية في تفعيل النص الروائي الذي نحن بصدد دراسته(أزمنة الترحال والعودة) وفي إضفائها حيوية وحركية عليه ،ودورها في الإقناع والتأثير وإنتاج الدلالة. وما تقدمه الثنائيات من دهشة ومفاجئة ،وما تقوم به من ربط بين المتناقضين وتفاعل بينهما وتناسب بين المعانى رغم الضدية.

د.عبد الغفار الحسن محمد/جامعة وادي النيل /تخصص الأدب والنقد

بسم الله الرحمن الرحيم

الثنائيات الضدية والوعي التاريخي في رواية أزمنة الترحال والعودة للحسن محمد سعيد

أ.د.عبد الغفار الحسن محمد/جامعة وادي النيل /تخصص الأدب والنقد

    مقدمة:

        تسعى هذه الدراسة لتحقيق غايتين الأولى: تبيين أهمية  الثنائيات الضدية في تفعيل النص الروائي الذي نحن بصدد دراسته(أزمنة الترحال والعودة) وفي إضفائها حيوية وحركية عليه ،ودورها في الإقناع والتأثير وإنتاج الدلالة. وما تقدمه الثنائيات من دهشة ومفاجئة ،وما تقوم به من ربط بين المتناقضين وتفاعل بينهما وتناسب بين المعانى رغم الضدية.

            وهي تقوم على فرضية أن الكاتب بنى الصراع في هذه الرواية اعتمادا على هذه الثنائيات والمفارقات التي من خلالها تتضح رؤية الكاتب ،ومن خلال المقاربة بين الواقع التاريخ.واستحضار التاريخ لإبراز قضية من القضايا التي تلح على شخصياته في واقعها المعيش.

       أما الغاية الثانية :فهي تبيين أهمية وعي الكاتب بالتاريخ وتوظيفه بما يخدم فلسفته في الحياة والصراع ويعضد مواقفه الثقافية والسياسية والأيدولوجية. فالفرضية التي ننطلق منها تدعي إفادة هذه الرواية من تطور الوعي التاريخي ،لا سيما أنها وهي تستحضر التاريخ وتلجأ إلى مفاهيمه فتجري عليها ضروبا من التعديل الفني ؛لتكون ملائمة للطبيعة الفنية للعمل الروائي.

          وستقوم دراستنا لهذه الجزئية المتعلقة بالوعي التاريخي بطريقة مرتبطة بالثنائيات الضدية ،من خلال الوقوف على بعض الثنائيات التي تبين ملامح الوعي التاريخي، وتتمثل في استيعاب المتضادات التاريخية في الرواية الواحدة.لا سيما في الربط بين انعكاسات التاريخ الماضي بإزاء مآلات الحاضر.

         أما الإشكالية الأساسية لهذه الدراسة فتتمثل في الإجابة عن السؤال التالي:هل استطاع الكاتب أن يوظف الثنائيات الضدية بطريقة إجرائية تهدف لإبراز تناقضات ومفارقات واقعنا السياسي والثقافي والاجتماعي في السودان ،وموقفنا من الآخر، ومن التاريخ؟

           أما المنهج: فقد اتبعت الدراسة المنهج الوصفي.

         أما الدراسات السابقة: فلم يعثر الباحث على بحوث منشورة حول دراسة هذه الرواية ،ولكنه بالطبع أفاد من عدة بحوث ودراسات عن الثنائيات الضدية سواء في الشعر العربي القديم ،أو غيره مما جعل الباحث يفيد من هذه الدراسات في المدخل النظري لهذه الدراسة .

         ويتكون هذا المقال من مدخل نظري ،ودراسة تطبيقية للثنائيات الضدية في هذه الرواية موضوع البحث .وختمت البحث بخاتمة تبين أهم نتائجه ؛ من أهم النتائج:

        استطاع الكاتب أن يتخذ من الثنائيات الضدية وسيلة إجرائية؛ ليعكس من خلالها مظاهر التضاد والمفارقة في بعض الجوانب الحياة السياسية والثقافية في السودان. رابطا بين الواقع الماثل الحاضر في حياتنا السياسية والاجتماعية، وعلاقتنا بالآخر، ببعض الأحداث التاريخية الحقيقية والمتخيلة ، والتي برز من خلالها وعي الكاتب بالتاريخ وتوظيفه بما يعبر عن واقع ما نحن فيه من صراع سياسي وثقافي وأيدولوجي .

 

 

 

مدخل:

         الثنائيات الضدية:

            يعرف المعجم الفلسفي " الثنائيات" بقوله : " الثنائي من الأشياء ما كان ذا شّقين ،والثنائية هي القول بزوجية المبادئ المفسرة للكون ، كثنائية الأضداد وتعاقبها ..." [ صليبا ،د.ت،ص 379] . ويعرف أبو هلال العسكري المتضادين بقوله : " المتضادان هما اللذان ينتفي أحدهما عند وجود صاحبه إذا كان وجود هذا على الوجه الذي يوجد عليه ذلك كالسواد والبياض "(العسكري،د.ت،ص164). و الضدان يتعاقبان في موضوع واحد يستحيل اجتماعهما (انظر الجرجاني ،1985م،ص124) .

        وعليه فالثنائية الضدية هما زوجان متعاكسان . و يكون هذان الزوجان ماديين كالطويل والقصير ... أو معنويين كالفرح والحزن ...والثنائية الضدية تشكّل في الكلام شقين متعاكسين ، لا يجتمعان في شيء واحد .

         وتعدّ فرضية الثنائية من الموضوعات التي أثارت دهشة الإنسان في مسيرة تاريخ الفكر البشري، فثمة طرفا ثنائية متضادان في الكون، مثل:موت/حياة ،خير/ شر،نور/ ظلام ،سواد/بياض،زيادة/ نقصان، ذكر/ أنثى، سلب/ إيجاب... ويرى بعضهم أن هذه الأضداد تقوم على صراع أبدي بعضها مع بعض ويرون أن هذا الصراع مصدر الخلق، والتوليد؛ لاستمرار الحياة. وهكذا فالتقابل بين هذه الثنائيات الضدية "من الأسس التي يقوم عليها الوجود،فهو يملأ الحياة حولنا ويجعلها تستمر وتبقى ولولاه لفقدت معناها "(الواسطي 2003م،ص234)

           وتُظهر الثنائية منظومة فكرية فلسفية حياتية متكاملة، تتجاوز الجمع المباشر، والسطحي بين طرفين.هذان الطرفان تربطهما رابطة هي رابطة التضاد؛ ويبنى على أساسها الإيقاعُ الثنائيّ للعالم، وبنيته؛ لأنه مرتبط بالثنائية حيث التضاد، والتوازي، وكلّ طرف من طرفي الثنائية يسوّغ وجود الآخر. "فحقيقة الوجود تنطوي على تقابل دائم بين طرفين، لكلّ منهما قوانينه الخاصة"(الديوب،2017م،ص16). وهذا ما يبرر قيمة دراستها في النص الروائي الذي يقوم على الصراع.

                وتُعدُّ الثُّنائيَّات مرتكزاً  أساسيًّا من مرتكزات التَّحليل البنائيِّ النَّقديِّ للنُّصوص الأدبيَّة، يؤدِّي الكشف عنها للوصول إلى البنية المتحكِّمة في النَّصِّ. إذ لا تتمُّ معرفة الأشياء في ضوء معرفة خصائصها الأساسيَّة فقط، وإنَّما يتمُّ ذلك في ضوء تمايزها، فالكلمة ليست لها معنى في ذاتها، بل معناها يكمن في وجود ضدها ، الأمر الذي جعل سوسير ينظر إلى اللُّغة على أنَّها نظام من الاختلافات(الغذامي،1985م،ص30).

            وهذا التَّصوُّر انطلقت منه البنيويَّة، إذ أخذت في ضوئه تنظر إلى العالم على أنَّه "مجموعة من الثُّنائيَّات المتشابكة والمتقابلة، تنعكس على شبكة العلاقات، فتحيلها إلى مجموعة من الثُّنائيَّات الخالصة".(عبدالمطلب،2020م،ص149).

 

 

       وبناء عليه فتعتبر الثنائيات من أبرز الآليات الإجرائية لمقاربة النصوص ،وبيان مدى استثمارها وتوظيفها من قبل النقد المعاصر على مختلف النصوص الشعرية منها والنثرية. فهناك " مساحة غير قليلة من خيوط الصراع الفكري والنفسي في الأعمال الأدبية الحديثة في فنون الشعر والقصة والمسرحية تقوم على تقابل المواقف والأفكار والخطط، أو التضاد بين الداخل والخارج " ( السيد،د.ت،ص221).

         الوعي التاريخي:

            أما الوعي التاريخي الذي أفادت منه الرواية يقرأ من زوايا عدة: من ذلك تحديد (غاداماير) الوظيفة التاريخية أو الوعي النقدي للتاريخ بأن:"قراءة وتأويل لهذه الآثار ليعبر في الواقع عن حيوية وتجديد التراث ،ونشاط التاريخ الإيجابي والفاعل في إعطائه صيغة دينامية وحركية وإمكانات تطبيق الحقائق المكتشفة (والمنتجة أيضا) في تاريخ التراث وتراث التاريخ، عن اللحظة الراهنة (لحظة التساؤل أو المساءلة).

       كما أن الوعي التاريخي يوازي عنده الفهم التأويلي للتاريخ الذي هو إجراء وساطة بين الحاضر والماضي، وتطوير في تراث كل السلسلة المرتبطة بالمنظورات التي يحضر عبرها الماضي ويتوجه إلينا"( غادامير،2006م، ص21).

        كما شرح بول ريكور مفهوم الوعي التاريخي عند غاداماير بأنه حرفيا:"وعي تاريخ المؤثرات الذي لم يعد يتعلق بالمنهجية أو بالبحث التاريخي، بل بالوعي التأملي لهذه المنهجية :إنه وعي أن تكون معرضا للتاريخ ولفعله."(ريكور2007م،ص67).

            ولعل هذا يحيلنا مباشرة إلى القول بأن الوعي التاريخي مرتبط بفلسفة التاريخ ،ومرتبط بثقافة الكاتب. والكاتب المثقف وحده من يستطيع أن يوظف التاريخ لصالح مواقفه الثقافية والسياسية والأيدولوجية داخل النص ،دون أن يغير حقائق التاريخ ،ولكنه يجيد التقاط اللحظة التاريخية التي يستثمرها؛ لعبر من خلالها عن فكره. وهذا ما فعله الحسن محمد سعيد في متن هذا النص الروائي"أزمنة الترحال والعودة" فهي ليس نصا لرواية تاريخية بقدر ما هو نص يعكس ثقافة الكاتب ووعيه وتفسيره للتاريخ؛ بما يحقق رؤيته الروائية ودلالة نصه الإبداعي .وقدرته على أن يقنعنا من خلال حضور الموقف التاريخي بصحة استنتاجاته من التاريخ.

           فهذه الرواية تقوم على الثنائية بين زمانين متضادين من حيث القيمة والتأثير ،وليس من حيث المدة الزمنية نفسها ،زمان جميل ،يقابله زمان قبيح.والجمال والقبح يرتبطان بمجموعة من القيم المركوزة في نفس السارد وشخصيته المحورية (معروف).

        

الثنائيات الضدية  والوعي التاريخي في الرواية:

           لا يخفى على قارئ هذه الرواية أنها اعتمدت منذ عتبتها الأولى (العنوان) على عنصرين أساسيين وهما عنصر الثنائية الضدية ،وعنصر الوعي التاريخي.

          ولقد تجلى العنصر الأول في المفارقة البائنة بين أزمنة الترحال وأزمنة العودة. كما تجلى الوعي بالتاريخ في ربط مفهوم الترحال والعودة وهو مفهوم يحيل إلى المكان ،ولكنه لا ينفك عن الزمان أيضا فالترحال والعودة كلاهما مرتبطان بأزمنة لا بد لها ان تستدعي التاريخي ،وطبيعة التاريخ في هذه الرواية لا يقوم على السرد التاريخي المباشر لأحداث الماضي الحقيقية فقط ،بل يخلط ذلك ببعض التخيل لأحداث أخرى يدعي أنها وقعت أيضا ،كما تجلى الوعي التاريخي في توظيف أحداث تاريخية بعينها وعرضها بطريقة موحية بالمفارقة والثنائية، مما يعزز لدى القارئ روح التأمل والاستنتاج ويؤثر فيه بطريقة دينامية وحركية أكثر من سرد التاريخ بطريقة مباشرة وشمولية.

            فقد ربط السارد بين حالة الوعي الذي يتمتع به معروف ومجموعة من زملائه الذين تتلمذوا على يد أستاذهم شعيب والذي تعلموا منه مفهوم الوطن والوحدة الوطنية والتنوع الذي يتمتع به السودان والذي لا يصلح معه إلا الأوضاع الديمقراطية والحرية السياسية ،وقد تغذت هذه الروح لدى ذلك الجيل الذي عاصر ثورة أكتوبر 1996م.

            وقد جاءت الصدمة لهذا الجيل عندما حدث انقلاب مايو 1969م،وكانت معارضة معروف لمفهوم العسكرية والشمولية وأنها لا تصلح كبديل للدولة المدنية الديمقراطية ،وكان هذا سببا كافيا لإثارة الحرب ضده وفصله من عمله ،ومن ثم دافعه إلى الهجرة.ومن هنا يبدأ الصراع القائم في الرواية بين زمانين زمان الحريات والديمقراطيات مقابل أزمنة الديكتاتوريات والشموليات العسكرية.

           وهذه الرواية تقوم على الثنائية الضدية في عدة تجليات لها منها:

  • ثنائية الموت والحياة: لعل أول عتبة للنص بعد العنوان تعبر بوضوح عن هذه الثنائية ثنائية الموت والحياة ،حيث كان مفتتح الرواية بخبر عن موت شعيب هذا الموت الذي انقسم الناس حول مصدق به ومكذب له"ما شهدت الخرطوم تضاربا متناقضا في خبر ما كما شهدت تضاربا وتناقضا في خبر موته.ما أن يعلن خبر موته حتى تتسابق الأخبار المضادة نافية لذلك مؤكدة أنه لا يزال على قيد الحياة ..كأن الدنيا في السودان تحولت وانقسمت إلى فريقين متنافسين ومتصارعين أحدهما يعمل على وفاته والآخر يعمل على بقائه حيا..في لحظة قدرية وشعيب يتمدد على فراش المرض في مستشفى الخرطوم ،تركز الاهتمام كله في تلك اللحظة ،وكأن حياة الرجل ترتبط بحياة كل إنسان ،سلبا أو إيجابا،فريق يتمنى موته ،وفريق يرجو له الحياة..."(سعيد2005م، ص7)

        عمل الكاتب على توظيف هذه الثنائية لخلق الصراع منذ البداية بين فريقين من الناس حول شخص شد الانتباه إليه بإخفاء اسمه والإحالة إليه بضمير الغائب، إحالة بعدية ذكره بعد عدة جمل. ثناية خبر الوفاة لشعيب الذي بهذا المدخل تحول من كونه إحدى شخصيات الروايات فحسب إلى كونه شخصية رمزوية ذات ملامح أسطورية جعلت العالم كله يناول اخباره ويعبر عن إحساسه بوجوده المميز وتجلت هذه الثنائيات  في الفقرة السابقة في عدة جمل منها:

- ما أن يعلن خبر موته حتى تتسابق الأخبار المضادة نافية لذلك مؤكدة أنه لا يزال على قيد الحياة.

- كأن الدنيا في السودان تحولت وانقسمت إلى فريقين متنافسين ومتصارعين أحدهما يعمل على وفاته والآخر يعمل على بقائه حيا..

- وكأن حياة الرجل ترتبط بحياة كل إنسان ،سلبا أو إيجابا.

- فريق يتمنى موته ،وفريق يرجو له الحياة.

            مهما يكن لا يمكن أن ينقسم الناس بهذه الثنائية في أمر موت إنسان مهما كان ،وهذا يرشح أن شعيب ليس مجرد شخصية وإنما هو شيء ينقسم كل الناس حوله سلبا وإيجابا ....فريق يعمل (الحظ معي كلمة يعمل) على موته ،والفريق الثاني يعمل على حياته. فشعيب رمز للسودان/الوطن نفسه،وما يشير إلى ذلك أيضا الفقرة التالية عندما تناول الإعلام خبر موته:

       " وفي غفلة الجميع كانت أخبار (شعيب) تجوب الأصقاع،وتعزف لحنا بأوتارالشرق،وعطوره المضمخة بطيب الأوراد الصوفية ،والوجد الهائم في الغيبيات ،فتصنع منه الأسطورة لتكون متكا لكل مكدود هدته هذه الأزمنة التي لا قلب لها." (سعيد2005م، ص8).

       فالفقرة السابقة تشير إلى الهوية السودانية الجامعة أكثر من إشارتها إلى شخص بعينه، شخصية تنهض موازية تماما لثقافة الغرب،بحيث تصبح سيرته متكأ لكل مكدود هدته هذه الأزمنة التي لا قلب لها،ولعله يشير إلى أزمنة الهجرة والترحال بعيدا عن حضن هذا الوطن الذي استحضره."

       يمكننا أن نلجأ إلى هذا النوع في النظر للغة النص الأدبي لأن"النص الأدبي بنية لغوية معقدة تتشابك فيه العلاقات شكلا ومضمونا وتتضافر لتقدم نصا عميقا ، تتنوع فيه القراءات ، و تكثر التأويلات . ذلك لأن الإبداع يتنافى مع البساطة والسطحية ، ويتما شى مع العمق والثراء فيكون بالتالي فعالا في القارئ محركا له ... ومن آليات هذا البناء الثنائيات القائمة على التضاد.(مسعود،2015م،ص163).

  • الثنائية بين الزمن الماضي والزمن الحاضر:

1 – الزمن الماضي: أزمنة الحرية والديمقراطية وهوالزمن الجميل:الذي يمثل  فترة ما قبل مايو1969م والتي شهدت فترة الديمقراطية بعد ثورة1964 م،وهذا يمثل زمان الجمال لما اتسم به من إعلاء لقيم الحرية والديمقراطية وبناء مفهوم المواطنة الذي لا يميز أحدا ولا يستثني أحد.مفهوم إدارة التنوع والاختلاف بنظم ديمقراطية تعلي من شأن الإنسان ،أيا كان جنسه أو لونه.وقد جسد هذا الزمان وربطه بشخصية لها حضورها اللافت مقترنا بهذا الزمان وقيمه وهي شخصية (شعيب).

2- الزمن الحاضر (ويقصد به زمان الرواية منذ ثورة مايو1969م وحتى تاريخ العودة، وهو غير محدد ولكنه يوحي بزمان ثورة الإنقاذ الوطني) وهذا الزمان اتسم بالقبح وهو زمان مضاد للزمان الأول من حيث مجموعة القيم السيايسة والثقافية، فهو نظام عسكري شمولي أحادي لا يصلح لإدارة التنوع والاختلاف ،كما أنه يصادر الحرية ويكسر أقلام المثقفين أصحاب المباديء (شخصية معروف مثلا).

  • ثنائية الوطن والغربة:

            الوطن :يتسم بالضيق والانغلاق بسبب الأوضاع السياسية الجائرة التي تكمم الأفواه وتحيل آلاف المثقفين للفصل التعسفي ،بينما أوجد النظام الحاكم مجموعة من الانتهازيين والنفعيين الذين يدافعون عن هذه القيم؛ لأسباب لا تمت للقيم الوطنية ،وإنما من أجل مصالح شخصية ذاتية.في هذا الجو يشعر أصحاب المبادي والقيم بالاختناق والضيق ،فيهربون خارج أسوار الوطن حفاظا على مبادئهم وحبا لوطنهم، فمن الممكن أن يجاروا الأوضاع ،ويكسبوا رضى السلطة ،ولكن حنينئذ يخسر الوطن.فيختارون الترحال والاغتراب في فضاءات جديدة تتحقق فيها القيم التي طالما تمنوا وجودها في أوطانهم ،بلاد الفرنجة حيث قيم الحرية والديمقراطية ،واحترام الإنسان .فالغربة تتسم: بالانطلاق والانفتاح .

          ومما يكشف عن الثنائية أيضا في هذا الجانب: حياة معروف مع (جيني في لاجوس)مقابل حياته مع أصدقائه في حي أبي روف بأم درمان:" كان يظن أنه يعيش حياته إلى أن جاءته جيني فعرفته أن حياته وجود فقط، لا ينال منها إلا القليل، ولا يدرك كيف يعيش دنياه".( سعيد2005م،  ص98).

هـ. الثنائية في موقفنا من مصر أهي دولة شقيقة أم دولة مستعمرة ؟ ونستشف ذلك من خلال ذلك الحوار الطويل بين معروف وأستاذه شعيب ،موقف شعيب الذي يرى أن مصر لم تكن مستعمرة لنا إلا مجازا ،وقد تم استغلال اسمها فقط،وأن الأجنبي هو الذي يحكم وليس مصر،وأن كراهية مصر كرس لها الإنجليز وأن مصر لها أفضال على السودانين في التعليم والثقافة والتنوير...( سعيد2005م،  ص124-129)،ويردد مع الشاعر تاج السر الحسن قصيدته:

             مصر يا أخت بلادي ياشقيقة

            كذلك تتجلى هذه الثنائية في موقف السودانيين من مصر في ذكر شعيب لحرب النكسة 1967م والهزيمة والانكسار الذي تعرض له العرب، في مقابل ذلك استقبال الشعب السوداني لجمال عبد الناصر بتاريخ 29/7/1967م"كان موكبا رهيبا ومهيبا امتد طول الحشود من المطار الى القصر الجمهوري،يومها قالت الصحف الأجنبية لأول مرة في التاريخ يستقبل شعب قائدا مهزوما فسماها عبد الناصر وقتئذ عاصمة الصمود(سعيد2005م،  ص128-129) لعل الوعي بالتاريخ وتوظيفه تجلى في اختيار السارد لهذه الجزئية التي تحوي مفارقة واضحة معبرة عن الثنائية وهي الاستقبال الحاشد لقائد مهزوم ،مما يثير حالة من التفاؤل لدي القارئ والإيمان بأن المعركة ما زالت مستمرة وأن الروح لم تهزم بعد، ولذلك سماها عبد الناصر عاصمة الصمود.

   و.  الثنائية بين الغرب والشرق:  والمتمثلة في الإعجاب بالغرب في وقته الراهن والتغني بما فيه من قيم الحرية والعدالة والديمقراطية والهروب إليه،مقابل تحميل هذا الغرب (الإنجليز)المسؤولية التاريخية لما نحن فيه من تفرقة عنصرية وتأمر ضد مصالحنا الوطنية ومع مصروقضية الوحدة معها تاريخيا ،نستشف ذلك من خلال هذا الحوار بين معروف وشعيب والذي استحضره الكاتب لتنه الروائي عن طريق تقنية الاسترجاع:

-معنى كلامك هذا أن عداء المهدي لمصر فرية تاريخية.

-نعم هي كذلك وقد روج لها الإنجليز كثيرا،حتى صدقناها وبنينا عليها نتائج كثيرة قادت إلى اضطرابنا وإلى ثنائيتنا.( سعيد2005م، ص127)

          الحاضر الذي تمثل في( جيني ووالدها روبرسون )باعتبار أنهما لا يمثلان هذا الجانب السيء في علاقتنا بالغرب،بل يمثلان موقفا نقيضا لذلك تجلى في حب السودان وثقافته وتعدده حسب كلام السارد:"إيه يا...وياجيني بلدك مسؤول عما جرى ويجري في الوطن ،بلدك مسؤول ايضا عن التآمر ،وفي أحداث النكسة 1967 ومع ذلك فإن أمانة الحكي ،وواجب الصدق في الشهادة تلزمانه بأن يقول أخلاقيا تجاهك ونتجاه والدك العالم الجليل...فأنتما لم تكنا صراعا وتصادما لشرق وغرب وإنما كنتما تلاقحا وتزاوجا وتاثرا وتاثرا لعطاء جديد لن تكون العودة إلا به "( سعيد2005م،  ص 129-130).

                فالجزئية الأولى من هذا النص تؤكد على وعي الكاتب لأحداث التاريخ وتوظيفها لإبراز حالة المفارقة بين الشرق و الغرب،يبين من خلاله الموقف من الإنجليز وأياديهم القذرة في واقعنا السياسي المأزوم. بينما يصنع بخياله التاريخي شخصيات لا وجود لها في الواقع التاريخي ولكن صنعها بخياله ليحدث من خلالها التوازي بين موقفين من الإنسان الغربي:وذلك حين يبرئ جيني ووالدها من هذا الجرم، لأنهما بالنسبة لمعروف يمثلان مثالا حاضرا لرقي الإنسان الغربي وعلمه وثقافته .وأنهما ليس جزءا من الصراع بين الشرق والغرب.

          وقد يفطن الدارس إلى وعي الكاتب بالهوية الثقافية للسودان عندما يصف معروف الشعب السوداني بأنه  شعب متصوف ،متسامح ولا يعرف التطرف يأخذ من الدنيا جانبا ومن الآخرة جانبا ،ويمزجهما معا في سلوكه، ليخرج في النهاية بهذه الخلطة السودانية (انظر: سعيد2005م، ص81).

           وهذه المفارقة تكشف عن تمايز السوداني حتى عن بقية العرب ،فضلا عن الغرب ،فهو يمتلك خصائص تفرد لا توجد في غيره.وقد استعان الكاتب في بيان ذلك بما نستطيع أن نسميه الوعي بالتاريخ الثقافي للسودان.

        ز.  والثنائية في الهوية :

        1- اللون الأبيض مقابل الأسود،والعروبة والزنوجة، وتداخل الألسنة واللهجات: فمعروف السوداني يعي دوما هذه المفارقة عندما يخرج خارج أسوار الوطن فينهض اللون حاجزا بينه وبين المجتمعات التي يقتحمها ، تنبه لمسألة اللون في علاقته بكل من جيني وروميو وسف فيقول معرفا نفسه بروميو في رحلته إلى النرويج:"اسمي معروف من بلد في قلب أفريقيا اسمه السودان خليط من العروبة والزنوجة هجين من السواد والسمرة الفاتحة والداكنة تزاوج بين الألوان تداخل في الألسنة بين اللغات واللهجات..تدمغ الثنائية واقعي وتاريخي..."( سعيد2005م، ص153-154) ويزيد الراوي من تعميق الحديث عن الهوية الثقافية على لسان روميو عندما يقول لمعروف:" ...بل أنتم أرض الخيال البكر ،لكل من يريد أن يرى ويعيش في عالم الأساطير والغيبيات والتجريد ..ففي لوحاتك شيء يفصح عن هذا بسهولة."( سعيد2005م، ص154) وفي هذا النص ثنائية مع نص غائب يشير إليه الكاتب عن ثقافة الغرب الحديثة التي تعتمد فلسفة عقلية جافة بعيدة عن الغيبيات والأساطير ،مما يجعل من المجتمع السوداني والأفريقي يقابل ويوازي للمجتمع الأوربي الذي يعيش في عصر فلسفة الأنوار.

2 .  في الثقافة:

            على سبيل المثال،المفارقة والثنائية حول رسالة معروف التي كتبها لأستاذه شعيب من نيحيريا عن تلميذته وصديقته(جيني) يختلط فيها فن القصة مع السيرة الذاتية مع المقال .فأعجب بها شعيب ونشرها فتباينت حولها الافكار بين مؤيد ومعارض."مؤيد ستخلص منه قيمة فنية رفيعة،ومعارض يرى فيه ابتذالا للأخلاق وتجديا للمبادئ الاسلامية ومجاهرة لما يجرح الحياة والعادات والتقاليد."( سعيد2005م، ص106).

           تجلت الثنائية في إبراز الكاتب للثنايئة الضدية في موقفنا من بعض القيم الاجتماعية الغربية المتعلقة مثلا بالجنس ،واعتبارالسارد أن الثقافة الغربية أفضل من ثقافتنا التي يشير إلى أنها مليئة بالعقد الاجتماعية ،ولو أبرز السارد هذه النقطة بطريقة أخرى لكان أفضل من وجهة نظري ،إذ أننا نحن أصحاب ثقافة حقيقية لا تقوم على العقد في مسائل الجنس ،وإنما تخضع لمجموعة من القيم الإسلامية وثقافة التحريم ،التي تجرم ممارسة الجنس خارج أسوار مؤسسة الزوجية. كان حينئذ سينتصر لثقافتنا على الأقل انتصارا قيميا، طالما تفوق علينا الغرب في جوانب علمية وحضارية أخرى.فالإشارة إلى تخلفنا مقابل تفوق الغرب الأجدر به الجوانب الأخرى غير المرتبطة بمنظومة القيم الخلقية والدينية.وفالغرب يغايرنا خلقيا نعم،ولكن ذلك الاختلاف والمغايرة لا يضعهم في خانة التفوق علينا في مثل هذه القضايا الخلقية(الجنس وشرب الخمرمثلا). فالأمم تبحث عما يميز وجودها من خلال الاشتغال على عناصر المفارقة بينها وبين غيرها من الأمم، في منظومة القيم والعادات والتقاليد ،إذن دعونا نقول بأن كل شيء يخضع لقانون النسبية فلا نقلل من شأننا ولا نرفع من شأن أحد بسبب ثقافته.

              تجدر الإشارة هنا إلى قيمة الكرم العربي الأصيل وهو قيمة عربية وشرقية افتقدها معروف في الغرب ، ولكنه وجدها عند النرويجي روميو مما جعل معروف يحتفل بهذه القيمة عنده .

        أخيرا يمكننا القول إن هذه الثنائيات الضدية تعمل على تماسك النص وترابطه،وتشد العناصر المتصارعة فيه إلى بعضها البعض وتبرز الجوانب الوجودية التي يكون حولها الخلاف والتأمل عند كل المبدعين وفي شتى العصور: قضايا الموت والحياة والماضي والحاضر والحب والكره ،التدين والإلحاد ،الشرق والغرب وغيرها من عناصر التضاد التي تمحور حولها الإبداع شعرا ونثرا.

         وعلاقة الضدية لا تعني الانفصال والتباعد . فالضد لا يمنع الصلة والرابط بين المعنيين، بل يزيد في جمال الكلام والتنبيه إليه ، وفي تماسكه وتآلفه . ومن ثم فالضد يشكّل تناسبا ، والتناسب مظهر من مظاهر التماسك النصي ، " فكل نسق يقف مقابل نسق آخر تضادا و تشاكلا لينتهي إلى التآلف والتكامل والتناغم في وحدة منسجمة "(جمعة، ص154)

        الخاتمة:

            استطاع الكاتب أن يتخذ من الثنائيات الضدية وسيلة إجرائية؛ ليعكس من خلالها مظاهر التضاد والمفارقة في بعض الجوانب الحياة السياسية والثقافية في السودان. رابطا بين الواقع الماثل الحاضر في حياتنا السياسية والاجتماعية، وعلاقتنا بالآخر، ببعض الأحداث التاريخية الحقيقية والمتخيلة ، والتي برز من خلالها وعي الكاتب بالتاريخ وتوظيفه بما يعبر عن واقع ما نحن فيه من صراع سياسي وثقافي وأيدولوجي .

           وقد برز من خلال هذه الدراسة الدور الكبير للثنائيات الضدية في التعبير ، وفي تحقيق جمالية النص الروائي وتفعيله ؛ من خلال قدرة الكاتب على الربط بين المتناقضات واستحضارها داخل متنه الروائي ، و قدرته على إظهار المفارقة الشاسعة بينها ، وكشف حقائق الأشياء ، والتنبه إليها ...  ومحاورة القارئ بغية إقناعه ، مما أسهِم في إنتاج الدلالة وتوضيحها وتقريبها إلى الأذهان ، كما استطاع أن يكشف عن أنواع مغايرة من الحياة والسلوك داخل مجتمعات الرواية؛ فكشف من خلال ذلك عن جمال مغاير وحياة مغايرة  تثير النفس وتؤثر فيها ، كما استطاعت هذه الثنائيات أن تحقق نوعا من التماسك والانسجام بين أجزاء النص، وتشد العناصر المتصارعة فيه إلى بعضها البعض، وتبرز الجوانب الوجودية التي يكون حولها الخلاف والتأمل عند كل المبدعين وفي شتى العصور: قضايا الموت والحياة والماضي والحاضر والحب والكره ،التدين والإلحاد ،الشرق والغرب وغيرها من عناصر التضاد التي تمحور حولها الإبداع شعرا ونثرا.... وهي بهذا استطاعت أن تجمع بين الإمتاع والإقناع .

المراجع:

  1. الجرجاني ، علي بن محمد الشريف :التعريفات ، مكتبة لبنان ، بيروت ، د ط ، 1985م
  2. جمعة،حسين التقابل الجمالي في النص القرآني( دراسة جمالية فكرية وأسلوبية). 2005 م منشورات دارالنمير ، دمشق ،ط1
  3. الديوب،سمر: الثنائيات الضدّية: بحث في المصطلح ودلالته،المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية،العتبة العباسية المقدسة الطبعة: الأولى 2017 م

 

  1. ريكور،بول:من النص إلى الفعل،أبحاث في التأويل،ترحمة محمد برادة وحسن بورقية،مركز عين للبحوث والدراسات الإنسانية والاجتماعية ،مصر،ط1 ،2001م
  2. السيد ،شفيع: البحث البلاغي عند العرب تأصيل وتقييم ، دار الفكر العربي ، القاهرة،( د ت).
  3. صليبا،جميل: المعجم الفلسفي ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، د ت ، ج1
  4. عبد المطلب ،محمد:بناء الأسلوب في شعر الحداثة، منشوارت عالم الكتب، إربد، 2020 م.
  5. العسكري ،أبو هلال: الفروق اللغوية ، تحقيق أبي عمرو عماد زكي الباروي ، المكتبة التوفيقية ، سيدنا الحسين ، مصر ، د ط ، د ت.
  6. غادامير،هانس غيورغ،فلسفة التأويل:الأصول المبادئ الأهداف، ترجمة محمد شوقي الزين،منشورات الاختلاف المركز الثقافي العربي ط2، 2006م
  7. الغذاميّ، عبد الله محمد :الخطيئة والتَّكفير من البنيوية إلى التشريحية قراءة نقدية لنموذج إنساني معاصر، منشوارت النادي الأدبي الثقافي، السعودية، 1985 م.
  8. مسعود،علي زيتونة:الثنائيات الضدية في لغة النص الأدبي بين التوظيف الفني والذوق الجمالي،مجلة العلوم العربية وآدابها ،العدد 7،جامعة الوادي، الجزائر،2015م
  9. الواسطي ،محمد: ظاهرة البديع عند الشعراء المحدثين ، دراسة بلاغية نقدية ، دار نشر المعرفة ، الرباط ، المغرب ، ط1، 2003م