دراسة في ديوان عبد الله جلاب الجديد وتأتي السماء راجلة

دراسة في ديوان عبد الله جلاب الجديد وتأتي السماء راجلة عز الدين ميرغني يعتبر الشاعر عبد الله جلاب , من شعراء ما بعد الاستقلال في السودان . وهو جيل تبنى تقنية ما يسمى بشعر التفعيلة . وهو جيل مميز في العالم العربي . وقد بدأ التمرد علي قوالب الشعر التقليدي والذي يخضع للوزن والقافية .

دراسة في ديوان عبد الله جلاب الجديد وتأتي السماء راجلة

دراسة في ديوان عبد الله جلاب الجديد وتأتي السماء راجلة
عز الدين ميرغني


يعتبر الشاعر عبد الله جلاب , من شعراء ما بعد الاستقلال في السودان . وهو جيل تبنى تقنية ما يسمى بشعر التفعيلة . وهو جيل مميز في العالم العربي . وقد بدأ التمرد علي قوالب الشعر التقليدي والذي يخضع للوزن والقافية . وقد أطلق عليه النقاد ( مملكة الفتية الشرسين ) . ومن النقاد الذين احتفوا بهؤلاء الشعراء ولا يزالون , هم الناقد العراقي ( حاتم الصكر في كتابه ( شعراء العراق في السبعينات ) والناقد المصري ( جابر عصفور ) , في كتابه , ( رؤى العالم عن تأسيس الحداثة العربية في الشعر ) . وهذا الجيل يمثل ولادة شريحة شعرية جديدة , وملاحظة وحساسية فنية أيضاً جديدة كما يقول الناقد اللبناني الدكتور ( شربل داغر ) ورغم تمثلهم لهذه الشريحة الشعرية الجديدة , فلم يكونوا تياراً شعرياً واحداً . أي أنهم لا يقلدون بعضهم البعض . وهو أمر يكاد ينطبق علي شعراء الحداثة في السودان في ستينات وسبعينات القرن الماضي . ومنهم الشاعر عبد الله جلاب . في أول دواوينه ( مزامير ) , وآخرها ( وتأتي السماء راجلة . فتحس بكونه يريد أن يكون شعره مختلفاً عن غيره . والتميز عن الغير ليس بالضرورة أن يعني القوة , ولكنه بالضرورة يمكن أن يعني الأصالة .

 


وهؤلاء الشعراء , ومنهم شاعرنا موضوع الدراسة , لم يسجنوا في مدرسة واحدة , لأن تقنية التفعيلة هي شكل يمكن أن يحتوي كثيرا من الأفكار والرؤى والمضامين . فهي قادرة علي الانفتاح علي التجريب والتحديث . لقد استطاع أن يكتب بها الشاعر عبد الله جلاب هموم الذات وشجونها , وأحلامها وتطلعاتها . وأن يكتب هموم الغربة والبعد عن الوطن . وكتابة الذات تلحظها في بروز ( الأنا ) , في أكثر من قصيدة , صريحة وواضحة ومجلجلة . فيبدأ قصائدها دائما بها ( أنا ذلك النهر والشجر والليل . . . ) . والأنا عنده لكي تتميز , فهي تحاول أن تستقل عن ( النحن ) . وتنفرد بعيدة , ولكنها لا تستطيع ذلك , ومن هنا تعب البعاد , ويزداد مع الوصل والاقتراب . خاصة عندما يشعر بأن الآخرين لا يشاركونه ما يحس به ويعذبه , فيصبح خطابه الشعري مباشراً فيتحول إلي نوع من الهتافية فيقول .. ( أنتم صوت تلك المجرات في همسها , وأنتم صخب تلك النيازك في صمتها ) . ثم يأتي خطابة ذو نبرة احتجاجية فيه تقنية الحجاج أيضاً , وبالسؤال المباشر .. ( إذاً كيف لنا باجتراح الأماني , وكيف لنا باجتياح المعاني ) . تلك هي قمة المأساة , بحيث لا أماني , ولا معاني . بحيث ليس هنالك جدوى  من الحاضر , بحيث لا معنى له , ولا تفكير في المستقبل , فلا أمل يقود إليه . فهو له كل الحق في أن يخاف وهذا الوجود المخيف يتعقبنا فيقول : ( لماذا تُرى لا نخاف ؟ ) . والشاعر عبد الله جلاب , قد جعل إبداعه وخطابه الشعري يقترن بالعلو والمعادل الموضوعي عنده هو السماء , بالأفق الأعلى , بالنيازك والشهب , فهو وسيط بين الأعلى والأدنى والذي يمثل الواقع المخيف والمحبط. رغم اعترافه بإيمانية مطلقة , بأن الطبيعة أقوى من الإنسان . فيقول بألفاظ التأكيد والاعتراف . . ( لا لا أنت لا أنا نسأل الصبح أين ومتى أن يهل .. لا لا أنت لا أنا نسأل النهر متى وأين يفيق في عنفوانه , وأنّي يزوم ) . فهو رغم تمرد الأنا عنده , ومحاولة تميزها عن الآخرين , ولكن الطبيعة أقوى من كل الأنوات مجتمعة أو نافرة متمردة . ولهذه القوة الجبارة الغير حقيقية والتي نشاهدها , ونضعف أمام جبروتها , من سماء , ونجوم , وبحار , فهو يعزي نفسه بطرح السؤال عله يجد عند غيره الجواب فيقول:  وكيف تبث المجرات أشجانها ؟
وكيف تعيش النيازك في ذاتها ؟
وكيف تفيق المعاني في فجرها ؟
فهو يؤكد بذلك بأنه شعر الانتماء القوي للحياة , بواقعها الأليم . بحيث يحاول أن يكون حضوره فاعلاً وموجوداً فيها . وهذه المحاولة تدعوه ليصالح الطبيعة , لأن لا يقدر علي تحديها . رغم أن يتطلع للسماء حتى تأتيه راجلة . ولكن هيهات . فشعره هو شعر غنائي , وليس شعر انفعال وقتي مصنوع . لذلك يحاول أن تكون مفردته وجملته الشعرية , أكثر فضحاً لذاته المتشظية . فيلجأ إلي التكرار الذي يعري ذاته ويكشفها عنوة وقصداً , فيقول : ( أخاف , أخاف , أخاف , ولم لا أخاف ؟ لأني أخاف , كلنا لا نزال نخاف , فهذا الوجود المخيف يتعقبنا , لماذا ترى لا نخاف ؟ ) فهو يحاول أن يقول بأنه ليس وحده من يحمل هذا الهم .
فنياً , وتقنياً , فقد كتب الشاعر عبد الله جلاب , هذا الديوان الجديد بعد توقف من الشعر دام طويلاً , أن يكتب ما يطلق عليه الناقد جابر عصفور بالقصيدة ( التركيبية ) . وهي القصيدة التي تتكون من عدة مقاطع متعددة . والتي تصل في هذا الديوان , إلي ثلاثين مقطعاً . ورغم التباين الدلالي بين كل مقطع وآخر , ولكنها متجانسة ومتجاوبة وتقود إلي الدلالة الكلية والقصدية للشاعر . ويمكن أن نطلق عليها القصيدة السيمفونية , لأن السيمفونية , من مقاطع مستقلة غير متشابهة , ولكن يجمع بينها وحدة الإيقاع . لقد ابتعد الشاعر عن لغة الواقع اليومي , كما ابتعد عن اللغة الخبرية , والتي سادت في عصر الستينات والسبعينات , كما عند مجايليه كالشاعر صلاح عبد الصبور , وأمل دنقل , وقد تأثروا بمدرسة ت . أس. أليوت . والتي تنادي بأن نكتب الشعر بلغة التعامل اليومي . ولعل تأثر الشاعر بشعر ما بعد الحداثة , قد جعله لا يتأثر بما نادي به اليوت في خمسينات القرن الماضي . ولكي يتجاوز تلك المرحلة , فقد أضفى علي شعره بعض من هالات ومفردات الرومانسية , والتي بدأت تعود بشده في العالم الغربي . وقد استدعى مفردات الطبيعة والتي سعى جدا لمصالحتها , رغم أن ديوانه لا يدخل في مدرسة الشعر الرومانسي . رغم غنائيته فقد كان يحمل الهم العام , مع الخاص , ليثبت بأن هم  الوجود ليس ذاتياً وإنما يهم الناس جميعاً . فيحاول أن يقرن ذاته مع الآخر في خطابه الشعري . فيقول ( لا أنا ولا أنت , لا أنت ولا أنا ) , فالأنا والأنت هنا يتشاركان في حمل الهم . ويعتبر نفسه جزء من الكل , أي من النحن , فيقول : ( لا مكان لنا ها هنا ) , ويقول ( نحن والنيل والشجر هنا ) , نحن والبحر والصخر هنا ) , ( نحن والوعل والدغل هنا ) , وتحس رغم محاولة الاتصال والاتحاد , مع الآخرين فإنه ينوء بهمه الخاص , وهو الخوف من الموت , وهو يريد البقاء والخلود . فيقول متسائلاً حائراً , ( إذاً لماذا نموت ؟) .(  أترانا نموت ؟ ) . ( أسأل الحيتان في عمق المحيطات إن كان ذلك موت ؟ ) . ورغم كل ذلك الخوف فيحاول أن يداريه بالغناء فيقول :
أجمل ما في الوجود زمان يغني
نحن حضور هنا والزمان المغني
نحن حضور هنا والمروج تغني
ومن هنا يمكن أن نقول بأن شعر عبد الله جلاب هو شعر الوضوح وليس الغموض , ولكن هذا الوضوح قد أوقعه في بعض الأحيان في المباشرة والتي قد تجعل شعره مكتوباً بروح الزمن الذي بدأ فيه كتابة الشعر . وقد يعتبره البعض عادياً في هذا العصر . وقد أضرته التكرارية في أكثر من موقع . من ما يجعل بعض النقاد يعتبرونها نوعاً من الهروب أو الفلتان من لحظة القبض والإمساك الشعري , لكن أكثر من قرؤوه يعتبرونه ديواناً بنكهة وجمال زمن الشعر الجميل . والذي قد لا يتكرر كثيراً  .