حكايات لقتل كورونا الوقت
حكايات لقتل كورونا الوقت نفيسة زين العابدين - شيكاغو من اسبوعين تقريبا وعندما انتشر خبر فيروس كورونا المميت انتشار النار في الهشيم، وأصبح حديث الساعة، كسودانية الثقافة والمنشأ، لم أسرع كبقية الناس هنا الى المتاجر أشتري ما يلزم من معقمات وكمامات وأطعمة وغيرها. بل ذهبت لمتجر مشهور بتوفر البضائع فيه من كل جنس ولون لأبتاع لقططي نوع أسماك التونة التي يحبونها. لكن الصفوف الطويلة والانتشار لكم هائل من الناس داخل المكان والذين يرتدى نصفهم كمامات تغطى نصف وجوههم، أصابني بالقلق، فأدركت أنى يجب الآن أن أتحرك. ذهبت أسأل عن الكمامات، أخبروني أنها قد نفدت لديهم، ذهبت الى قسم المنظفات، كانت الرفوف شبه فارغة، أخذت من الموجود منها في عربة التسوق خاصتي ومضيت في طريقي أبحث عن معقم الأيدي، فأخبروني انه قد نفد أيضا. لم أحزن، لأنني أمتلك تلك
حكايات لقتل كورونا الوقت
نفيسة زين العابدين - شيكاغو
من اسبوعين تقريبا وعندما انتشر خبر فيروس كورونا المميت انتشار النار في الهشيم، وأصبح حديث الساعة، كسودانية الثقافة والمنشأ، لم أسرع كبقية الناس هنا الى المتاجر أشتري ما يلزم من معقمات وكمامات وأطعمة وغيرها. بل ذهبت لمتجر مشهور بتوفر البضائع فيه من كل جنس ولون لأبتاع لقططي نوع أسماك التونة التي يحبونها. لكن الصفوف الطويلة والانتشار لكم هائل من الناس داخل المكان والذين يرتدى نصفهم كمامات تغطى نصف وجوههم، أصابني بالقلق، فأدركت أنى يجب الآن أن أتحرك. ذهبت أسأل عن الكمامات، أخبروني أنها قد نفدت لديهم، ذهبت الى قسم المنظفات، كانت الرفوف شبه فارغة، أخذت من الموجود منها في عربة التسوق خاصتي ومضيت في طريقي أبحث عن معقم الأيدي، فأخبروني انه قد نفد أيضا. لم أحزن، لأنني أمتلك تلك الأشياء في البيت كما معظم البيوت التي بها أطفال. خرجت من المتجر بعد معاناة، واتجهت لمتجر آخر لأشتري المزيد من مستلزمات البيت والبقوليات والدقيق والسكر ونوع المعكرونة التي يحبها أطفالي. ففوجئت أن كل شيء بحساب، اللبن لا تستطيع أن تبتاع كمستهلك أكثر من أربعة جوالين، المعكرونة فقط أربع عبوات، أي أن نصيبك كفرد لا يتعدى الأربعة من كل شيء.
عدت الى البيت ورتبت أشيائي الحبيبات كل في مكانها. أخبرت زوجي بهلع الناس وتقريبا خلو المتجر من مواد التنظيف والكمامات والمعقمات. فآثر أن يذهب هو أيضا ويقوم برحلة تسوق واسعة خاصة ان المدارس كانت قد أغلقت أبوابها وكذلك الجامعات واليوم السبت 21 مارس يفعل حظر التجول في مدينتنا من الساعة الخامسة مساء وحتى الثامنة صباحا بتوقيت شيكاغو.
ابني الطالب الجامعي والذي يقيم في السكن الداخلي، لا يرغب في البقاء في البيت طوال اليوم، أطفالي اللذين تأففوا من هذا الحظر القسري، والذي يعنى أنه لا أكلات سريعة، ولا بيتزا، ولا بيرجر ولا غيره، سيأكلون ما اطبخه لهم بمزاجي فقط. أردت أن أوضح لهم أن ليس بالخبز وحده يحييا الأنسان. أردت أن أوضح لهم أننا في السودان لم نكن نسكن داخليات تشبه الفنادق كتلك التي في العالم الأول. حكيت لهم كم أنا ممتنة لمعاناتي تلك لأنني تعلمت دروسا لم أكن لأتعلمها لولا ما عشته من بقائي وكثير من زميلاتي وصديقاتي من الاقامة في السكن الداخلي الجامعي التابع لصندوق دعم الطلاب حينذاك.
من تجربتي الخاصة أستطيع أن أقول إن تناول الشخصية السودانية التي عاشت في السكن الداخلي أبان التسعينات للازمات قد يختلف عن غيرها من الناس. فانا رغم الترف لا زلت أشعر بحنين كبير لتلك الفترة، و كيف كنا نتقاسم صحن " البوش" و"السخينة" و"سلطة الدكوة" بكل حب، ونحن جمع ما يقارب العشر فتيات. كنا نتقاسم الساندويتش الواحد و"نخمس" قارورة البيبسي وكوب الشاي وحتى مقاعد البص. نتشارك افطارا شهيا في نزل جوار مباني الكلية في أول كل شهر بسبب أن كلنا نستطيع أن ندفع "الشير"، وفي الأيام العادية نتشارك الماء والهواء وصحن" البوش" وفتة الفاصوليا بالشطة والليمون والهموم وكل شيء.. كل شيء تقريبا.
حكيت لأطفالي عن تلك الفترة، وعن درسا مهما تعلمته في أول سنة لي بالسكن الداخلي هناك. حيث كنت في الأسابيع الأولى أبكى سرا، وأستعجل أهلي في تحويلي لجامعة أخرى في أقرب وقت. لكن تغير كل ذلك حينما تعرفت الى فتاة جميلة الروح والوجه لا تشبه بقيتنا في السكن الداخلي، فهي شهادة عربية كما يقولون، لا تعرف من شقاء الحياة شيئا. كنت أراقبها حينما نجلس للعشاء أو الغداء تشاركنا صحن "البوش". كانت تأكل بسبابتها وابهامها، لقمة والثانية وينفض المولد من حولها فتنهض جائعة، كانت تحتفظ "بصبارة" ماء خاصة، لا تشرب من "الكولر" أو " المزيرة". انتهي السمستر الأول من سنتنا الأولي وكنت قد قررت الرحيل نهائيا عن تلك المدينة والعودة الى الخرطوم للالتحاق بأحدي جامعاتها الخاصة، لكن تغيرت فكرتي عن الرحيل، حينما رأيت صديقتي تزاحم الجمع على صحن "البوش"، وتشرب من الأزيار مثلنا. كانت سعيدة جدا، ومرحة جدا، مما غير نظرتي لجوهر الأشياء. لم أعد أتأفف عندما أصحو لأجد نفسي مدفونة تحت التراب في فراشي من فعل العواصف الترابية في تلك المدينة الحبيبة رغم قسوة طقسها، لم أعد أشكو عندما أفتح صنبور المياه ليتدفق الطين بدلا عن الماء الشفاف لأن النيل غاضب. تعلمت أن أضحك وأعيش رغم ذلك بالقليل - وأنا الفتاة البرجوازية كما كان يطلق على أحدهم- رغم أن معي من النقود ما يعيشني أميرة. لكن كان عليّ ان أعيش حياة كثير من زميلاتي لأنه لا مجال للتمييز فالكل سواء.
ليس كل الأشياء التي تخيفنا سيئة وتحمل نهايات مريعة، ففي رأيي أن الأزمات تعلمنا الخروج عن نمط حياتنا وايقاعها الواحد. تعلمنا دروسا لا توجد في بطون الكتب، تفتح أمامنا عوالم مختلفة، تجعلنا ندرك ونتدبر أن الحياة والموت، الثراء والغنى، الماضي والحاضر، الحكمة والسذاجة، العلم والجهل، الخواء والامتلاء، العطش والارتواء، الايمان والكفر، وكل الاضداد التي نعرفها ونعيشها كبشر والتي لا نعرفها ولم نعشها كمخلوقات، إنما أشياء ككل الأشياء لها نهايات، وأنها مثلنا ذات يوم، ذات لحظة، الى الفناء صائرة