الرمز في الشعر الصوفي
الرمز في الشعر الصوفي نعمة إبن حلام... المغرب ترتبط التجربة الصوفية، كونها تجربة عمادها المعرفة الذوقية، ارتباطًا وثيقًا بالمجالات الفنية مثل الشعر والموسيقى، لذلك كانت العلاقة متأصلة بين الصوفية والشعر وكان الأدب الصوفي ثريا بالنصوص الشعرية. يرى بن عمارة (2001) بأن المتصوفة يتمتعون بذوق جيد ومن الصعب عليهم أن يعيشوا تجاربهم الروحية دون إنشاد قصائد من شأنها أن تنعش قلوبهم وأرواحهم المتعطشة، لذلك حرصوا على تنظيم تجمعات خاصة يستمعون فيها للشعر من أجل تحقيق لحظات روحية ينسون خلالها الزمان والمكان وينخرطون في حالة وجدانية لا تقيدها الدقائق والساعات إلى أن يصلوا إلى النشوة الروحية.
الرمز في الشعر الصوفي
نعمة إبن حلام... المغرب
ترتبط التجربة الصوفية، كونها تجربة عمادها المعرفة الذوقية، ارتباطًا وثيقًا بالمجالات الفنية مثل الشعر والموسيقى، لذلك كانت العلاقة متأصلة بين الصوفية والشعر وكان الأدب الصوفي ثريا بالنصوص الشعرية. يرى بن عمارة (2001) بأن المتصوفة يتمتعون بذوق جيد ومن الصعب عليهم أن يعيشوا تجاربهم الروحية دون إنشاد قصائد من شأنها أن تنعش قلوبهم وأرواحهم المتعطشة، لذلك حرصوا على تنظيم تجمعات خاصة يستمعون فيها للشعر من أجل تحقيق لحظات روحية ينسون خلالها الزمان والمكان وينخرطون في حالة وجدانية لا تقيدها الدقائق والساعات إلى أن يصلوا إلى النشوة الروحية.
والتجربة الصوفية تجربة شخصية حيث الأنا أو النفس والقلب والذوق وجميع الحواس تنخرط بشكل كامل لتحقيق الصدق الداخلي والخارجي والوصول إلى النشوة. وهي تجربة يصعب فهمها من قبل من لم يمر بها لأنها حالة غير ملموسة، ولأجل إيصال تلك المشاعر العميقة والرؤى المجردة التي تميزها كان لزاما أن تتخذ شكلاً يجعلها ملموسة ومفهومة. الكلمات إذن هي الطريقة الوحيدة لإعطائها هذا الشكل، وبما أنها تجربة تستند إلى الذوق بشكل أساسي، كان بديهيا أن تتشكل هذه الكلمات بطريقة فنية من خلال أبيات شعرية يصف فيها الصوفي مشاعره وعواطفه وجذباته، متناولا موضوعات تركز أساسا على الحب الإلهي ومدح النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إضافة إلى كل ما يتعلق بالأخلاق والقيم والعلاقة بين الشيخ والمريد. اللافت للنظر أنه غالبا ما يصعب تمييز الأشعار التي أنشدت في الحب الإلهي من حيث الشكل والمضمون عن شعر الغزل عموما، ذلك أن المتصوفة تعمدوا أن يوظفوا صورا شعرية تعتمد على الرمز والغموض بشكل مكثف واعتمدوا على المعنى الباطني لأشعارهم متجاهلين المعاني الظاهرة له، الشيء الذي يتطلب من المتلقي بذل الجهد في فك الرموز وفهم المعاني وإدراك التلميحات. فلماذا هذا الغموض ولماذا هذا التشفير؟
حاولت العديد من المقاربات تقديم تفسير لاستعمال الرمز في الشعر الصوفي فرأى البعض أن السبب وراء ذلك هو أن الحب الإلهي لا يمكن التعبير عنه إلا بهذه الطريقة، بينما رأت تفسيرات أخرى أن الصوفية تعمدوا إخفاء أسرار تجاربهم الروحية كي لا يعرضوا حريتهم أو حياتهم للخطر. عموما، استلهم المتصوفة منهج التفسير والتأويل للقرآن الكريم في تأليف أشعارهم والطريقة التي كانوا يتوقعون أن يتم تفسيرها بها. بمعنى أنهم ميزوا بين نوعين من التفسير للقرآن: التفسير الخارجي الذي يهدف إلى توضيح المستوى الظاهر للنص أو المعنى الحرفي المباشر. النوع الثاني هو التأويل، أو التفسير الباطني الذي يبحث عن المستوى العميق للمعنى، أي باطن النص وجوهره الروحي الخفي. فكما يعتمد تفسير المعاني الباطنية للقرآن على الطبيعة الرمزية للأشياء المذكورة فإن الكتابة الصوفية تعتمد نفس النهج وتنخرط في الترميز.
حاول محمد يعيش (2003) تقديم شرح أكثر تفصيلاً عن السبب وراء استخدام الرمزية في الشعر الصوفي فاقترح سببين رئيسيين:
الضغوط الخارجية:
كان المتصوفة يتعرضون للقمع من قبل النظام السياسي الخاضع للسلطة الدينية وكانت فتوى الفقهاء بسجن أو إعدام الصوفي تعد أحكاما نهائية، ذلك أن الصوفيين يرون أن وراء كل معنى ظاهر آخر عميق مخفي لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال المعرفة الصوفية الشخصية، بينما ظل الفقهاء مقيدين بالمعنى الحرفي للنصوص. لمواجهة هذه الضغوط، كان المتصوفة ملزمين بتبني لغة خاصة لا يفهمها العامة، تمكنهم من تبادل معانيهم دون أن يتهمهم الفقهاء. يقول الطوسي في هذا الصدد بأن الإشارة هي معنى عميق مخفي تحت لغة واضحة ولا يمكن فهمها إلا من قبل من يملكها.
محدودية اللغة
أشار بعض القدماء إلى عجز اللغة عن التعبير عن التجربة الصوفية، إذ أن اللغة شيء متقطع بينما الوجدان شيء متصل، ولا يمكن للشيء المتقطع أن يحيط بالمتصل. فضلا عن ذلك، أكدوا أن المتصوفة يستخدمون العلامات والرموز في محاولة لمقاربة تجربتهم الصوفية، لأنهم حين يكونون داخل الحالة، يكون العقل غائبًا والقلب مستنيرًا بأضواء لا يمكن للغة أن تصفها. في هذا الصدد، يقول النفري 'كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة'. وهذا يعني أن اللغة تعبر عن شيء يمكن تمييزه، سواء كان حسيًا أم عقليًا، فالتعبير له قواعده الخاصة التي تحكمه في حين أن التجربة الصوفية لا يمكن أن تحكمها أي قاعدة، فهي تحدث مرة واحدة فقط، وإن تكررت فليس بنفس الطريقة. التجربة الصوفية ديناميكية ومتغيرة، وبالتالي فهي في حاجة دائمة إلى لغة جديدة، ولأن هذا المسعى مستحيل، فضل الكثير من الصوفيين الصمت بعد اقتناعهم بأن عدم القدرة على الاعتراف هو اعتراف في حد ذاته. (المصدر نفسه ، ص 140)
بالنسبة للباحثين المعاصرين، يرى نيكولسون على سبيل المثال بأن الصوفية استخدموا الرمز كقناع يخفي الأشياء التي أرادوا السكوت عنها لاعتقادهم بأنهم أشخاص مميزون لديهم معرفة داخلية خاصة، إضافة إلى أن اللغة الواضحة المباشرة ستعرض حرياتهم وأحيانا حياتهم للخطر. أيضا اختاروا استعمال الرمز لأنهم لم يتمكنوا من إيجاد طريقة أخرى للتعبير عن تجربتهم الصوفية. كما نحى باحثون آخرون مثل أبو العلاء عفيفي وعبد القادر محمود نحو فكرة قصور اللغة وعدم قدرتها على التعبير عن هذا الحلم الواعي كما أسماه عفيفي. (المصدر نفسه ، ص 140)
أما بالنسبة لابن عربي، فإن مفهوم الظاهر والباطن للعالم يعادل مفهوم ظاهر وباطن اللغة، فكما أن جميع الصور الحسية الظاهرة التي خلقها الله في العالم مرتبطة بالروح (الباطنة) كذلك الأمر بالنسبة للغة: الجزء الظاهر من المصطلح هو وعاؤها والجزء الباطن هو روحها. ثنائية الظاهر والباطن هذه تُخضع المعنى لعملية الخفاء والتجلي وتجعل من المعاني الصوفية شيئا خفيا لا يدركه الجميع. هنالك إذن معان ظاهرة يستطيع العامة فهمها وأخرى مخفية لا يدركها ولا يسعى لإدراكها إلى العارف المتأمل في الكون وفي اللغة. (الوهابي، 2007)
باختصار، تختلف التجربة الصوفية عن الممارسات العقلية أو الفقهية من حيث أنها تتبنى قاعدة معرفية مختلفة وهي الكشف والإلهام، مما يجعلها تجربة حية وطريقة للحياة. وقد أدت خصوصية هذه التجربة إلى اعتماد لغة خاصة مختلفة عن طرق التعبير المعتادة، لغة تعتمد على الرمز والإشارة بدلاً من اللغة المباشرة الواضحة.
مراجع:
بنعمارة، م. (2001). الأثر الصوفي في الشعر المغربي المعاصر. الدار البيضاء: شركة النشر والتوزيع المدارس.
يعيش، م. (2003). شعرية الخطاب الصوفي: الرمز الشعري عند بن الفارض نموذجا. فاس: كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس.
الوهابي، ر. (2007). الخطاب الصوفي الشعري والتأويل. الرباط: زاوية للفن والثقافة.