رواية  " لا نسبح في النهر مرتين" لحسونه المصباحي

رواية  " لا نسبح في النهر مرتين" لحسونه المصباحي ثلاث شخصيات تروي تاريخ تونس الدكتور محمد العربي.. تونس  في كتابه "مقولات الحكاية الأدبية، يصف تزيفتان تودوروف الحكاية والخطاب بقوله "يتميز الأثر الأدبي بمظهرين. فهو في الوقت نفسه حكاية وخطاب.

رواية  

رواية  " لا نسبح في النهر مرتين" لحسونه المصباحي
ثلاث شخصيات تروي تاريخ تونس

الدكتور محمد العربي.. تونس 

في كتابه "مقولات الحكاية الأدبية، يصف تزيفتان تودوروف الحكاية والخطاب بقوله "يتميز الأثر الأدبي بمظهرين. فهو في الوقت نفسه حكاية وخطاب.
فهو حكاية من حيث كونه يوحي بواقع ما، وبأحداث قد تكون قد وقعت وبأشخاص يتماثلون مع أشخاص حقيقين.إلا أن الأثر الأدبي أيضا وفي الوقت نفسه هو خطاب.فهنالك راو يروي الحكاية ،وهنالك قارئ يتقبلها.وفي هذا المستوى،ليست الأحداث المروية هي الهامة.وإنما الطريقة التي عرّفنا بها الراوي بهذه الأحداث المهمة.
في هذا السياق تتنزل رواية حسونة المصباحي "لا نسبح في النهر مرتين " الصادرة مؤخرا عن دار الآداب في 302 صفحة. حيث يطل بنا الكاتب- من خلال شخصياته الثلاثة المختارين بعناية- على مراحل مختلفة من تاريخ تونس، انطلاقا من السنوات التي سبقت الاستقلال وحتى الفترة التي أعقبت سقوط الرئيس بن علي،مرورا بالصراع اليوسفي البورقيبي، وحرب الجلاء ببنزرت، وهزيمة67 والعديد من الأحداث الأخرى التونسية والعربية.
بناء الشخصيات
قد يلجأ الكاتب في الرواية عموما الى بناء شخصياته من خلال بناء ملامحها الخارجية فيخترع لها اسما وعمرا ومهنة وعلاقات اجتماعية ويرسم ملامحها الخاصة والعامة ،ما يجعل المتقبل أو القارئ يستقبل هذه الشخصية بما ستحمله من أحداث.
وهذه الملامح الخارجية للشخصية هي ما يعكس الأبعاد النفسية والفكرية للشخصية.
أما البناء الداخلي فيعتمد على تدخل الشخصية في صياغة جوهرها بتصرفاتها وأقوالها الخاصة بها وذلك باستقراء ما يعتمل داخلها.
وفي هذه الرواية التي تقوم أساسا على ثلاثة شخصيات هم أبطالها: " سليم، عزيز،وعمران" حاول المصباحي بناء هؤلاء الأبطال غالبا من خلال تصوير الشخصية من الخارج ، لتكون شبكة علاقاتها هي ما يحدد مسارها في الرواية.اذ تنهض الشخصيات بالأحداث اما معايشة لها أو فاعلة فيها.

سليم 
يستهل المصباحي روايته بشخصية سليم الذي ينهض من الفراش متأخرا عن العمل.  شخصية بعلاقة متوترة مع الزوجة والبنت ومع صاحب الشركة التي يعمل فيها.
تعمّ الفوضى حياته.فالزمان هو ما بعد سقوط الرئيس بن علي والبلاد في فوضى "لا بد أن تكون الفوضى في أقصى تجلياتها، لذا تتهاطل الشتائم واللعنات من كل النواحي. وقد تتشابك الأيدي ويتخانق الناس لأتفه الأسباب".
تنذر الشخصية منذ البداية بتوتر علاقاتها الخاصة والعامة.وبنكرانها للثورة" أي ثورة مباركة؟؟".وهو يضيع في الطريق وسط الفوضى والغوغاء.
ووسط كل الأحداث الخانقة التي يعيشها لا تسعفه سوى الذكريات الجميلة حين كانت حياته هانئة مع زوجته  يستمعان إلى موسيقى الجاز بصوت  أرمسترونغ.وإلى الكتب الجميلة التي أثرت في حياتها والكتاب الرائعين كهمنغواي وسكوت فيتجيرالد وهنري ميلرو كارسن ماكلاراس التي تقودنا شخصية سليم عبر أحلامه إلى المنجز العظيم للكاتبة وعوالمها الروائية. وحول سيرتها التي أملتها وهي في فراش المرض.
ومن حلم سليم الى حلم ماكلاراس التي تقودنا بدورها الى كتاب أحبتهم ورجال في حياتها.
وبين الذكريات والواقع المربك تتجول الشخصية في أماكن مختلفة بين العاصمة والحمامات وطبرقه والقيروان التي أغلق ماخورها أصحاب اللحيّ  بفضل" الثورة المباركة". 
حالات من الهلع يعيشها سليم الذي يتم الاعتداء عليه من قبل مجهولين أو متطرفين ويصور بذلك الجرائم التي تفاقمت بعد الثورة التونسية وحالات الانتحار المتعددة في قريته في ريف القيروان التي يعود إليها اثر وفاة والدته.كما تعود بنا شخصية سليم الى أحداث مهمة وقعت في تونس بعد سقوط بن علي وظهور السلفيين الذين قاموا باحراق أضرحة الأولياء في العاصمة وفي بعض المدن الداخلية.وكانوا يهددون بتدمير كل ما له علاقه بالحضارة مدعيين أنه فسق وكفر.
يغرق سليم في كوابيس مفزعة نتيجة الوضع الكارثي الذي تعيشه تونس بعد سقوط النظام.فتتحول حياته الى رعب " كل شيء يشير الى أنني أغرق في الوحل والزفت، واني أمضي سريعا الى هاوية لا قرار لها".وهي حالة عاشها الكثير من التونسيين في ظل الفوضى والعنف الذي تفشى في المجتمع لينتهي سليم أخيرا  إلى الانهيار العصبي فاقدا كل توازنه في ظل الظروف المفزعة التي تعيشها تونس.

 عزيز
لا تبتعد شخصية عزيز كثيرا عن شخصية سليم في ملامحها العامة، إذ إنه يرفض تماما ما يحث من فوضى وشغب وتخريب للبلاد من قبل الملتحين الذين لم يسلم أحد من شرهم والذين يسعون إلى خلافة سادسة.لذلك يعترض عن الخروج من البيت ويهرب من واقعه إلى الكتب والأفلام فيأخذنا معه في رحلة إلى أفلام عديدة منها فيلم "أستراليا" لنكول كيدمان.
شخصية متقاعدة، تسافر في الكتب، لها عاداتها القديمة التي لا يغيرها.يعود بنا الى لقائه الأول بسليم  وصور بذلك الفترة التي وقعت فيها الضربات الإرهابية على نيويورك والحرب في افغانستان.كما يعود بنا الى فترة طفولته وشبابه حيث تخلى أباه عنه وعن أمه. ليجدا نفسهما في بيت حقير في العاصمة. و أحداث كثيرة وقعت في تونس بعد الاستقلال وقبله من" سفاح نابل" إلى حرب الجلاء وهزيمة 67 إلى الصراع المرير بين صالح بن يوسف وبورقيبة .كل تلك الأحداث التي يأخذنا إليها عزيز من خلال تذكره لأيام طفولته وشبابه عبر شخصيات كثيرة مرت في حياته وفواجع لا تنسى.
عمران
تبرز ملامح شخصية عمران منذ البداية، فهو المثقف والكاتب  التونسي الذي يعيش في المنفى وتحديدا في باريس في" الدائرة التاسع عشر" والذي ينصحه طبيبه بالعودة إلى بلاده بعد أن قضى عشرين سنة مغتربا وبعيدا عنها. ويجمع عمران بين شخصية سليم وعزيز اللذان يتعرفان إليه من خلال ما يكتبه من مقالات مهمة.ويلتقيانه في الحياة معترفان له بأهمية أفكاره وفرادتها.ويعود بنا المصباحي إلى حياة عمران في تونس في أيام شبابه من خلال الفتاة "صوفي" الفرنسية ذات الأصول التونسية التي تراسله من فترة لأخرى.وإلى صراعه مع بورقيبة حيث دافع كمحام عن رجل لفق له محاولة اغتيال. مما جعله يغادر البلاد قبل أن يتسبب في موته أو سجنه. وهو ما أثار حزن أمه الشديد.وبالعودة الى هذه الشخصية نتبن أن المصباحي قبد وظفها كقناع للمفكر التونسي العفيف الأخضر الذي عمل محاميا ودافع عن" صالح النجار" الذي حكم عليه بالإعدام.ومنذ ذلك الوقت لم يسلم من مضايقات السلطة له.غادر الى الجزائر ، ومنها الى بيروت وباريس.
في هذه الرواية التي ينهض بها الشخصيات .حاول المصباحي عبر" سليم وعزيز وعمران "أن يروى تاريخ تونس الحديث والمعاصر وأحداث عربية أخرى أثرت ومازالت تأثر كثيرا في واقعنا الراهن ومستقبلنا.