قصة قصيرة جديدة الملثمون ينتفضون

قصة قصيرة جديدة الملثمون ينتفضون مبارك الصادق نامت مكدودة .. مهدودة الحيل ، معدومة الحيلة  ماذا عليها أن تفعل ؟؟ ليس لها إلا إن تستكين وتقبل /  ذلك قدرها المقدر .. مات بعلها وخدين عمرها , بعد صحبة أكثر من ثلاثين سنة عشرة مستدامة , سكن ومودة .. وهاهو الآن الابن يلحق به في حادث ذلك البص اللعين , وهو الذي كان من المفترض بعد رحيل والده إن يكون هو السند ، وهو المعين .. ولكنها صروف الدهر .. أو هو المقدور والمسطر والذي لابد إن يكون كائنه دونما نقص أو زيادة ..  

قصة قصيرة جديدة الملثمون ينتفضون

قصة قصيرة جديدة
الملثمون ينتفضون
مبارك الصادق


نامت مكدودة .. مهدودة الحيل ، معدومة الحيلة 
ماذا عليها أن تفعل ؟؟ ليس لها إلا إن تستكين وتقبل /  ذلك قدرها المقدر .. مات بعلها وخدين عمرها , بعد صحبة أكثر من ثلاثين سنة عشرة مستدامة , سكن ومودة .. وهاهو الآن الابن يلحق به في حادث ذلك البص اللعين , وهو الذي كان من المفترض بعد رحيل والده إن يكون هو السند ، وهو المعين .. ولكنها صروف الدهر .. أو هو المقدور والمسطر والذي لابد إن يكون كائنه دونما نقص أو زيادة ..  
الآن لم تبق لها إلا ابنتها التي لم تتجاوز عقدها الأول إلا قليلا ..
إن للحياة قصة كما إن لها غصة  ..
          في الأليال الدامسة ، يداعب القلب حفيف النسيم ، وشجن الذكريات ، طيبة الطيب الذي ما اسمعها ما أغضبها من نابي القول أو خشنه .. معه تنطلق الروح ترمح في مرافئ الفرح والسرور .. كان الغد المجهول يقوم مقامه الغد المأمول .. تنداح حوله أمنيات السعد المشرئب .. وهي أمانٍ موغلات في التواضع  .. الحياة المستورة ، ورغد العيش , والصحة السابغة , ومن ثم جديد الأولاد حيث يشبون ويملئون البيت زعيقاً وحركة .. سعف النخيل الأخضر .. فأل الزمن الأنضر . الومض السماوي المندلق وحفيف أرواح الخلود ، وبهجة الحياة الممرعة , وسني الإشراق والإقبال ...
         الآن سكن السكون .. وادلهم الوقت .. وأطبق الصمت الصامت ، فلا حركة ولا تأمة ولا رنة ضحك أو انفراج وجه ببسمة / الحزن سيد الموقف .. 
          ذلك إن الفارسين قد استعجلا وترجلا .. طار بهما براقهما نحو السماء البعيدة وبقينا هنا نسفح الدمع عليهما ..بل لعلهما بانتظارنا هنالك في برازخ الزمن .. ولكن كيف الوصول إليهما  ، ودون ذلك كد .. ودون ذلك جهد .. بل ودون ذلك وقت لابد إن يمضي بكل ما فيه من بطش ورهق ومكابدة .
           شدت زنارها إلى وسطها .. ونزعت نفسها عن حزنها ..وجابهت حالها ..ومن ثم عكفت تؤدي عملها .. فللحياة تكاليفها ولابد لها إن تستمر .. ومن حسن حظها .. كانت لها خبرة في شبابها .. بأعمال أدركتها عند جدتها التايه .. (الآن ركزنا عليك يا جدة .. ليمنحنا الله الصحة والقوة والشدة .. في نفسها قالت ..)
ومضت لاتني .. عاكفة على سعف النخيل فالها المأمول ..   
        وإن هي إلا أسابيع قليلة – حتى تعاظمت الحصيلة كمية مهولة من الإنتاج المتنوع سكبت فيه كل حاجتها واحتياجها ، وراحت تحسن من أدائها غير عابئة بالتعب وشقاء الحياة ولأوائها.
        صحيح أنها عانت في أيامها الأولى .. وبكت في الليالي وهي ترى أيلولة حالها وصيرورة آمالها والتي تلخصت في شهوة الحياة والبقاء .. وكانت تخاف المجهول والمخبوء في طيات الزمن الذي كشر عن نابه وأظهر مآبه .
 ومازالت ثمة مخاوف تتراءى لها .. ومشاهد تزحم خاطرها ، وتذكر أحداثها ..
         تلك الأرملة الصغيرة التي مضى عنها بعلها وتركها في مهب الريح هي وصغيرها يعانيان من الوحدة وضيق ذات اليد ..ثم زاد من دائها مرض صغيرها .. وانعدام الدواء .. وعانت ما عانت ..وكابدت ما كابدت .. وحين اشتد بابنها المرض وذهبت تبحث له عن الدواء في مظانه – عادت مثقلة بالجراح – بل مرضت هي الأخرى جراء ما سمعت وما وجدت ، لكنها لم تنهزم – لنفسها قالت : (لن اشتري عافية الجسد بمرض القلب .. وإغضاب الرب).
       مات ابنها ، بين حجرها فبردته بغزير دمعها , وكفنته عزة كبريائها , ما أفدح الثمن .. ما أبهظ الحياة . 
وأنت ياستنا ماذا تفعلين ؟؟ لنفسها تقول – كان الطيب يقول لك ستهم !!
       اعتصري ثمرة فؤادك .. وارعي فلذة كبدك .. وجاهدي ما استطعت وسط غابة الكائنات المستوحشة – هو الامتحان لا مراء ، هو الابتلاء بالأصح ، وهاته النسوة خائفات واجفات بظنهن إن ثيبات النساء وأراملهن هن دائما خاطفات الأزواج .

            ولهذا ينظرن إليها شذراً أينما وجدنها – المجنونات ادعي لهن إن يقبضن على أزواجهن بحسن المعاشرة والتبعل حتى يصرن بمأمن وبمنجاة مما يخشينه ويخفن منه .
      وهكذا مضت السنوات الثلاثة الأخيرة ، وإنتاجها من مشغولات السعف المتنوعة ، قد بلغ أشده ، بروش ملونة حمراء وصفراء ... تبروقات الصلاة زاهية الألوان ,انطعة الدخان شنط النسوان .... و....
          كانت تحملها (أسماء) أيام الأسواق وأيام القاطرات تجوب بها المحطات وتبيعها جميعها لا يبقى منها شيء ، وتشتري طعامها وإدامها وتأتي حامدة شاكرة ..
     هكذا استمرت الحياة سهلة رغم صعوباتها .. طيبة رغم قسوتها وكان الناس من حولها يتحدثون عن صبرها ومثابرتها ، ويمتدحون إصرارها وقوة شكيمتها ..
ولكن شدما تجهمت الحياة واربد وجهها – وطحن الغلاء الناس فانجردت   أعوادهم – بل صارت إلى يباس إلا قلة قليلة .. حيث صار الكفاف هو الديدن – وصار العيش الرغيد والرغبات الملباة ضرباً من البطولة .. ونفد المخزون بل ونفدت الميرة .
        وجاء يوم وستنا بالغة الحيرة الحاجة الماسة والبنت التي تكور منها الجسد وقد صار عملها مخاطرة ومجازفة ... 
        في ذلك اليوم تأخرت أسماء في العودة .. وما كان عهدها .. وراحت الأم تتقاذفها الظنون .. ماذا ألم بها ؟! أي شيء أقعدها ؟! هل تربص بها غاوٍ فأغواها ؟؟ إنهم جميعهم يعرفونها ويحترمونها . ولكن .. وقبيل الغروب دلفت إلى المنزل متعبة مضعضعة ..ناشفة الريق ...  خافتة البريق ربداء غبشاء ... ضاويه عجفاء .. تحمل بضاعتها الكاسدة وهي تشكو بثها (" زى أمس .. لا تعريفة ولا قرش .. لا أكل ولا طعام والسلام ") .
قالت الأم بعد إن أرسلت تنهيدة من صدرها الأعجف (ختي بضاعتك غادي .. نحن ربنا قلنا نساعده في معيشتنا ومابي ... خليهو براهو بيعرف يرزقنا كيف ؟؟ )
      كان حاج الطاهر يحمل مسبحته في طريقه لصلاة المغرب حين سمع ذلك القول العجيب ، وقد ملأت الدهشة أقطار نفسه . 
ولم تكد تنتهي صلاة المغرب – حتى وقف حاج الطاهر ليتحدث .. كان الناس في دهشة من وقفته وتصديه للحديث ! ! إذ لم يكن في يوم من الأيام من رجال المنابر فهو ليس بعالم وليس بواعظ .. فما الذي أوقفه ذلك الموقف .ز ومن عجب بدأ راكزاً ..وثابتاً ولثوان قبل إن ينطق .. ظن الناس به الظنون وذهبوا مذاهب شتى .. حتى قال : 
   " يا جماعة حاجة ستنا دي .. جارة المسجد .. أرملة مسكينة .. مات زوجها... ومات ولدها  وبقيت هي وبنتها .. ضعيفة وفقيرة .. لا ماشية ولا معاش .. هل سألتم نفوسكم عايشه كيف؟؟ بتبيع البروش مش ؟؟ 
ومين قال ليكم بيع البروش بجيب قروش ؟؟  
الحاجة ستنا بقدرة الله فقط هي الآن تعيش ..
        وأنا اعرف إن لها ايام ما عندها اكل .. والبضاعة بايره وكاسدة .. لم تتقول ولم تتسول .. والآن الآن وأنا في طريقي للمسجد سمعتها وهي تقول لبنتها العائدة بالبضاعة البايره " ختي البروش غادي .. ربنا وكت دايرين نساعده على معيشتنا وهو مابي – خليهو براهو بيعرف يرزقنا كيف؟؟
عندها تهدج صوت حاج الطاهر وأجهش بالبكاء وراح يقول في صوت مؤثر :" والله لم يؤمن ... والله لم يؤمن ..." 
وتفرق الناس وقبل إن تقام صلاة العشاء الأخيرة كان بيت الحاجة ستنا قد امتلأ بالقمح والطحين .. بالبصل والزيت .. الشرموط والويكة الناشفة .. السكر والشاي .. العدس والكبكبيك .. في فحمة الليل وغلسة يأتي الآتي ملثماً لا تبين منه إلا العيون فيدخل ما يحمله دون إن يعرفه احد .. ثم يأتي في إثره ملثم آخر وستنا تزرف الدموع  وهي تقول كفاية يا أهلي كفاية .ز حتى جاء احدهم وقد ربط معزة حلوب – ظلت تمامي بصفة كورالية كلما قال الإمام الله اكبر ! !
واندهشت النسوة الخارجات من الصلاة وعن الصلاة وهن يتحدثن في مغالطة عمن تكون العروس ؟؟ أهي الأم ستنا ؟؟ أم البنت أسماء ؟؟