استرداد المال العام واستعادة الزَّمن الضَّائع: استراحة "زمكانيَّة" قصيرة

استرداد المال العام واستعادة الزَّمن الضَّائع: استراحة "زمكانيَّة" قصيرة محمد خلف.. لندن تعمل لجنة إزالة التَّمكين ليلَ نهارَ لاستردادِ المال العام وإعادةِ الأصول المُعتدى عليها إلى أصحابها الأصليين، وهو جهدٌ مُقدَّر ننتظرُه بفارغِ الصَّبر، ونتسقَّطُ أخبارَه من خلال التَّنوير الأُسبوعي الذي تُقدِّمُه اللَّجنة

استرداد المال العام واستعادة الزَّمن الضَّائع: استراحة

استرداد المال العام واستعادة الزَّمن الضَّائع: استراحة "زمكانيَّة" قصيرة

محمد خلف.. لندن

 


 
تعمل لجنة إزالة التَّمكين ليلَ نهارَ لاستردادِ المال العام وإعادةِ الأصول المُعتدى عليها إلى أصحابها الأصليين، وهو جهدٌ مُقدَّر ننتظرُه بفارغِ الصَّبر، ونتسقَّطُ أخبارَه من خلال التَّنوير الأُسبوعي الذي تُقدِّمُه اللَّجنة؛ إلَّا أنَّ ما يُمكِنُ أن يفوتَ عليها في زحمةِ العملِ المتواصل، هو فحصُ المفاهيم الذي قد يُؤدِّي غيابُه إلى انزلاقِ هدفِ الإزالةِ الأساسيِّ إلى محضِ إزاحةٍ، وتبديلِ دورٍ بدور؛ فنُصبِحُ "كأنَّنا يا بدرُ لا رُحنا ولا جينا" أو كأنَّنا قد ربحنا شوطاً وخسرنا آخرَ، من غيرِ أن نستثمرَ دقائقَ الزَّمنِ الضَّائع في تعديلِ النَّتيجةِ النِّهائيَّة. لن نقفَ كثيراً عند السِّياسة اليوميَّة، بل سنتعدَّاها في هذه الاستراحة الزَّمكانيَّةِ القصيرة إلى النَّحوِ العربيِّ وعلمِ الفيزياءِ الحديث، لاستكناهِ الدَّلالةِ العميقة لمفهوم التَّمكين (فدلالتُه المعاصرةُ معروفةٌ سلفاً لدارسي العلوم الاجتماعيَّة، قبل أن تختطفه الفئةُ الظَّالِمة في تفسيرها الذَّاتيِّ المُتعجِّل لآياتٍ قرءانيَّة في سورة الحج، وسورتَي الكهفِ ويوسف).
 
قسَّمَ سيبويهِ "أواخرَ مجاري الكَلِمِ من العربيَّة" إلى ثمانيةِ مجارٍ: أربعةٌ منها لحروف الإعراب، وهي الحروف المخصَّصة للأسماء المتمكِّنة (و"الأفعال المُضارِعة لأسماءِ الفاعلين")، وتشمل الرَّفع والنَّصب والجرَّ والجزم؛ أمَّا الأربعةُ الأخرى، وهي الضَّم والفتح والكسر والوقف، فقد خصَّصها شيخُ العربيَّةِ للأسماءِ غير المتمكِّنة، أي المبنيَّة بناءً لا تحيدُ عنه، بحيثُ لا يكونُ هناك أثرٌ ظاهرٌ للعاملِ عليها. ما يهمُّنا فيما ذهب إليه سيبويهِ هو أنَّ "تمكُّنَ" الأسماءِ قد اشتُقَّ من المكانِ أو الإمكان (وجِذرُهما واحد، وهو "ميم كاف نون")، لكي يؤدِّي مدلولُ السَّعةِ في المكانِ أو التَّوسُّعُ في الإمكانِ إلى الإيحاءِ بحرِّيَّةَ الحركة (الإعرابيَّة) أو الصَّرف (أي حُرِّيَّة التَّصرُّف)؛ بينما تنتفي هذه الحرِّيَّةُ في البناءِ، لأنَّه قد قُدَّ من نظامٍ موحَّدٍ أصمَّ لا يقبلُ الصَّرفَ أو التَّصرُّف. فكأنَّما الإعرابُ قد مَتَحَ من معينِ المكان، فاكتسبَ حُرِّيَّةً في الحركة، بينما التزمَ البناءُ بقيودِ الزَّمانِ التي تشِلُّ الحركة، إلَّا إذا جاءت وفقَ سَمتٍ بعينِه، مثل القيدِ الذي يُلزِمُ الزَّمانَ بالسَّيرِ بخطًى منتظِمةٍ من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، وليس لعكسِ ذلكَ حظٌّ فعليٌّ في الإمكانِ.
 
تواجه الفيزياء الحديثة نفسَ المعضلة في تعاملِها مع الزَّمان الذي لا يقبلُ التَّصرُّف، فتلجأُ إلى تليينِ عريكته بمعالجته على خلفيَّةِ المكان، وتحريكِ أسهمه بتصرُّفٍ كاملٍ على أسطحٍ مستويةٍ ثنائيةِ الأبعاد؛ فيتمُّ تسجيلُ حركته على صفحةٍ بيضاءَ أو سبورةٍ سوداءَ أو رسمٍ بيانيٍّ أو جدولٍ دوريٍّ أو معادلةٍ رياضيَّة أو حتَّى مصفوفةٍ سياسيَّة، "يسهرُ الخلقُ جرَّاها ويختصمُ". وعندما يتحوَّلُ الزَّمانُ إلى رمزٍ في معادلة، يسهُلُ توظيفُه للتَّكهُّنِ بالمستقبل؛ وبما أنَّ المعادلاتِ الفيزيائيَّة قابلةٌ على خلفيَّةِ المكان للقراءةِ العكسيَّة، فإنَّ حرِّيَّة التَّصرُّف في الزَّمانِ تُصبِحُ بلا حدودٍ تمنعُ سيرَه القهقرى، إذا أرادَ مَنِ استخدمَ المعادلةَ ذلك. كما أنَّ الرُّسوماتِ والجداولَ الثُّنائيَّةَ الأبعاد يُمكِنُ بسهولةٍ إيجادُ معادلِها الثُّلاثيِّ الأبعاد، والتي يُمكِنُ أيضاً تحقُّقها مادِّيَّاً في شكلِ نماذجَ إيضاحيَّةٍ بالغةِ الفائدة في إعانةِ التَّصوُّراتِ المجرَّدة. كما يُمكِنُ أيضاً – وهو ما قام به هيرمان مينكوفسكي – ضمُّ الزَّمانِ إلى المكانِ الثُّلاثيِّ الأبعاد، ليُشيَّدَ عليه بناءٌ رُباعيُّ الأبعاد، يسمحُ بدورِه بإقامةِ "زمكانٍ" (إسبيستايم") مستقلٍّ عن الإطارِ المرجعيِّ الذي تمَّ فيه سابقاً تسجيلُ الإحداثيَّات.
 
لن نستطيعَ في هذه الاستراحةِ القصيرة أن نُبيِّنَ مدى حرِّيَّة التَّصرُّف التي سمح بها وضعُ الزَّمانِ في كتلةٍ أو لَبِنَةٍ مكانيَّةٍ واحدة ("بلوك يونيفيرس") أو ما قاد إليه عموماً صياغتُه (أي الزَّمانُ) صياغةً هندسيَّةً ناجحة، لكنَّنا نستطيعُ في هذه العُجالةِ أن نُنبِّهَ إلى خطورةِ التَّصرُّف في المالِ العام، إذا لم نستعِدِ الزَّمنَ الضَّائعَ لتوظيفِه في نسفِ البنية المفهوميَّة للتَّمكين؛ ونستطيعُ أن نُنبِّهَ أيضاً إلى أنَّه قد يسهُلُ على حارسِ المالِ أمرُ الصَّرفِ من الخزينةِ العامَّة، إذا انعدمتِ القيودُ الصَّارمة أو قام الحارسُ بتسجيلِ هدفٍ في مرماه في الزَّمنٍ الضَّائع، فيما كان الدِّفاعُ ينامُ "ملءَ جفونه عن شواردها".