ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة
ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة (بمثابةِ حلقةٍ ثالثة) - محمَّد خلف - عبَّرنا في الحلقةِ السَّابقة عن احتفائنا بدحضِ التَّفسيرِ الذي تقدَّمنا به لعبارة "التُّونسيَّه"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"
ألتوسير و"التُّونسيَّة"؛ ومصرُ ومصيرُ الدَّولة السُّودانيَّة
(بمثابةِ حلقةٍ ثالثة)
- محمَّد خلف -
عبَّرنا في الحلقةِ السَّابقة عن احتفائنا بدحضِ التَّفسيرِ الذي تقدَّمنا به لعبارة "التُّونسيَّه"، بعد أن تبيَّن لنا تعرُّضُ الصُّورةِ التي اعتمدنا عليها للتَّزييف عن طريق تقنية "الفوتوشوب"؛ وقلنا إنَّنا ربَّما نشرحُ ما نعني بالاحتفاء، الذي سيقودنا إلى جون إكِلِس، وكارل بوبر، وتوماس كون، وليونارد سسكند، ومنهجيَّةِ العلوم الطَّبيعيَّةِ والاجتماعيَّةِ معاً. ومبعثُ احتفائنا، الذي سنأتي إلى تفصيلِه بدءاً من الفقرةِ المُقبِلة، يأتي من أنَّ الكشفَ مُبكِّراً عن تعرُّض الصُّورة للتَّلاعبِ الرَّقمي قد أسدى لنا خدمةً كبيرة بدحضِ ما اعتبرناه "دليلاً دامغاً" (إسموكينغ غن) على تأثير اللُّغة الفرنسيَّة - باعتبارها موشِّراً على هيمنة الشَّريك الأضعف على جهاز الدَّولة الآيديولوجي – في اللُّغة العامِّية المُستخدَمة في عاصمة البلاد؛ فكلَّما كان الدَّليلُ المقدَّم قابلاً للدَّحض، كلَّما كان عِلميَّاً، بتعبير كارل بوبر. علاوةً على ذلك، فقد انهار دليلٌ واحد فقط، وبقيت أدِلَّةٌ كثيرة في جوفِ التَّفسير؛ وهي الأُخرى قابلةٌ للدَّحض، من غير أن تتأثَّرَ الفكرة الأساسيَّة، وهي سيطرةُ الشَّريك الأضعف على الجهاز الآيديولوجي لدولة الحكم الثُّنائي، التي ما زالت تُلقِي بظلالِها الكثيفة على تطوُّر الدَّولة السُّودانيَّة الحديثة.
في عام 1946، التقى عالِمُ الأعصابِ الأسترالي، جون إكِلِيز، بالفيلسوف النَّمساوي، كارل آر بوبر، في نادٍ للأساتذة بجامعة دَنِيدِن النِّيوزيلنديَّة، فأبلغه أثناء محادثتهما بالخلاف الدَّائر بشأن انتقال الإشارات عبر صدعِ التَّشابكِ بين الخلايا العصبيَّة (ساينابتيك كِليفت)، وانقسام العلماء إلى فريقين أحدُهما يرى أنَّ الانتقالَ يتمُّ كيميائيَّاً، وآخرُ على رأسِه إكِلِيز يرى أنَّ الانتقالَ يتمُّ كهربائيَّاً؛ وكانت كلُّ الدَّلائل تُشيرُ إلى أنَّ العالِمَ الأستراليَّ سيكونُ بين الفريق الخاسر، الأمر الذي أصابه بحالةٍ من اليأس والقنوط؛ فما كان من بوبر إلَّا أن حثَّه على الاحتفاءِ بدحضِ فرضيَّتِه، لأنَّ ذلك لن يمسَّ طريقة الوصول إلى نتائج البحث، وإنَّما يمسُّ فقط تفسير تلك النَّتائج، وأنَّ ما يقومُ به إكِلِس هو ممارسةٌ علميَّة من الطِّرازِ الأوَّل، بصرفِ النَّظر عمَّا تأتي به النَّتائج؛ كما طلب منه بوبر أن ينضمَّ إلى الفريقِ الآخر أو يُشرِفَ بنفسِه على دحضِ فرضيَّته الأولى، وهو ما تمَّ لاحقاً: فقد تمَّ على يد بيرنارد كاتز أوَّلاً دحضُ الفرضِيَّة الكهربائيَّة، وتأكيد انتقال الإشارات العصبيَّة المُستثارة عن طريق التَّوسُّط الكيميائي؛ إلَّا أنَّ إكِلِيز قد دعم أيضاً نظريَّة كاتز بإثبات أنَّ النَّواقل العصبيَّة المكبوتة تُساهِمُ هي الأخرى في تنظيم الإشارات عن طريق التَّوسُّط الكيميائي.
من حسنِ الطَّالع أنَّني تعرَّفتُ على طريقة بوبر إبَّانَ عهدِ الطَّلَب، وقد كان عنوانُ بحثِ تخرُّجي هو "حلُّ بوبر لمشكلة هيوم المتعلِّقة بالاستقراء". وقد اتَّبع كثيرٌ من العلماء طريقته، كما تبنَّاها لفيفٌ من غير العلماء، بينهم المُستثمِرُ المجريُّ-الأمريكيُّ الشَّهير، جورج سوروس. وقد حفِظني من الارتماءِ الكاملِ في أحضانِ نظريَّتِه، تعرُّفي على توماس كون عبر كتابه الأشهر: "بنية الثَّوراتِ العلميَّة"، وكتابه الآخر الأقلِّ شهرةً والذي نُشِرَ بعد مماته، وهو "ما بعد البنية". يقِرُّ كون، بشكلٍ عام، بطريقة بوبر؛ ولكنَّه يرى أنَّ العلوم لا تتطوَّرُ بتخلِّي العلماءِ سريعاً عن الفرضِيَّاتِ المُدحَضة، وهم أولئك العلماء الذين يُسمِّيهم ليونارد سَسكِند بالبوبراتسي، في إشارةٍ لاذعة إلى الباباراتسي، وهمُ الصَّحفيُّون الذين يُطاردون المشاهير، ويستعجلون النَّتائج بالاكتفاء، من غيرِ تمحيصٍ كافٍ، بمصادِرَ غير موثوقٍ بها عنهم أو صورٍ تُلتقطُ لهم على عجلٍ للتَّدليل بها على "حقائقَ" لا يَدعمها سياقٌ، فينشرونها للتَّكسُّب خارج حاكميَّة السِّياق.
يرى توماس كون أنَّ هناك نوعينِ من العِلم: عِلمٌ "عاديٌّ" يومي، يتطوَّر بالتَّراكم، ويعملُ تحت إطاره العلماءُ "العاديُّون" وفقاً لنظريةٍ عامَّة نُموذجيَّة (بارادايم)، لا يتخلَّى عنها المُشتغِلونَ بالعلمِ التَّجريبيِّ مهما تراكمتِ الإخفاقاتُ المختبريَّة التي لا يُوجَدُ لها تفسيرٌ في إطار الصِّيغة أو النَّظريَّة النُّموذجيَّة المُهيمِنة، إلى أن تصِلَ إلى الدَّرجةِ التي تُحدِثُ أزمةً في مجالِ الفيزياء؛ وحينها يبرزُ نوعٌ آخرُ من العِلم، وهو عِلمٌ استثنائيٌّ ينهض بمهمَّةِ تغييرِ الصِّيغة النُّموذجيَّة واستبدالها بأخرى، في ثورةٍ علميَّة تكونُ قادرةً على معالجةِ كلِّ الإخفاقات المختبريَّة السَّابقة، وتوسيع المدى التَّفسيريِّ للإطارِ النَّظريِّ الجديد، الذي سيُمارَسُ تحته، بعد حينٍ، عِلمٌ عادي يواجِهُ مُقبِلاً إخفاقاتٍ جديدة، تستدعي هي الأخرى، بعد نشوبِ أزمةٍ لاحقة، تغييراً يُؤدِّي إلى إيجادِ صيغةٍ جديدة؛ وهكذا تتطوَّرُ العلوم عن طريقِ القفزاتِ التي تُحقِّقها تحوُّلاتُ البرادايم، وليس فقط عن طريق تراكم المعارف العلميَّة المتفرِّقة.
من النَّتائج المنطقيَّة لهذه الرُّؤيَّة العِلميَّة الثَّاقبة أنَّ العلماء يتشبَّثونَ بنظريَّتهم العِلميَّة العامِلة مهما طرأ عليها من عيوب، وأنَّهم لا يتخلَّون عنها تماماً إلَّا إذا انبثقت نظريَّةٌ أخرى، أكثرُ نجاحاً في معالجة الإخفاقات، وأكبرُ مدًى تفسيريَّاً لتوسيعِ آفاقِ التَّطوُّر العلمي. وما نشاهده اليوم في علم الفيزياء ينهضُ دليلاً على ذلك؛ فمن جهة، يُوجد النُّموذج القياسيُّ لفيزياء الجُسيماتِ المتناهية في الصِّغر، الذي يعمل وفقاً لمقتضيات الفيزياء الكموميَّة؛ ومن جهةٍ أخرى، يُوجَد النُّموذج القياسيُّ لعلم الكونيَّات، الذي يعمل وفقاً للنَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة؛ وكلا النُّموذجَيْن موفَّقٌ في مجالِه، لكنَّهما متناقضانِ عند استخدامهما في تفسير الظَّواهر الفيزيائيَّة العامَّة، مثل الضَّوء والطَّاقة والجاذبيَّة. وقد سعى ألبرت آينشتاين حتَّى ساعةِ مماته إلى إيجادِ صيغةٍ نظريَّةٍ لتوحيد حقول الفيزياء، فلم يُوفَّق؛ كما حاول إستيفن هوكينغ المُضيَّ في نفسِ الطَّريق، فلم يُوفَّق هو الآخر؛ ويُمكِنُ تفهُّمُ جزءٍ من سعيِهِ هذا من مشاهدةِ فيلمٍ عن حياته، اختار له المخرِجُ عنواناً مُوحيَاً، هو: "نظريَّة كلِّ شيء"؛ وهي ما زالت حُلماً يُراود المشتغلين بالفيزياء، الذين ينتظرون بأنفاسٍ متلاحقة، نتائجَ التَّشغيل المتقطِّع لمصادم هيدرون الكبير في معهد "سيرن" بسويسرا.
ما نُريدُ أن نخلُصَ به من هذا التَّناول هو: لا أحدَ منَّا يملك الحقيقة كلَّها، بل يحتاجُ العلماءُ وغيرُهم من المُشتغِلين بالقضايا التي تهمُّ النَّاسَ إلى التَّمسُّكِ بآرائهم إلى أن يتَّضحَ أمام أعينهم بُطلانُها؛ كما يحتاجون إلى تفهُّمِ وجهات نظر الغير، والاستعدادِ لتقبُّلِها والدِّفاعِ عنها على مرأًى ومسمعٍ من الجميع، إذا ما ثبُتَ صِحَّتُها. وقد ظللنا في هذا الرُّكن (أو الخيط) نعتقدُ بأنَّ المعرفة جهدٌ جماعي، وأنَّ الحركة الثَّقاقيَّة لا تنمو بجهدِ المثقَّفين الأفراد وحدهم، إلَّا إذا انفتح أمامهم الفضاءُ الثَّقافيُّ الدِّيِمقراطي، الذي تتصارعُ فيه الأفكار، وليس الأفراد، وتُحترَمُ فيه كافَّةُ وجهاتِ النَّظر، إلى أنْ يتبيَّنَ، بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ القريب، بُطلانُ أيٍّ منها، من هذا الجانب أو ذاك.