الرَّاوي مؤرِّخاً
الرَّاوي مؤرِّخاً أبوطالب محمد انغمس الحسن محمد سعيد في كتابة الرواية التاريخية حتى مشاش العظم، ومثّلت أعماله الروائية محطّة بارزة في مجال السرد الروائي السوداني، فالتاريخ أخذ مشارع عدّة ومعالجات مختلفة
الرَّاوي مؤرِّخاً
أبوطالب محمد
انغمس الحسن محمد سعيد في كتابة الرواية التاريخية حتى مشاش العظم، ومثّلت أعماله الروائية محطّة بارزة في مجال السرد الروائي السوداني، فالتاريخ أخذ مشارع عدّة ومعالجات مختلفة وحوارات مفتوحة على الذاكرة السودانية اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، ساءل التاريخ واستخرج من مضامينه قضايا واجه بها التحوُّلات الاجتماعية والسياسية في تحديد مدقق، وتمثَّل التاريخ السوسيوثقافي في رواية "عطبرة وزمن الترحال والعودة و أبو جنزيرو البقعة ورجل من دلقو" وغيرها من الروايات الأخرى التي تبنّت هذا التوجه.
تصدى الكاتب في رواية " ثلوج على شمس الخرطوم" قَيد الدراسة الصادرة عن مركز عبادي للدراسات والنشر - صنعاء / اليمن 2010م، للتاريخ من زوايا متداخلة تختلف اختلافاً جوهرياً عن الروايات المشار إليها. انخرط الكاتب في المحتوى التاريخي الاجتماعي بصورة لافتة للنظر، فأعطى بنية السرد لراوٍ مؤرِّخ معايش ومعاصر أحداث الرواية ومُدركاً مستويات تحرُّك أبنيتها الفنية، ومجال هذا الراوي يقترب من مهام الرواي العليم، ويختلف عنه، بحيث إن الراوي الأخير يدرك تفاصيل أي بنية سردية، وملماً بحياة شخصياته وجذورها وميولها بصرف النظر عن معاصرته لمجريات أحداثها وتكوينها الثقافي والاجتماعي، باعتباره شخصية مبنية وفق مُتخيّل سردي يسمح دورها بمعرفة الجوانب المتعلّقة بمرويته، أما الراوي المؤرِّخ الذي أقصده هنا، هو راوٍ مؤرِّخ ينظر للبنية السردية من وجهتين أساسيتين:-
الأولى: معاصرته للحقب المختلفة التي يؤرِّخ لها داخل السرد.
ثانياً: يعطى شخصياته مساحة الحكي الغائب عنه، وهنا يتعامل مع رواة ثانويين يمدونه بروايات شفاهية عن حقب مهمة في التاريخ، وأمكنة لها حضور في الذاكرة، وشخصيات لها وزن سوسيوثقافي أو سياسي.
رصد الراوي المؤرِّخ في رواية "ثلوج على شمس الخرطوم " مجريات ثلاثة أمكنة رئيسة تمركّزت حولها مدوناته وهي: سجن كوبر، الحلة الجديدة، وحلفايا الملوك. كتب خلال هذه الأمكنة تاريخ ضمن الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي؛ بحكم أنه أستاذ تاريخ بالمرحلة المتوسطة حينها إضافة لمعايشته اللصيقة.
افتتحت الرواية نقطة انطلاق أحداثها بثلاثة مداخل رئيسة أسس عليها الكاتب متون سرده؛ مستشهداً في المدخل الأول بنموذج من شعر صلاح أحمد إبراهيم حين قال:
نترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا لنا ذكر وذكرى من فعال وخلق/ ولنا إرث من الحكمة والحلم وحب الآخرين/ وولاء حينما يكذب أهليه الأمين، والمدخل الثاني؛ كلمة عبد الله الطيب الواردة في مقدمة ديوان نحن والردى للشاعر نفسه، وركّز الحسن على عبارة" ماتوا سَمبلة"، وأما في المدخل الثالث، فقد قدّم الراوي المؤرِّخ اعترافات مطلبية من صديقه "دفع الله" الذي حمّله أمانة كتابة حكاية المستضعفين الذين صنعوا التاريخ، والتاريخ لا يكتبه الأقوياء والمستكبرون دوماً؛ وإنما للبسطاء دوراً كبيراً في صناعته من خلال تضحياتهم وحضورهم الذي يتطاول متجاوزاً النسيان! تقترب هذه النظرة مع نظرة جماعة التابع التاريخي الذين أسندوا دور كتابة التاريخ لأقليات تعيش على هامش الحياة، والأقليات في الرواية هم : (عمر ،عيسى ومحمود) باعتبارهم شخوص من فئات مهمشة مدّت المؤرِّخ بالمزيد من الروايات الشفاهية عن فترات متعلّقة بتحوّلات صديقه وهي غائبه عنه.
جسّد المدخل الأول والثاني عبارة "ماتوا سَمبلة" أوضاع المعتقلين السياسيين جراء التعذيب الذي واجههم في كوبر. وسجن كوبر نفسه مفتوح على أجيال مختلفة وأمزجة مبعثرة، وثقافات متنوّعة، وبيئات متداخلة، وشجون متراكمة، وطموحات مترادفة، وآمال منحورة ورجاءات مقتولة.. (الرواية ص38)، مثّل هؤلاء المساجين مصدر خوف للسلطة الحاكمة، مِمَّا استدعى رئيس الجمهورية أن يتخذ قراراً بزيارة السجن وكسر شوكة المساجين الوطنيين أمثال: (صلاح، هلال،هاشم ونو الدائم)، فهؤلاء معروفون للجميع بمواقفهم السياسية المصادمة وتمّت "استضافتهم" في أغلب سجون السودان في كُلّ نظام تشرق شمسه علينا...كأنما السجن هو قاعدة حياتهم المألوفة (الرواية ص25). شكّل هؤلاء السياسيون تيار مقاومة داخل السجن مع زيارة الرئيس، وأعلنوا على ملأ كوبر الامتناع عن إجابة أي سؤال يوجّهه الرئيس، وقرّروا مواجهته بالصمت المستفز، وعندما أقبل موكب الرئيس والتقي بهم وجهاً لوجه؛ قذفوه بنظرات حادة؛ دلالة على شتمه ومواصلة العمل السياسي حتى سقوطه، ووقع هذا الاستقبال كوقع الصاعقة عليه، مِمَّا صبّ غضبه على إدارة السجن، وأمرهم أن يبدلوا مكان السجن إلى مكان تأديبي تُمارس فيه أبشع أنواع التعذيب من عقاب وممارسة أعمال شاقة، فتضاعفت أساليب القهر والحرمان من الإسعاف خارج السجن لأي جهة علاجية تتولى أمرهم، لأن إدارة السجن تريد لهم الموت ببطء، ونتج جراء هذه الأعمال حدوث حالات وفيات وتفشّي أمراض؛ فمنهم من قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر.
كتب الراوي المؤرِّخ عن مجتمع كوبر، وما يثور داخله من تبديل للأنشطة الثقافية والرياضية بعد زيارة الرئيس باعتباره أحد المساجين وشاهد عيان وشهادته موثوق في صحتها.
ينتقل الراوي من كوبر بذاكرته لمعهد بخت الرضا واحتجاجه مع زملائه عندما أدخلت إدارة المعهد ماسورة ماء للاستحمام، ورفعوا حينها مذكرة احتجاجية صارخة اللغة مطالبين فيها صيانة الحمامات وتزويدها بمواسير مياه وإضافة أدشاش، وقُوبلت مذكرتهم بالرفض من قبل الخواجة ( طوسون) قائلاً: (نحن نريدكم معلمين لكُلّ السودان، في قراه ووديانه وصحاريه وغاباته، في حضره وريفه ومراعيه، في قبائله المستقرة والرُّحل..... فإن ادخلنا مواسير المياه والأدشاش في الحمامات ووجد المعلم هنا الحياة السهلة المريحة واعتاد عليها، وأصبحت جزءاً من ثقافته وطريقة سلوكه وحياته ومعايشه، فمن أين لنا أن نجد المعلم المفيد الصابر المعتاد على الحياة الشاقة... (الرواية ص19)). يوضِّح مقصد مذكرة الرفض؛ أن الإنجليز أسسوا طريقة منهج تعليمي يتوافق مع بيئات السودان المخلتفة؛ حتى يتمكّن موظف الخدمة المدنية الاعتياد إلى مشاق تنقلات السفر والتأقلم مع أي مناخ جغرافي وثقافي أياً كان تردي خدماته.
يقفز الراوي المؤرِّخ إلى محطّة تاريخية أخرى تتعلّق باتحاد المعلمين وتغيُّر هيكلته الإدارية، حين تم اختياره رئيساً له حتى يباشر مهامه النقابية في جوٍّ سياسي، وفق قوانين ولوائح إدارية مكّنته التوثيق لهذه الفترة المهمة المفتوحة على تواريخ اتحادات المعلمين، ودورها السياسي المعروف، ثم ينتقل الرواي إلى سردية أخرى من صميم عمله كمؤرِّخ، ولكنه في هذه السانحة يسمح لراوي آخر يمده بروايات شفاهية عن صديقه الغائب (أبو الدفاع) فنِّي المختبرات الذي درس في كلية علوم الصحة بالخرطوم، ثم اُبتعث إلى جامعة ليدز ببريطانيا، ويعود بدراسات موسّعة في علم المخترات. هنا يبرز دور الراوي الثانوي ويمدّه برواية شفاهية عنه هو ويقول:( وقيل لنا أيضاً إن صديقه أستاذ تاريخ اختفى ذات يوم فجأة في ظروف غامضة)، تداخل هذا السرد وتحوُّله من الراوي المؤرِّخ إلى راوي ثانوي، نتج عن فقدانه لصديقه جراء فترة اعتقاله هو، مِمَّا أدّى لغياب الكثير من الحقائق والالتباسات التي التفت حول غيابيهما، مِمَّا سمح بدخول راوٍ ثانوي يربط بين متواليات السرد. اهتمام الرواي بحياة دفع الله يمثل جزءاً من التاريخ العام للسياسيين الوطنيين؛ ولأنه فُصِل من الخدمة المدنية وقضى قرابة العشرين عاماً يبحث عنه، حتى تحوَّل دفع الله في الآونة الأخيرة من حياته إلى شخص أقرب للمتصوِّف المتجول الذي يرى أن الحياة يكمن سرّها في مسار الزهد، إضافة إلى روابط المكان الاجتماعي الذي قضيا فيه سنين عمريهما في غرفة مهجورة بالحلة الجديدة – الخرطوم، والتي شهدت ميلاد الكثير من المدونات والمذكرات المحفّزة للمقاومة. يعود الرواي مرّة أخرى إلى دائرة التاريخ، وتنفتح عودته على الفضاء السياسي؛ عندما انضم إلى منظمة سياسية بمعية صديقه دكتور النعيم أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية، ونظما خطواتهما لمقاومة الحزب الحاكم بأدوات سلمية، وهو سبب دفع الرواي كتابة مجموعة من المقالات تحت شعار (الإثراء بلا سبب تحت مظلة الشرعية) ثم كرّسا جهديهما النضالي ضدّ النافذين في الحكم؛ لممارستهم الفساد في المال العام وبيع المؤسسات والمنشآت والأراضي والصفقات التجارية القائمة على مبدأ الربا، وحرّكا الشارع العام والجامعة ضدّ هذا الفساد واستعانا بمحاميين ديمقراطيين أوكلا لهما رفع الدعاوى المدنية والجنائية التي طالت المسؤلين. ثم توسّعت دائرة نضالهما وضمّت عدداً من منظمات المجتمع المدني والكيانات الشعبية والأحزاب اليسارية، كشفت هذه المدوّنة السردية معاملات الفساد التي طالت الحكومات الشمولية في تاريخ السودان السياسي الحديث؛ مِمَّا حفَّز الراوي رصد تحركات الجماهير ضدّ سلطتهم المتهالكة.
يحوِّل الرواي بوصلة مدوّنته صوب حلفايا الملوك مسقط رأسه، ويلقي الضوء على تاريخها الاجتماعي، وإثنياتها المتباينة بحكم أنه ينتمى إلى أسرة عريقة، ويوضّح منابع جذور المنطقة تاريخياً حين قال:( جاء أهلي من تلك الأصقاع الشمالية البعيدة عند منحنى النيل.... مُدّعين إنهم سلالة ملوك النيل... حملوا سماتهم وطابعهم الخاص المميّز، شكلاً وخلقاً وسلوكاً، والملك في هذا البلد بسيط كأهله، له بساطة فطرتهم ورقة حالهم...إلخ (الرواية ص 145)). ويتحدث عن جده وانتمائه لإحدى كيانات الإدارة الأهلية، تلك المنظومة الذي جاء به الإنجليز ويقول عنه:( استقي من نوائب الأيام التي تعلم الحجر ... وكانت له كلمة مسموعة عند الإنجليز .. بل كانت له حظوة رفيعة، عند السير دوجلاس نيوبولد السكرتير الإداري الأشهر...(الرواية ص152)).
ركّز الراوي خلال التاريخ الاجتماعي لحلفايا الملوك على ثلاثة موضوعات أساسية: الأول إلقاء الضوء على الرأسمالية الوطنية المتمثلة في شخصية خاله (عبد الواحد) الذي أُعتقل بسجن كوبر منفرداً؛ بحكم أنه يمارس نشاط اقتصادي غير قانوني من وجهة نظر الحكومة، واتهمته بتجارة العملة وتصدير السلع. ثم يلقي الضوء أيضاً على شخصية (بابكر) وهو نفسه يقوم بمقام الرأسمالي الوطني، هاتان الشخصيتان تعود استثماراتهما بفوائد عدّة منها؛ تطور ونهضة الاقتصاد الوطني وانفتاحه على مشارف أخرى. ووجودهما ( عبد الواحد وبابكر ) داخل بلد تحكمه عصابة همجية يمثل مصدر ضجر وتنافس للحكومة، لأنها لا ترغب في وجود رأسمالي آخر ينافسها، فتعاملت معهما بقسوة و صادرت ممتلكاتهما وضيّقت عليهما الخناق وعطّلت مسيرة أنشطتهما الاقتصادية، فاضطرا لأخذ قرار الهجرة لممارسة دورهما الاقتصادي في بلاد تقدّر أمثالهما دون شروط ولاء حزبي أو قبلي. توضّح هذه الحقبة إحدي مضايقات الحكم الشمولي في عهد مايو، وانتزاعه للكثير من ممتلكات الرأسماليين الوطنيين، وطال فعل المصادرة و الانتزاع حتى شمل فترة حكم الأخوان المسلمين مؤخراً. يتعلّق الموضوع الثاني، بتاريخ شخصي مرتبط بحياة الفتاة (هدى) الناشطة الاجتماعية، وهو سرد مستمد عن راوٍ ثانوي، لأن الراوي المؤرِّخ لم يعاصر تمدُّد مشروعها الاجتماعي ويخبره قائلاً:( فتحت هنا في حلفايا الملوك ثلاث دور لرياض الأطفال... بالتنظيم مع وزارة الشؤون الاجتماعية، وأسست جمعية نسائية لمحو الأمية، وعندما انتظم العمل هنا بالحلفايا رَمت كُلّ ثقلها في دار رعاية اللقطاء بالمايقوما، وساهمت بمالها وبما جمعته من تبرعات سخية لزيادة مواد الدار... (الرواية ص173)). يوضِّح هذا السرد في مستواه العام إسهام هدى وانخراطها في النسيج الاجتماعي، وعلى المستوى الخاص يعني للراوي المؤرخ جزءاً من تاريخ حلفايا الملوك الاجتماعي. أما الموضوع الثالث يتمثل في انعزال الراوي المؤرخ من المجتمع، واختياره لكوخ نائي يبتعد عن أعين الأمن بحكم أنه حديث الخروج من سجن كوبر، ولأنه يرى وجوده في الكوخ مأمناً له، وتفادي إدخال الأسرة في مشكلات مع السلطة، وانعزاله من المجتمع يؤكد حقيقة مسار معرفي يتحرك فيه المؤرخون والمثقفون والمتصوِّفة، يتأمّلون وينقحون ما دوّن عن حياة الناس، ولسبب آخر ناتج عن اعتياده للحياة في معزل عن المجتمع طيلة سفرياته وغيابه وترحاله الذي لا يعلم عنه أحد.
أخلص مِمَّا تقدّم :
أولاً: امتازت الرواية ببناء شخصية راوٍ مؤرخ يسرد تفاصل حقب عاصرها.
ثانياً: تداخل عناصر رواة آخرين يمدّون الراوي المؤرِّخ بروايات شفاهية عن حقب لم يعاصرها أسهمت في ترابط محتوى السرد.
ثالثاً: جسّد الكاتب خلال الأمكنة الثلاثة: سجن كوبر، الحلة الجديدة وحلفايا الملوك، وبشكل خاص في المكانيين الآخرين التاريخ الاجتماعي، وفي المكان الأول التاريخ المنكوب المتعلّق بأوضاع مساجين كوبر بكُلِّ ما يحمله من اضطهاد وتعذيب وقتل.
رابعاً: أبرزت الرواية دور الرأسماليين الوطنيين في التنمية الاقتصادية.
خامساً: اشتغلت الرواية على ناصية لغة سردية ناضجة ومضيئة في آن.