عن التراث الشعبي وقضايا الرواية

عن التراث الشعبي وقضايا الرواية الكاتب والناقد والشاعر السوداني د.محمد الفاتح يوسف أبوعاقلة - هناك صلات واضحة بين التراث السوداني والتراث العربي تحت ظلال شجرة زونيا في قلب الجزيرة الخضراء ودمدني جاء حواري مع الأستاذ الجامعي والناقد الكاتب الشاعر محمد الفاتح يوسف أبو عاقلة ، والذي نال درجة الدكتوراة مؤخرا بإطروحته عن الرواية السودانية "

عن التراث الشعبي وقضايا الرواية

عن التراث الشعبي وقضايا الرواية


الكاتب والناقد والشاعر السوداني   د.محمد الفاتح يوسف أبوعاقلة


- هناك  صلات واضحة بين التراث السوداني والتراث العربي

 

 

تحت ظلال شجرة زونيا في قلب الجزيرة الخضراء ودمدني  جاء حواري مع الأستاذ الجامعي والناقد الكاتب الشاعر محمد الفاتح يوسف أبو عاقلة ، والذي نال درجة الدكتوراة مؤخرا بإطروحته عن الرواية السودانية " 1948 -2009 " ولمحمد الفاتح عطاء كبير في مجال البحث التراثي والشعر والقصة والمسرح، ومن أهم مؤلفاته من خصائص الشعر الشعبي السوداني.و يمرون بالقلب، ديوان شعر و اتجاهات الرواية في الأدب السوداني بجانب العديد من المسرحيات والقصص القصيرة والدراسات وهو إعلامي قام بإعداد وتقديم العديد من البرامج التلفزيونية والإذاعية أشهرها برنامج " بوادينا" الذي يقدم من تلفزيون السودان وسبق له  أن حاز علي جائزة الفلكلور من وزارة الثقافة .. إلتقينا في محاور شتي تناولت الرواية السودانية وقضاياها والتراث الشعبي ومناهج النقد


حوار : محمد نجيب محمد على

 

 


1. هل هذا زمن الرِّواية أم زمن الشِّعر ؟

مقولة زمن الرواية، وزمن الشعر، ليست مقولة دقيقة دقة قطعية ومطلقة ! نعم إننا في زمن الرواية نوعاً ما؛ لأنها الأقدر على تمثل الكم المركب والمعقد، على مستوى الصراع بين مكونات المجتمعات الإنسانية، ونسبة للحراك الكوني المذهل، الذي يسقط شفرته الحادة على لحم وعصب وكيان الشخصيات الروائية، فأنه يمكننا القول بحذر : إن الرواية هي الأقدر بتقنياتها السردية المتنوعة، والمراوغة والمتداخلة، على التعبير عن هذا التعقيد. وللشعر عالمه الأثير ميادينه التي لا يُجارى فيها، وله حضور مؤثر جدا في الإبداع الثقافي، وإن بدا لنا أن هذا الحضور قد ضمر نوعاً ما، وعندها يحق لنا القول: إنه ضمور له ما يبرره، فالنزوع إلى الواقعية بتجلياتها المختلفة، قد يبدو لنا أنه هو الأنسب لإنسان الحياة العجيبة المحيرة، التي نحياها الآن. وفي شعرية السرد، القادر على التصالح مع أجناس ثقافية عريقة، إشارة إلى أن الشعر له فاعليته في رفد تقنيات الرواية، التي لا تكف حفرياتها عن الغوص عميقاً في راسب الفعل الثقافي.
يلاحظ المتابع لمسار الثقافة السودانية أنها قد أعلت من شأن الشعر وأعطته الريادة فترة طويلة، تمتد حتي أربعينيات القرن العشرين، ولكن هذه الريادة بدأت تنسحب تدريجيا، وتتعرض لمزاحمة ومنافسة من قبل القصة والرواية، والأخيرة تجد لها منافذ عبر السينما والتلفزيون، ووسائط الإعلام الأخرى.

2. ماذا أضافت رسالتكم للدكتوراه في مجال الرواية السودانية .هل من حقائق جديدة ؟

يعتبر الموضوع الذي تناولته الرسالة إضافة جديدة، بحد ذاته ( اتجاهات الرواية في الأدب السُّوداني 1948 - 2009م) ، فليس هناك عنوان وقفه كاتبه، لاتجاهات الرواية السودانية في الفترة من 1948 - 2009م. بحيث نجد أن موضوع الاتجاهات التي ينتهجها السرد الروائي تحتاج من الناقد عناية كبيرة، لما فيها من دلالات على تطور الرواية السودانية، وبيان مسارها كماً وكيفاً. وهذا ما تصديت له في رسالتي. وأحسب أن مخرجات الرسالة، قد أضاءت معميات كثيرة حول عالم الرِّواية السُّودانية مثل: عدم معالجتها لقضايا القطاعات الرعوية بالشكل المناسب، مع العلم بأنها (الرَّعوية)، تمثل عنصراً مهما من العناصر المكونة للمجتمع السوداني، وكذلك غياب شريحة عمال المصانع .بالإضافة إلى معالجة الرسالة لبيبلوغرافيا الرواية السودانية وتحليل مسارها بيانياً. كما توصلت إلى أن اتجاهات الرواية تتداخل، وتنصهر في النص الواحد، بحيث يكتسب السرد فاعلية عالية. وهذا قد يربك الباحث، في بحثه عن الحدود الفاصلة بين الروايات.
ومن الأشياء التي يمكنني إضافتها هنا، أن الرسالة قد استصحبت معها آراء خمسة عشر روائياً وناقداً، وقام الباحث فيها بمحاورة وتحليل هذه الآراء، وقد توصل إلى نتائج دعمت خط البحث وأكسبته قدراً كبيراً من الموضوعية.

3. تطور أساليب السرد واستخدام الكتاب لتقنيات جديدة في الكتابة خرجت بالرواية عن البناء التقليدي ؟

إنها حتمية متوقعة، فالسرد الروائي لا ينفصل عن مسار الحياة، وخبرات الإنسان وتجاربه فيها...فالتقنيات الحديثة مثل: تفتيت وحدات الزمن، والفلاش باك، وتعدد الأصوات (البولفونية)، والأسطرة، والشعرية، وتوظيف عتبات الرواية، التي يسميها الروائي السوداني المبدع إبراهيم إسحق Epigraphy. وإطلاق الطاقة الكامنة في اللغة، والمزاوجة بين الفصيح والعامي، وفق آلية انتقائية خاصة، وأنسنة الكائنات، وغيرها علامات على تطور لعبة السرد الروائي.
لا يعني كل هذا أن البناء التقليدي قد انهار تماماً ...لا زلنا نجد له حضوراً في عدد كبير من الكتابات الروائية، التي لم تتمكن من استيعاب آلية التطور التي أدركتها الرواية الحديثة.

 

 

 

4. تتهم الرواية الجديدة في السودان بأنها تهتم بالمسكوت عنه لجذب إهتمام القاريء؟

هذه ظاهرة جديرة بالوقوف عندها، ولقد أشرت إليها في رسالتي، حيث تبين لي هذا الأمر، فالكتابة الروائية التي تراهن على هذا المسكوت عنه، تمارس نوعا ما قاعدة ( خالف تذكر)، وتلعب على رهان (الممنوع مرغوب)، لكي تكسب تعاطف القراء، وتجد لها مكاناً في مسار الرواية، وقد تنجح هذه الحيلة وتنطلي على كثيرين، ولكنها وللأسف، تلجأ إلى نوع من المفاصلة مع معطيات مجتمع الرواية، وهذه معادلة صعبة، تهمس للقاريء بنوع من انعدام الصدق، وأمانة الأدب وواقعيته، التي تعيد صياغة الراهن وفق معمار جدلي صارم، يحذر خيانة نبض هذا الراهن.
فلمن يكتب الروائي؟
وهل نطالب بموت المؤلف فيما يكتب؟
 ولماذا نحاصر الراوي بالأطر الجامدة؟
وهو الذي يسعى لإعادة صياغة العالم وفق رؤاه وأحاسيسه.
كلها أسئلة لا تبرر الولوغ في المسكوت عنه بالمباشرة الفجة ...هناك معادلة أخرى، وتكنيك أكثر تقديرا للآخر، يمكن للروائي تجريبه، وقد جربة الطيب صالح في عرس الزين، ونجحت تجربته جدا.

5.إلي أي حد إستفادت الرواية من الموروث الشعبي المحلي والعربي؟

       لم تستفد الرواية السُّودانية من الموروث الشَّعبي كما يجب! ولو فعلت لقدمت للبشرية عطاء فريدا ومدهشا، لأن السودان غني بموروث أحسبه من جذور الحضارات الإنسانية، وتعدد الإثنيات المتعايشة (أكثر من 700 إثنية)، والتي تتبادل هذا الموروث يمثل رافداً خصباً ومتاحاً للسَّرد الرِّوائي السُّوداني، ويكفي كشاهد على هذا أن جنوب النيل الأزرق في السودان، حيث قبائل البرتا، والأنقسنا، والأدوك، والجمجم، والسركم، والدوالا، والكيلي، والقمز، والراقريق، والهمج، والوطاويط، والجبلاويين، والبرون وغيرها، وكلها لم تجد موروثاتها حضوراً في السرد الروائي السوداني. بالرغم من ثراء هذا الوسط الإنساني بينابيع الخبرات والمعارف المدهشة، التي ظلت حبيسة فلسفة المناطق المقفولة، وبفعل الحروبات وعزل الهامش، ولقد كتبت بأدواتي الخاصة عن هذا الفضاء الثقافي المبهر، شعراً ومسرحاً، والآن أعمل على رواية تستمد كل عناصرها من هذه المنطقة الغنية جداً.
ليت الروائي السوداني يولي موروثه قدراً كبيراً من العناية ، فمن هنا يبدأ حوار الثقافات، وعند هذا الحد الفاصل تتكسر هيمنة الاستلاب الثَّقافي، وهذا هو الفعل الذي يمكنه أن يغنينا عن السُّقوط في مباشرة المسكوت عنه، وانتهازيته الفجة.

6. موقع الرواية السودانية في خارطة الرواية العربية ؟

يروج رأي مفاده أن الرواية السودانية لا تجد حظها الذي يليق بها في خارطة الرواية العربية، ولكنني أرى ضوءا عند آخر النفق، وأعتقد غير ذلك من أنها ذات حظ لا بأس به، فالرواية السودانية بحساب الكم والكيف؟ في مرتبة متقدمة جدا، وبخاصة في كيفية تناولها لقضايا الإنسان السوداني، فهي توظف خبراتها، وتنفتح على الفضاء العالمي، وهناك أقلام روائية تجد تقديراً كبيراً من النقاد العرب، وليس على مستوى العالم العربي فحسب، فما يكتب في المجلات والصحف العالمية والدوريات المتخصصة عن الطيب صالح، وليلى أبوالعلا، وطارق محجوب، وإبراهيم إسحق، وزينب بليل، والحسن البكري وعثمان الحوري، وأمير تاج السر، يدل على مكانة الرواية السُّودانية، وتميزها بخصوصية وتفرد.

 

 

 

7. ماهي الإضافة النوعية التي قدمها الطيب صالح للرواية ؟

قدم الطيب صالح روايات أدهشت القاريء، لأنها منتزعة من الواقع الحي في المجتمع السوداني، ولأنه صدق في منطلقاته، وأمسك بخيوط السرد بحرفية عالية، تستمد عناصرها من البؤر السحرية، التي يمر عليها الناس يوميا، ولا يرونها كما تراها رواية الطيب صالح .. فتتفجر عندها صيحة الدهشة من أفواه الناس ( يا سلاااااااام!).
   الواقعية السحرية، وشعرية السرد، وتفتح وردة اللفظ، في بساتين صحو المواقيت السودانية، تمكن الطيب صالح من وضع الرواية السودانية في خارطة الروايات العالمية، فلا زالت الأقلام تكتب عن شخوص رواياته، وعن تقنياته في الكتابة، وعن تقطيعه للاحداث في السرد، غواية السرد بضمير الغائب (ها) (هو)، تفعيل تيار الوعي ودفقات السرد
استخدام مستويات الانزياح في لغة السرد، مع توظيف صراع المتقابلات، مثل: الخير والشر، الكرم والبخل، الحرب والسلم، المرأة والرجل. ...الخ، مع تركيب النسيج البصري للصور، وتوظيف المونلوج الداخلي، وتكثيف رصف العتبات كنص مواز.
إنني أثق ثقة تامة في أننا سوف نقف على مزيد من الإعجاز في سرديات الطيب صالح، فهي ميسورة وتعانق القاريء بطلاقتها وعفويتها، و(تشجي كبده ولا يجهل شجاها) ، وهذا هو الفن الرفيع، تتذوقه وتهتز لنشوته، وربما تدرك ما وراءه، وقد لا تدرك ! وفي هذا إضافة ما بعدها إضافة، ونحن بكل طاقاتنا نسعى لمعرفة سحر سردياته وأسرارها، فهل يمكننا ذلك؟ ربما !

8. ماذا عن استخدام المناهج النقدية الحديثة، وتطبيقها علي الإبداع العربي في الشعر والرواية خاصة ؟

    علينا الحذر حيال هذا الأمر، فالمناهج النقدية المعلبة، قد لا تعين الناقد على إعادة قراءة النَّص كما يجب، وعلى انتاج نص جمالي موازٍ ومحايثٍ للنص الروائي، وذلك لأنَّ لكل نص شفراته وعلاماته، فمن أين للقوالب النقدية الجاهزة، من التناسب مع الطفرات الجينية للسرد المشاكس، المضاد للرتابة، والذي لا يمكن توقعه والتكهن بمآلاته. وحقاً إنِّ النص الروائي يقترح لنا الأدوات والتقنيات التي يمكننا أن نعالجه بها نقدياً. فالمناهج النقدية الجامدة لا تصلح لكل البنى السردية، وبخاصة الرواية في هذه المرحلة من حضورها، فهي تسبق النقد كثيراً.

 

 

 

9.التُّراث الشَّعبي السوداني، وعلاقاته بالتراث الشعبي العربي والخليجي، بالذات ؟

هذا مبحث طيب ومهم جداً، لأننا نجد صلات واضحة بين التراث السوداني والتراث العربي، والشواهد كثيرة، تتمثل في الأمثال الشَّعبية، والحكايات، والشِّعر الشَّعبي، والقصص وغيرها من أنواع التُّراث الشَّفهي. وفي مجال التراث المادي وقفت على قواسم مشتركة في الأزياء والأطعمة، والمساكن، والأدوات المادية المختلفة.  


  10. العلاقة بين شعر الصعاليك والشُّعراء الهمباتة في السُّودان؟

تتفق ظاهرة صعاليك العرب مع ظاهرة الهمباتة في السُّودان، فهي سلوك مجتمعي يقوم به الصعلوك والهمباتي لخلق توازن مجتمعي وعدالة يرى ضرورة تحققها نصرة للفقراء المحرومين، الذين لاحظ لهم من كل شيء، بينما يتوفر كل شيء لدى أصحاب المال المكدس، الذي لا يبرون به الفقراء، المساكين المعدمين.
ويتفق الصعاليك والهمباته، في أنهما على خلق قويم، وشجاعة وكرم، وعفة، ومواقف إنسانية، وهكذا كان الصعاليك: عروة بن الورد، والسليك بن السلكة، ومالك بن الريب وكذلك كان الهمباتة: طه الضرير، والطيب ود ضحوية، وقمر الدولة.. وتحكي أشعارهم ومواقفهم عن بطولة واضحة، وقيم وخلق وعفة، وأيضاً لهم مظهر سمح ومتميز؛ لهذا تجد هذه الظاهرة تعاطفاً من المجتمع الذي تدور فيه.

11. محمَّد الفاتح جرب الكتابة للمسرح وفي القصة والشعر والنقد والغناء إلي أي مدى تداخل هذه الإبداعات يثري التجربة الإبداعية أم يشتت الجهد؟.

تداخل الأجناس الإبداعية ممكن وبمقدوره أن يثري تجربة الكتابة الإبداعية، لأن هناك عناصر مشتركة بين هذه الأجناس مع احتفاظها بخصوصياتها. ويمكن للكاتب أن يبدع في أكثر من جنس أدبي. وكان أخي وصديقي الأديب شيخ مترجمي السودان الأستاذ السر خضر، يصف من يبدع في أكثر من جنس أدبي، بأنه يحمل أكثر من بطيخة واحدة.