قصة فيلم

قصة فيلم بقلم : زين العابدين الحجّاز الحديث عن الأشجار (Talking About Trees) تدور قصة الفيلم حول أربعة أصدقاء من مخرجي الأفلام السودانية . بعد ثلاثين عام من الافتراق

قصة فيلم

قصة فيلم

بقلم : زين العابدين الحجّاز

الحديث عن الأشجار (Talking About Trees)

 

 

تدور قصة  الفيلم  حول أربعة أصدقاء من مخرجي الأفلام السودانية . بعد ثلاثين عام من الافتراق والمنفى وتوقف السينما وإغلاق دور العرض اجتمعوا من جديد في وطنهم الثائرالجريح و حاولوا إنعاش حلمهم عن طريق إعادة الحياة لدار عرض سينمائية مهجورة .

 

 

بدأت أحداث الفيلم في عام 2015 عندما كان أربعة رجال من مخرجي الأفلام وهم أعضاء جماعة الفيلم السوداني يتنقلون بين قرى السودان لنشر الثقافة السينمائية فقرروا أن يعيدوا تأهيل دارعرض سينمائي لإعادة المواطن السوداني إلى السينما . مع تطور الأحداث تعرف المشاهد على الأربعة بشكل أعمق ليتضح أنهم من رواد السينما السودانية الذين تعلموا في الغرب وصنعوا أفلاما في السبعينات والثمانينات حصدت جوائز من مهرجانات عربية ودولية. درسوا السينما بمصر وألمانيا وروسيا في الستينيات والسبعينات ثم عادوا للسودان حاملين أحلامهم بنشر ثقافة السينما وصناعة الأفلام فأسسوا جماعة الفيلم السوداني في عام ١٩٨٩. بعد ثلاثين عام من الافتراق والمنفى وتوقف السينما وإغلاق دور العرض اجتمعوا من جديد في وطنهم الثائرالجريح وحاولوا إنعاش حلمهم عن طريق إعادة الحياة لدار عرض سينمائية مهجورة . المخرجون هم (الطيب مهدي) و (منار الحلو) و (إبراهيم شداد) و(سليمان محمد إبراهيم) .   بذكاء كبير وسلاسة عرض الفيلم قصتهم من زاويتين : الزاوية الأولى هي النهضة التي كانت تعيشها السينما السودانية في زمن سابق وربما غابت عن الذاكرة بسبب السنين الطويلة والزاوية الثانية هي قصة صداقة نادرة بين المخرجين الأربعة الذين جمعهم حب السينما.  كانت جميع دور العرض مهجورة ومغلقة منذ زمن طويل يعود إلى العام 1989 عندما وقع  انقلاب الإنقاذ العسكري وقرر أن يُحكم قبضته على البلاد فأمر بإغلاق دور العرض والمسارح وعرقلة الإنتاج الفني ليختنق بذلك جيل من السينمائيين كانوا يحلمون ببدء مسيرتهم العملية بعد تجارب أولى في أفلام حصلت على جوائز مرموقة من أوروبا وروسيا. ينتمي المخرجون الأربعة إلى ذلك الجيل وعلى الرغم من ابتعادهم لسنوات عن صناعة السينما إلا أنهم لم يفقدوا حماستهم لها و الأمل في استعادتها . إنهم يعرفون مقدماً وهم يخوضون تلك الرحلة بأن احتمال تحقيق ذلك الأمل ضعيف فالدولة  ما زالت تمارس تضييقاً مقصوداً على العروض الجماهيرية لكن ما من سبيل إلا المحاولة فشغفهم بالسينما ما زال حياً نابضاً و ملتصقا بجلودهم التي صارت اليوم متجعدة . في الأعوام التي تلت عودة الأبطال الأربعة  من الخارج اعتقلتهم السلطة أكثر من مرة ومن لم يُعتقل عاش الخوف من الاعتقال . حكى المخرج (إبراهيم شداد) أحد أبطال الفيلم في مشاهد متفرقة من الفيلم كيف كان يتم تعذيبه في مكان حدده بالاسم و بالزمن حيث كان مطلوباً منهم هم الفنانون الحكاؤون بأن لا يتوقفوا عن الكلام جبراً . قال (شداد) : " إن الثرثرة كانت الوسيلة الوحيدة لتفادي الصفعات . لو تصمت  كنت ستتعرض للصفع فيجب أن تتكلم لأنهم يأخدون منك الكلام ". قاد (شداد) صديقه (منار) إلى أحد الحمامات المهجورة وأعاد تمثيل مشهد تعذيبه عندما اضطر إلى الجلوس مقرفصاً بينما المياه تتساقط على رأسه قطرة قطرة في زمن بدى له كأعوام . ليس التعذيب الجسدي هو الأذى الوحيد الذي واجهه الأصدقاء الأربعة فلقد كان مطلوباً منهم أن يُبلغوا عن زملائهم ومعارفهم . قال  (شداد) : " كانوا يقولون (سليمان) شيوعي وأنا أقول لهم نحن أصحابه ولا نعرف بأنه شيوعي" . ضحك الأصدقاء  ثم ضحكوا في مشهد آخر عندما تمدد (إبراهيم  شداد) على الأرض في مقر جماعة الفيلم السوداني وسط الظلام وبدأ في مخاطبة الصراصير والفئران  من حوله هازئاَ : "حتى أنتم جنّدوكم !! " ثم يستعين الفيلم بمشاهد توثيقية لنساء يحملن السلاح ويذهبن إلى الحرب. توالت الأحداث وتبقى مغامرة إحياء دار عرض سينمائي هي المحرك الرئيسي إذ يصطدم مسعى المخرجين الأربعة بتعنّت السلطات والقبضة المحكمة للأمن على كل نشاط  ثقافي أو فني مما يلقي الضوء بشكل تلقائي على أحد أهم أسباب غياب السينما السودانية وهو السلطة التي استغلت الدين في تحريم السينما منذ العام  1989.  كان الأربعة يعيشون حالة من الرثاء المستمر لصناعة السينما المغدورة وكذلك الرثاء لأنفسهم . تجولوا بين الحواري والشوارع باحثين عن دارعرض يرضى أصحابها بتأجيرها لهم وهم سيتكفلون بإصلاحها وتجديدها على حسابهم الشخصي .   قام أحدهم بالإتصال هاتفيا مع أحد المالكين و طلب منه استئجار دار العرض التابعة له لكنه وقبل أن يُتم شرح الأمر له تلقى منه رداً بالرفض فلا أحد يريد اليوم وجعاَ للدماغ مع الدولة. واجه الأبطال ذلك الرفض بالسخرية . ذهبوا  لتسجيل حلقة إذاعية عن السينما وسألهم المذيع عن السبب وراء اختفاء صناعة السينما في السودان والتي كانت واعدة جداً وحققت حضوراً جيداً في المهرجانات الدولية خلال فترة السبعينيات والثمانينيات . أجابه (إبراهيم شداد ) :       " تقدر تقول إن السينما ماتت موت طبيعي موت فجائي  وإن هناك من غدر بالبطل وأسأل نفسك أنت من الذي غدر بالبطل ".  أخيرا تمكنوا من العثور على دار عرض مغلقة في الحارة الرابعة في مدينة الثورة بأم درمان  و للمفارقة صادف أن يكون اسمها سينما " الثورة " فاستأجروها . تفقدوا معداتها المنسية وشرائط الأفلام القديمة وهم يحكون عن الماضي بأسلوب لا يخلو من فكاهة. أخرجوا أيضا أدواتهم القديمة وأوراق محاضرات دراستهم للسينما وصورا لحفل وداع لهم في موسكو وحكوا عن أحلامهم التي لم تتحقق . تحركت أحلام المخرجين الأربعة ربما أسرع مما تتحرك أجسادهم الواهنة وأصروا على القيام بأنفسهم بمهام تنظيف قاعة العرض المهجورة منذ سنوات تمهيداً لافتتاحها. أعمال شاقة جعلت (شداد) يعلق على تعبه : "محتاجين جيل تاني من الرواد " . تعاملوا مع التحديات التي يواجهونها بحس فكاهي كبير و ببساطة. مواقف عديدة أظهرت الفكاهة والحميمية في صداقتهم ففي أحد المشاهد صعد أحدهم على سلم عملاق لتنظيف شاشة العرض البيضاء بينما كان يسنده أصدقاؤه فقال ساخرا : " تكنولوجيا !!.. كيف يا ترى يتعامل الألمان مع هذا الموقف ؟ لو كنت في ألمانيا لكنت وجدت كرسيا آليا يصعد بي في ثوان من الأرض إلى قمة الشاشة " . سأل شداد أصدقاءه : " طيب لو عرضنا الفيلم وبدأت الصلاة وهناك قبلة في الفيلم ماذا سنعمل ؟ " ثم اقترح كحل أن يقف أحدهم خلف آلة العرض وأن يحجب بيده صورة الفيلم حتى ينتهي الآذان أو تنتهي القبلة أيهما أقرب. على الرغم من الضحك الذي أثارته تلك الكلمات إلا أن المعنى قد وصل كاملاً فللخطاب الديني يد في تكبيل الفنون والتنكيل بأهلها في العالم العربي كله وليس فقط في السودان . تساءل أحدهم : " كيف سنعرض الفيلم في السينما المكشوفة بين ستة مكبرات صوت لمساجد يبدأ الآذان فيها في أوقات متتالية ؟ كيف كنا نشاهد الأفلام في الماضي ؟ " فردّ عليه صديقه :  " لم يكن هناك هذا العدد من المساجد ولم تمتلك مكبرات صوت " . العنف كان البديل الوحيد للفن المكبوت ومكبرات الصوت انتقلت من السينما إلى الجوامع والسلطة الدينية المطلقة كانت وسيلة أخرى لكتم الأنفاس . المأزق لم يعد فقط في قدرة المخرجين على صناعة فيلم جديد فإنهم يفهمون بأن الجمهور هو السر حيث لا توجد سينما بدون جمهور و الآن أصبح الجمهور العادي يفتقد الى ثقافة مشاهدة الأفلام في دور العرض . أجروا حوارات جانبية مع الشباب المهووسين بكرة القدم ولا يعرفون تسلية غيرها فسألوهم : " ما النوع الذي تفضلونه ؟ هل تفضلون  الأفلام الهندية أم أفلام الآكشن ؟ " أجابه شاب أكبر سناً بأنه لا يعرف معنى بأن يشاهد فيلما وسط متفرجين آخرين و لا يكون له حق في تبادل التعليقات حول الفيلم أثناء المشاهدة كما يحدث في مشاهدته لمباريات كرة القدم !! . لقد حلّ الاهتمام بكرة القدم محل الكثير من الفنون من بينها السينما بالطبع . في الوقت الذي يُخطط فيه الأصدقاء لعرضهم المنتظر ظهر سؤال جديد : " في أي ساعة يبدأ عرض الفيلم ؟ بعد آذان المغرب أم بعد آذان العشاء ؟  " . في المشهد الأخير من الفيلم و بعد أن صدم الأصدقاء بتعنت السلطات التي ينتظرون موافقتها لإقامة العرض ردد أحدهم وهو مستلقي على الأرض :  " أي زمن هذا الذي يكاد الحديث فيه عن الأشجار أن يصبح جريمة لأن ذلك يعني الصمت عن جرائم أخرى أشد هولا " .

 

 

 (الحديث عن الأشجار) فيلم وثائقي سوداني من اخراج (صهيب قسم الباري) وإنتاج مشترك بين فرنسا والسودان وألمانيا وتشاد وقطر . قام بالبطولة (الطيب مهدي) و (منار الحلو) و (إبراهيم شداد) و(سليمان محمد إبراهيم) . عنوان الفيلم مأخوذ من العبارة الشهيرة للكاتب و الشاعر و المخرج المسرحي الألماني (بيرتولد بريخت) : " أي زمن هذا الذي يكاد الحديث فيه عن الأشجار أن يصبح جريمة لأن ذلك يعني  الصمت عن جرائم أخرى أشد هولا " .

 

 

 انتقد الفيلم الأوضاع السياسية والاجتماعية بشكل ساخر على لسان شخصياته التي شهدت الأحداث السياسية والأنظمة الحاكمة المتعاقبة في السودان . أبطال الفيلم هي شخصيات حقيقية و التناغم والتباين بينهم كان ملموسا فنجد السخرية اللاذعة من (إبراهيم شداد) والهدوء من (سليمان إبراهيم) والرغبة في التعاون من (منار الحلو) والجدية الشديدة من (الطيب مهدي). ربما كان ل (إبراهيم شداد) نصيب الأسد من المَشاهد فقد كان بطل مشهد البداية وظهر وحيدًا في مشهد النهاية لكن هذا لم يمنع من التوظيف الجيد لبقية أبطال الفيلم . حصل الفيلم على عدة جوائز من مهرجانات سينمائية دولية منها جائزة غلاسوته أوريجينال للفيلم الوثائقي المتميز بمهرجان برلين وجائزة النجمة الذهبية للفيلم الوثائقي في مهرجان الجونة السينمائي . لم يعتمد الفيلم  على أي موسيقى تصويرية واكتفى المخرج بتجميع أصوات الحياة اليومية في الشوارع  كأصوات السيارات في غدوها ورواحها وزماراتها وصوت الصمت في الليل وأصوات الحيوانات الأليفة و أصوات الآذان من المساجد.

 

 

قال المخرج (صهيب قسم الباري) في مقابلة مع وكالة رويترز بعد عرض فيلم (الحديث عن الأشجار)  في مهرجان الجونة السينمائي : "  هذا الجيل من السينمائيين الذين تعرض له  الفيلم هو الذي وقع عليه كل القهر والمنع من صنع الأفلام رغم بداياتهم القوية . بعد سنوات صمت طويلة قرر الأربعة مخرجين أن يتحركوا ويفعلوا شيئا للفن الذي عشقوه وعاشوا عمرهم يحلمون به وهو فن السينما . إن هذا الفيلم الوثائقي  ضمن أفلام أخرى روائية قصيرة من صنع سينمائيين سودانيين شباّن ربما تكون قد أعادت السينما السودانية للواجهة لكنها غير كافية لتأسيس نهضة جديدة " .

 

 

أخيرا وفي بداية عام 2020 تم عرض الفيلم بسينما الثورة  في الحارة الرابعة في مدينة الثورة بأم درمان وفي نفس الدار التي تم فيها تصوير معظم مشاهد الفيلم و حضره جمهور غفير و صفقوا له كثيرا و جرت أدمعهم من الفرح .