رواة متحاورون

رواة متحاورون أبو طالب محمد أشرتُ بالتحليل والنقد في مقال سابق إلى رواية ثلوج على شمس الخرطوم للروائي الحسن محمد سعيد، ووقفتُ في أمرين مهمين هما: الراوي المؤرخ والراوي العليم ووضحتُ المشارع التي تجمعهما وتفصلهما في المهام السردية، ويجيء هذا المقال تركيزاً على الجزء الثاني المسماة (صمت الأفق)

رواة متحاورون

رواة متحاورون

أبو طالب محمد

 

 

 

 

   أشرتُ بالتحليل والنقد في مقال سابق إلى رواية ثلوج على شمس الخرطوم للروائي الحسن محمد سعيد، ووقفتُ في أمرين مهمين هما: الراوي المؤرخ والراوي العليم ووضحتُ المشارع التي تجمعهما وتفصلهما في المهام السردية، ويجيء هذا المقال تركيزاً على الجزء الثاني المسماة (صمت الأفق) الصادرة عن مركز عبادي للدراسات والنشر- صنعاء- الجمهورية اليمنية 2012م. شيدت الرواية على إضمامة موضوعات سردية عددا قسمت إلى فصول موسومة بعناوين دالة على مجريات أحداثها بدءاً من القبول، البُشري، يوم، الميدان، العسكري الجنوبي، يوم تاسع، العكادي، هجير الأيام، نحيب الفجر، ومقهى وادي النيل. والملفت في هذه الرواية تعدد أمكنتها وأزمنتها ورواها المتحاورون، أي أن الشخصيات عبارة عن رواة يحملون رؤى صفوية بمعنى أن شخوصها صفوة من السياسيين والرأسماليين الوطنيين، إضافة إلى رجل الدين المستنير (إبراهيم العكدي) وشخصية المثقف الجنوبي بيتر.

   تحركت الرواية في مسارين سرديين هما (خاص وعام)، ففي المسار الخاص يفسح الراوي للشخصيات البوح عن شؤون حياتها الاجتماعية والثقافية، ويلي المسار العام سارداً قضايا الشخصيات الراوية موضوعات سياسية تتعلق براهن السودان السياسي والتاريخي ويشمل التحاور حتى ثورات الربيع العربي تحديداً تونس ومصر، يضاف إليهما قضايا جنوب السودان وتداخلها مع الشمال والتركيز على حق تقرير المصير واتفاقياته وبروتوكولاته المنصوصة.

 

 

 

   يؤسس الحسن في سرديته صمت الأفق أساليب تناوب سردي بين موضوعات خاصة وعامة بصورة منتظمة ممهورة بصيغة الاسترجاع السردي المرتبط بماضي ذكريات الشخصيات وأمكنتها، ففي عنونتها المسماة بالقبول يطرح أواصر العلاقة بين (الطاهر) وابن عمته (هدى) ويشير إلى إرتباطهما الشرعي بعدما يذكرنا برفضها الزواج نسبةً إلى فشل تجربة الزيجة الأولى التي خاضتها سابقاً وهنا توافق برضى تام بالطاهر. يقفز الراوي من الخاص إلى العام ويضع شخصياته في قلب أحداث ثورات الربيع العربي ويجعلها شخصيات مشاركة بالفعل والكلمة في ميدان التحرير/ القاهرة مثل شخصيتي الحاج بابكر والحاج عبد الواحد وهما يمثلان الطبقة الرأـسمالية الوطنية التي صُودرت ممتلكاتها في الجزء الأول من الرواية، ويختارا القاهرة قبلة الاستثمار وثم ينخرطا في سعير الثورة ويشاركا شعبها همومهم الوطنية، يتخلل الانخراط في الثورة المصرية أحاديث يبتدرها عبد الواحد مستذكراً تاريخاً غائراً في عمق أيام أزمنة كلية غردون وغداة نضوج الحركة السياسية في السودان. حينما كان صبياً يافعاً في تلك الأيام نظم مع رفيق صباه الحاج بابكر تمرداً على الخواجات وقادا مظاهرة لفتت الأنظار في العاصمة المثلثة وانتهى الأمر إلى إضراب كلية غردون الذي عززه إضراب السكة الحديد الشهير في عطبرة، وكان حينها أول إضراب في الخرطوم أعادت مشاركتهما في الثورة الشعبية المصرية ذكريات الصبا الباكر ودورهما المشهود في ثورة أكتوبر 64 وانتفاضة أبريل 85 هما اللتان نجح فيهما الشعب السوداني في إزاحة الجبروت العسكري والثمرة النهاية فازت بها القوى التقليدية وفشلت الحياة النيابية لغياب الديمقراطية في الأحزاب السياسية، وفشل النظام العسكري في تجميل نفسه بديمقراطية شائهة وربما هذا من محن السودان، دفعا الضريبة في الحركة الوطنية قبل وبعد الاستقلال وأسهما في النضال السياسي والنهضة الاقتصادية، تؤكد هذه الأحاديث دورهما الوطني حيال القضية العربية.

   يقفز الراوي من ميدان التحرير مغيراً أمكنته وأزمنته إلى السودان ويحدثنا عن شخصية (بيتر العسكري الحنوبي) في طابع رسالتين سرديتين الأولى مجيئه من مدينة ملكال وتشرده في الخرطوم ويتم القبض عليه خلال مشاهدته لمتظاهرين ويودع سجن كوبر، وفي كوبر تتوطد علاقته بشخصية الصحفي المثقف (العوض)، وعند خروجهما من المعتقل يتكفل العوض بتعليمه ورعايته وعنايته ويسخره عاملاً له وليس خادماً، وسنحت له الفرص بمتابعة وحضور الحوارات المستعرة التي تعقد في منزله برفقة جماعات من المثقفين والسياسيين في توجهات مختلفة، وهي حوارات حول راهن السودان وإعلان تقرير مصير جنوبه وعن قضايا الحرب والسلام، أسهمت هذه اللقاءات في صقل ثقافة بيتر وجعلته يتعرف على قضايا أهله بصورة أوسع ويلم إلماماً كبيراً باللغة العربية، وعندما ضيقت السلطات الخناق على تيار المقاومة الماثل في شخصية العوض ورفاقه الوطنيين، قرر الهجرة إلى الخليج، وأمر شخص آخر بحث عن وظيفة له ويقع الاختيار بالتحاقه بمصلحة السجون في كوبر. وفي الرسالة السردية الثانية تحوَّل من مصلحة السجون إلى خدمة خاصة في منزل مأمور السجن ويصطدم بجملة من الاضطهادات تقوده للتفكير في الانضمام إلى الحركة الشعبية حتى يصبح متمرداً مقاتلاً له قضية، ولكنه سيتذكر أحاديث أستاذه (العوض) وميولها نحو السلم والحوار البناء والبعد عن العنف قدر الإمكان. تمثل شخصية (بيتر) قضية جنوب السودان التي قادت يوماً إلى ثورة أكتوبر الشعبية وأنهت نظاماً عسكرياً ثورياً. تغيرت شخصية بيتر من مضطهد إلى متخذ قرار عندما تم توقيع اتفاقية السلام بقبول نظام الخرطوم بمبدأ تقرير المصير، دفع هذا المبدأ اتخاذ قرارات بيتر بقوله:(لن ينتهي بي شماسياً، كما كنت في شوارع وأزقة الخرطوم، وإنما سيطير بي مباشرة ً إلى جوبا لأجد نفسي التي ضاعت مني). أفرد الراوي خلال هذا الاستدلال حيزاً واسعاً لقضية الجنوب ومأساة إنسانه وتهميشه الذي وقع عليه من قبل أنظمة الشمال الشمولية. يحمل الراوي (بيتر) إلى الجنوب متوجاً بقرارات المصير ويعود حاملاً معه شخصية مرأة جنوبية تدعى (يوم) ويخبرنا قائلاً (قالت إنها عندما جاءت من مدينة قوقريال في بحر الغزال، كانت قد عرفت الشماليين معرفة لصيقة في منطقة (قرنتي) بمدينة واو وكان ذلك في ليالي حفلات (ترم ترم) هي ليالٍ صاخبة مفتوحة من الرقص والغناء وما يتتبع ذلك من المسرات والملذات والهوى عالم إفريقي متفرد، وأكثر حرية من منطقة السوهو في لندن.. قالت بأنها تعرفت إلى شاب شمالي يعمل موظفاً في مديرية واو ومالت إليه ميلاً شديداً، وتعودت عليه في إلفة مجنونة وملحاحة هي دوماً في حاجة إليه وإلى رؤيته تقف قربه ومرافقته... الرواية ص 52- 53).

 

 

 

 

   يستبان في الاستشهاد أنها هجرت أهلها واستقرت عنده في بيته الحكومي، ثم اختفى عن دنياها وشدت الرحال تبحث عنه حتى تداخلت الشهور والسنوات، ومع مرور الأزمان أنقذتها نعمة النسيان وخبأ وهج شوقها حتى تنقلت بين مدن وقرى النيل الأبيض ثم الجزيرة وأخيراً جاء بها الترحال إلى مدينة الخرطوم واستقر بها المقام في حلفايا الملوك، وهي أم لثلاثة أبناء وعندما أنجبت بنتها الأخرى أسمتها (يوم تاسع)، وهو اليوم الذي فصّل في شأنه قضية انفصال الجنوب في التاسع من شهر يوليو 2011م ويستعين الكاتب هنا ببنود بروتوكول مشاكوس ونصها على نظام الحكم وخلافه وعلاقة الدين بالدولة وحق تقرير المصير، أضحت قضية (يوم) تحمل قضايا شعب انتظر كثيراً اتخاذ قراره وبناء دولته وظلت علاقات شخوصه بماضيها الشمالي في وشائج متجانسة. ومن الجنوب والخرطوم ينبسط الراوي إلى الريف الشمالي للسودان مقتبساً من قرية العكد شخصية مثقف وعالم ورجل دين يدعى (إبراهيم العكادي) الذي جاءت به سبل الحياة إلى حلفايا الملوك ويعمل في مزرعة لمالكها شخص يهاجر إلى جنيف، وتثير شخصية العكادي الكثير من التساؤلات المتعلقة بالقضايا الفكرية العامة وبهموم الناس باعتباره شخص درس التاريخ في مدرسة عطبرة الثانوية على يد الراوي المؤرخ (الطاهر) وباعدت السنين بينهما ثم يلتقيان مجدداً في حرث الأرض بمزرعة الحلفايا، وهو شخص مفصول من الخدمة المدنية/ بنك السودان إبان سياسات التمكين واعتقل مرات عدَّة في بيوت الأشباح ويتولى إمام مسجد الحلفايا هذه المهام مجتمعة شكلت موضوع تساؤل وبحث عن معرفة حقيقته لدى الراوي والمتحاوربن ويقول الراوي رجع الطاهر بتأملاته مرة أخرى.. فتلميذه بدأ أمامه كاللغز.. هل يعقل أن يأتي إلى حلفايا الملوك ليعمل مزارعاً بهذه السطحية، دون أن تكون خلفه قضية؟ أجاب نفسه بأنه، لا يفعل!! ماذا يريد العكادي؟! (الرواية ص 157).

   يفصح العكادي عن نفسه إنه ضمن مجموعة سميت الصفوة اخترنا التعاون بيننا لنعمل معاً في تنظيم جماعة الديمقراطيين.. اخترنا اتجاهاً وسطياً بين الشيوعيين والأخوان.. نرفض تطرف الشيوعيين في موقفهم من الدين كرافد من الروافد الأساسية التي تثري المفاهيم السياسية ويضيف إلى الوعي الإنساني، كما نرفض انتهازية الأخوان في استغلالهم للدين لاجتذاب البسطاء، واستمالتهم بشعارات لا تخاطب فيهم العقل.. الغرض الأساسي عندهم هو تسخير الدين للأمور السياسية ومتاع الدنيا.. الرواية ص 174- 175. ومرجعيتهم علمانية الدولة ووسيلتهم التوعوية صحيفة (الدليل) التي قضى عليها النظام ولم يبق لهم سوى وسائل الندوات المسروقة من أعين النظام والمنشورات وما يكتبونه في الصحف من وقت لآخر، يستنتج عن ذلك أن العكادي مفكر ومعلم ورجل دين اجتمعت هذه المهام في شخصه حتى تحوَّل إلى أسطورة يناهض الدولة في منهجها الإسلامي السياسي، بحكم أنه حافظاً للقرآن وخطيب بليغ في خطبه ورسالته مما دفع بخطبه هز كيان الدولة والطعن في منهجها المستغل للدين، ولكز نظامها المتهاوي، استتبعته الأجهزة الأمنية في غدوه ورواحه، لأنه  أسهم بخطبه في تدافع المصلين من كل فج عميق على ظهر ضامر إلى مسجد الحلفايا يوم كل جمعة يُعلم المسلمين حقيقة الأشياء وأمور دنياهم، أثارت صلواته وندواته ضجة لدى النظام والتبع والتابعين له من رجالات الهوس الديني حتى أشاعوا بين الناس أنه زنديق كافر ومرتد يجب مطاردته وحظر أنشطته ومحاكمته حتى الموت، بعد هذه الحملة الشنعاء اختفى العكادي عن الأنظار من حلفايا لحين تهدأ الأجواء ويعود مجدداً يكلم الناس من على المحراب، وفي أثناء تجواله يؤسس عنه (خليل) ويبلغ عن مكانه النظام ويتم القبض عليه ويحاكم محاكمة عسكرية في الثلث الأخير من الليل، وهي محاكمة أقرب إلى محاكمات محمود محمد طه وعبد الخالق محجوب، وهو ديدن العسكر ومستشاريهم المهوسيين يقتلون الكلم المستنير ويصادرون حرية الوعي والرشاد ويمكنون الجهل والتخلف.

تركت مأساة إبراهيم العكادي جرح بالغ الآسى في نفوس الصفوة المتحاورة دوماً في موضوعات سردية تبلغ قمة تجلياتها في الوعي والإحساس بقضايا وطنية، ثم تتضاعف الأزمات ويرتحل الراوي المؤرخ وحرمه المصون (هدى) جراء هذا القمع إلى قاهرة المعز ليلتحق بمن هاجر من أفراد أسرتهما وينخرطوا جميعاً في مسامرات أحاديث عامة فحواها قضايا السودان ومصر، وراهن التحوَّلات الديمقراطية مستعينين بذكريات التجارب الثورية الشعبية التي اندلعت في البلدين ومدى انعكاسها على المستقبل.

   يستنتج في نهاية هذا المقال أن الكاتب الحسن أعد أدواته الفنية في شكل ثنائيات متجانسة تقاسمت هماً وطنياً موحداً، والرابط الأساس الراوي المؤرخ. تمثل شخصية هدى الناشطة الاجتماعية ثنائي مع الطاهر المؤرخ والطاهر المؤرخ مع صديقه الغائب الحاضر أبو الدفاع ومع إبراهيم العكادي الذي غرس فيه الراوي بذور الروح الوطنية منذ التقائهما في مدرسة عطبرة الثانوية، وشخصية بيتر العسكري في ثنائيته المعرفية مع الصحفي المثقف العوض، ويوم المرأة الجنوبية وعلاقتها بالفتى الشمالي في مدينة واو، والحاج بابكر وعبد الواحد ترتبط بينهما ثنائية الرأسمالية الوطنية المصادرة ويتجها إلى قاهرة المعز ويمارسا نشاطهما الاقتصادي بعيداً عن سياسات التمكين، يضاف إلى هذه الثنائيات ثنائيات الأمكنة الخرطوم/ القاهرة، جوبا/ الخرطوم، حلفايا الملوك/ جوبا، وهناك ثنائيات الأزمنة التاريخية ثورة أكتوبر وأبريل والثورة المصرية وإضراب كلية غردون، نسج الكاتب عبر هذه الثنائيات رواة صفوة متحاورين حول مصير جنوب السودان ومصير الشعب المصري والسوداني من خلال ثوراتهم الشعبية ونتائجها المرجوة.