مطر الورد

مطر الورد عثمان احمد حسن جلست و أمامي مرسمي، الدخان يتصاعد من الغليون، آنية القهوة و الأكواب الفارغة تتحكر فوق المنضدة في فوضى، البيريه يعلو هامتي المتغضنة، الفرشاة

مطر الورد

مطر الورد

عثمان احمد حسن

 

 

 

جلست و أمامي مرسمي، الدخان يتصاعد من الغليون، آنية القهوة و الأكواب الفارغة تتحكر فوق المنضدة في فوضى، البيريه يعلو هامتي المتغضنة، الفرشاة   والألوان والأحلام الكبيرة مبعثرة في نظام فوضوي، كلما غمست الفرشاة في الالوان أمسكت آلاء- ابنتي ذات السنوات الأربع- بيدي في عناد طفولي حميم، قلت بود أبوي يمازجه ضيق: ماذا تريدين؟ قالت وردةً حمراء! قلت ليس لدي وردة حمراء! قالت إرسمها الآن. قلت حسنا، شمرت عن ساعدي و شرعت أرسم وردة حمراء.

أنهيت رسم وردة حمراء، لونها يضج بالنداوة، ينضح الطل من أكمامها وحواشيها، بعد إسبوعين من العمل المضني رأتها آلاء، قالت شكراً يا بابا، وضعتها في إطار من الخشب المصقول، حملتها للمعرض، آلاء ألحت في مرافقتي للمعرض، جعلت تدور  وتغير من مكان وقفتها مرات و مرات و عيناها مركوزتان في الوردة اللوحة.

إفتتاح المعرض كان مهرجاناً لكل شئ، نساءٌ جميلات و رجالٌ منعمون و صبيةٌ   و صبايا بين الإلفة و العشق، يتناغون و يتناجون، العطر الفواح والإبتسامات الإستثمارية، كاميرات الإعلام و أجهزة التسجيل، كلها كانت حضورا.

في اليوم الثاني واصلت آلاء إلحاحها وجاءت للمعرض، حملتها علي عاتقي، تجولنا في أرجاء المعرض، عند مرورنا بلوحة الوردة أشارت نحوها و قالت أريد هذه الوردة، قلت هذه ليست وردة، إنها لوحة، غايظتني بقولها أنت لا تعرف شيئا، إنها وردة، حدقت في وجهها ولذت بالصمت. أثناء حوارنا جاء رجل يفوح عطره وتكتنز وجناته بنضرة النعيم، أخذ يحدق في الوردة اللوحة، غير موقع وقوفه عدة مرات و هو يحاول تغيير زاوية الرؤية، لدهشتي أخرج من جيب سترته دفتر شيكات و قلما، وقع شيكا  وترك مكان الأرقام فارغا، مد إلي الشيك و هو يحدق في اللوحة، قال: أريدها هديةً لإبني بمناسبة عيد ميلاده الخامس! ضع المبلغ الذي يروقك من خمس أرقام، ألجمتني الدهشة و عمني الذهول، طفقت أحدق في وجهه الذي يتلألأ نضارةً و نعيماً، فقدت توازني فاستندت لحافة منضدةٍ مجاورةٍ، إنفجر بركان من غضب آلاء وهي تزعق: لا لا لا هذه الوردة ليست للبيع! هذه الوردة لوليد!! قلت وليد من؟ قالت وليد، نركب الحافلة معا و نذهب للروضة معا و نقتسم ساندويتشات الفطور! حدقت في وجهها وإنطلق لساني كالعاصفة و أنا أفكر في الرقم الذي سأكتبه علي الشيك قبل تقديمه للصرف حيث لم يسبق لي إمتلاك مبلغ من خمسة أرقام، لم أمتلك أكثر من خمسة أصفار ليس علي يسارها سوى الفراغ، قلت غاضباً: هو يأخذ اللوحة و نشتري وردة حقيقية لوليد، قالت في عناد طفولي: لا لا لا، هذه الوردة لولييييد. من بين سيقان الجموع التي تقف تراقب ما يدور نبت طفل خماسي أمسك بيد الرجل الذي ما زالت يده تمسك بالشيك ووجهه تسمر علي الوردة اللوحة و بيننا حوار لم يكتمل، البنت الشقية و الولد  الذي نبت من بيت سيقان الناس، راحا في عناق حميم، هي تهتف: ولييييييد، وهو يهتف آآآلااااااااااء.

أمسكت آلاء بيد وليد وجرته نحو اللوحة، مدت يدها، لدهشتنا أمسكت بالوردة وهي ندية طازجة يتقطر نداها و يضوع أريجها في أنحاء المكان! أنا و الرجل الذي يمد يده اليمنى بالشيك، ويسراه تمسك بيد وليد، فغرنا أفواهنا نحدق في الفراغ الذي أعقب خروج الوردة من إطارها، أمسك الصغيران الوردة بين يديهما المتشابكتين وخرجا، نحن لا نزال نحدق في الفراغ!

الرجل قال بصوت متهدج: هذا وليد، إبني الذي عزمت أن أهديه هذه اللوحة الجميلة!

قلت وهذه آلاء ابنتي اللت طلبت رسم هذه اللوحة العجيبة!

قال الرجل لقد أنجزت لها طلبها و أنجزت لي ما أريد، أُكتب مبلغا من ستة أرقام في فراغ الشيك. ودفع بالشيك لجيبي وخرج لا يلوي علي شئ.

عدلت وضع البيريه فوق رأسي الأصلع، أشعلت الغليون و سحبت منه أنفاساً أطلقتها كزخات  الندى، فتلت جانبي شاربي الكث مرات و مرات، رفعت ساعدي الأيسر، تطلعت للساعة وزفرت زفرة حرى، فقد مضى موعد إغلاق أبواب المصارف، وفاتت علي فرصة قضاء أول يوم في حياتي و في ملكي مبلغ من ستة أرقام، خرجت متثاقلا أجرجر أقدامي.

لدهشتي كانت شوارع المدينة تعج بالأطفال، أولادا و بنات، يضجون بالبهجة والحبور، يمسكون ورودا حمراء ذات بهجة تسر الناظرين، وسطهم كانت آلاء تمسك بيد وليد وهما يرتفعان نحو الأعلى، الأعلى، الأعلى، تتبعهم جموع الأطفال، لحظات و إكتست المدينة بقبة من  الورود، تمسكها أكفهم الغضة، ورودا حمراء فواحة العبير.

وقفنا ننظر للسماء الملائكية، والأطفال يدورون في سماء المدينة، حين مرت آلاء ووليد فوق رؤوسنا فردوا أياديهم يشيرون إلينا و يصيحون: بابا   بابا   بابا، إنطلقت حناجر بقية الأطفال وهم يشيرون لجهات الأرض كلها: بابا  بابا  بابا، الورود المنطلقة من الأيدي هطلت علي المدينة مطرا، هبط الأطفال بسلاسة كل في جانب أبيه، إستوقفت سيارة أجرة و دفعت آلاء لجانبي، فقد كان مطر الورد منهمرا.