(كمال الجزولى وانفتاح الشعر على الأسطورة.. )

(كمال الجزولى وانفتاح الشعر على الأسطورة.. ) قراءة نقدية في (عزيف الريح خلف بوابة صدئة) بقلم /صلاح الدين سرالختم على عالم الجزولى الشعري عالم جزل وممتلئ بالصور والخيالات البعيدة وأصداء الأساطير والاستدعاءات من التاريخ... وهو يتماهى ربما عن قصد في ذلك مع الشاعر (أمية بن أبى الصلت) صاحب العلاقة الق

(كمال الجزولى وانفتاح الشعر على الأسطورة..   )

(كمال الجزولى وانفتاح الشعر على الأسطورة..   )
قراءة نقدية في (عزيف الريح خلف بوابة صدئة)
بقلم /صلاح الدين سرالختم على

 

 


عالم الجزولى الشعري عالم جزل وممتلئ بالصور والخيالات البعيدة وأصداء الأساطير والاستدعاءات من التاريخ... وهو يتماهى ربما عن قصد في ذلك مع الشاعر (أمية بن أبى الصلت) صاحب العلاقة القوية للشعر بالميثولوجيا والسرد وهو ماجعل الشعر ينفتح على الأسطورة لخلق أفق جمالى مضخم بمكونات السرد، ففي قصيدة أمية عن الديك والغراب يورد الشاعر الأسطورة شعرا ويكثفها سردا كما يلي:
إلا الديك مدمن خمرة
نديم غراب لايمل الحوانيا
ومرهنة عند الغراب حبيبه
فأوفيت مرهونا وخلفا مسابيا
أدل على الديك أنى كما ترى
فأقبل على شأنى وهاك ردائيا
أمنت لاتلبث من الدهر ساعة
ولا نصفها حتى توؤب مآبيا
ولاتدركنك الشمس عند طلوعها
فأغلق فيهم أو يطول ثوائيا
فرد الغراب والرداء بحوزه
إلى الديك وعدا كاذبا وأمانيا
بأية ذنب أم بأية حجة
أدعوك فلاتدعو على ولا ليا
فلاتيأسن إنى مع الصبح باكرا
أوافي غدا  نحو الحجيج الغواديا
هناك ظن الديك إذ زال زواله
وطال عليه الليل أن لا مغاديا
فلما أضاء الصبح طرب صرخة
إلا ياغراب.هل سمعت ندائيا
وأمسي الغراب يضرب الأرض كلها
عتيقا وأمسي الديك في القد عانيا
فذلك مما أسهب الخمر لبه
ونادم  ندمان امن الطير  عاديا.
تحكى الأسطورة كيف خدع الغراب الديك وأخذ جناحيه وطار بهما وتركه حبيس الأرض يصيح كل صباح. وتلك أسطورة من أساطير العرب الكثيرة حول الغراب رمز الغدر والخيانة ونذير الشؤوم عندهم.. انظر كيف وظفها الشاعر سرداوشعرا.... في ديوانه الفريد (عزيف الريح خلف بوابة صدئة) الصادر عن دار الأشقاء في طبعته الأولى يونيو 2000 يأخذنا الجزولى من العنوان إلى دهاليز معطونة في التاريخ وأصدائه وأساطيره وسيره الشعبية: يصرخ الشاعر:
(أسرج العشق حصانه :
فعرفت أنك أمى الدر الأمانة،
وعرفت أنك أمى الدر الخيانة،
وعرفت أنك أمى الدر الذى
وشى أرجيح المشانق،)
تختبئ سيرة أمدرمان (أم الدر )  بين السطور بعناية، تشير إليها (الأمانة) فإن امدرمان هي بيت الامانة أي بيت مال المسلمين في دولة المهدية، هكذا يطرق التاريخ أبواب القصيدة...  تنتصب المشانق التى أسلمت أمدرمان عبر التاريخ أبنائها لها وزينت حبالها  القاسية بهم، لعل في ذلك إشارة إلى كل شهداء الوطنية السودانية ابتداء من أبطال كررى مرورا  بكل الشهداء....  يغوص الشاعر في التاريخ نسمع عزيفه تحت بوابة عبد القيوم في أمدرمان بصوت مخنوق:(أستطيع الآن أن أروى تفاصيل الجريمة :
كان، طفلا واقفا في ساحة الموت القديمة،
حين كانوا يخلعون عيونه،
ويسمرون _ على الصليب_
جبينه،
كنت
ساعتها
بظهر السوق
أبحث عن سيوف النخوة الأولى،
فما فوجئت،
ماروعت،
لكنى....
وئيدا
رحت أصعد في جراحات الهزيمة!) هل هى شهادة على مقتل شهيد واحد أم كل الشهداء؟! هل هى شهادة على جرائم العصر وعنف البادية؟! نلاحظ في قصيدة الديك والغراب ممارسة الشاعر لوظيفة القص باقتدار وامتلاك  ناصية السرد وهو الأمر الذى نجده في كل أركان ديوان الجزولى كما سنبين فيما تبقي من هذه القراءة النقدية.... يوظف الشاعر قصة أهل الكهف في فصيدته(دون، كيشوت يحاور ظله)  فيقول :
(جاءؤا ...
عصبة،
ليست تزاور عن كهفهم شمس،
ولاكلب لهم
بسط الذراعين المعبأتين نوما
بالوصيد،
لكننا،
والرعب أطفأ خلف أضلعنا النهار،
عميت بصائرنا فلذنا بالفرار!)

 


وفي القصيدة نفسها يقيم الشاعر مقارنة ناضحة بالسخرية  بين سلاحين :(البيانات) و(المدافع)  كأنه يؤمى من طرف خفى إلى موقعة كررى التى واجهت فيها الصدور العارية لأنصار المهدى مدافع المكسيم فحصدتهم حصدا  فيقول:(عبثا نقارع ، بالبيان المنتقي، زبر الحديد!)      ثم يقدم الجزولى مشهدا ناطقا من الطبيعة تختلط فيه الأسطورة والخيال مع الواقع ويختلط فيه التشكيل والرسم والنقش مع السرد القصصي والمشهد السينمائي والتصوير الفوتوغرافي والايقاع الشعرى والموسيقى والمؤثرات الصوتية والبصرية  فيقول في قصيدته (طفل السحاب) :
(فاجأنى الغيث
بأول قطرة،
رفعت البصر إلى أعلى،
فرأيت السحب تشكل أما
ترضع  طفلا،
ثم رأيت السحب تشكل طفلا يحبو،
ثم رأيت الطفل يمد ذراعيه،
وساقيه،
وينهض ،
ينهض،
ينهض،
حتى سد الأفق بقامته السمراء،
وأرعد ،
ثم أنهمر ......
بكل خلاياه الوهابة
يجلد وجه الأرض
طوال اليوم!)
هذه القصيدة المكتوبة في العام 1979  في عهد الطاغية النميري عقب ماسمي بالمصالحة الوطنية  بين النميري والصادق المهدى وأشتداد حملات القمع على القوى الوطنية والديمقراطية جاءت القصيدة عامرة بالتفاؤل والأمل وقوة الشكيمة المستمدة من قوة الشعب والأيمان بحتمية انتصاره، جاءت القصيدة نبؤة مبكرة بانتفاضة أبريل 1985 والهبات الثورية التى سبقتها، كان (طفل السحاب) في حقيقته هو بصيرة ثاقبة لمثقف متمترس وسط الصفوف لم تنل منه حملات القمع والتنكيل التى مارسها نظام  النميري ولم تفتح طريقا لليأس والسأم في روحه المتمردة.. صورة الطفل الذى يتشكل في السماء ويتجمع قطرة قطرة ثم يزأر كالأسد فجأة وينهمر هى صورة الثورة والغضب الشعبي  وهى تتجمع في الصدور قطرات صغيرة،  ثم تنهمر سيولا كاسحة تدك حصون الطغاة  من غير سابق إخطار ولاتوقف... نفس الصورة رآها الشاعر العراقي (بدر شاكر السياب) وهو في المنفى في الكويت بعيدا عن العراق فرسمها في قصيدته الخالدة( غريب على الخليج) في نهاية الخمسينات وهى القصيدة التى تبدأ بصورة رومانسية خادعة ثم تتحدث عن المطر الذى يتجمع في سماء العراق إيذانا بثورة قادمة (  الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل
و على القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل
زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار
من كل حاف نصف عاري
و على الرمال على الخليج
جلس الغريب يسرّح البصر المحيّر في الخليج
و يهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج
أعلى من العبّاب يهدر رغوه و من الضجيج
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق
كالمدّ يصعد كالسحابة كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق
و الموج يعول بي عراق عراق ليس سوى عراق ‍‍
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون
و البحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري تكوّر لي زمانه
في لحظتين من الأمان و إن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
و هي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب
فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب
من الدروب
وهي المفليّة العجوز وما توشوش عن حزام
وكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلة
فاحتازها إلا جديلة
زهراء أنت أتذكرين
تنّورنا الوهّاج تزحمه أكف المصطلين
وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين
ووراء باب كالقضاء
قد أوصدته على النساء)

 

 

ثم يبث الوطن شوقه:

(شوق الجنين إذا اشرأبّ من الظلام إلى الولادة
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده
إن خان معنى أن يكون فكيف يمكن أن يكون
الشمس أجمل في بلادي من سواها و الظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق
واحسرتاه متى أنام
فأحسّ أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق
بين القرى المتهيّبات خطاي و المدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه
فسمعت وقع خطى الجياع تسير تدمي من عثار
فتذر في عيني منك ومن مناسمها غبار
يا ريح يا إبرا تخيط لي الشراع متى أعود
إلى العراق متى أعود
يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود
بي الخليج
لتبكينّ على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك دون جدوى للرياح وللقلوع)..
وتتحول القصيدة إلى صرخة ونداء للشعب العراقي كي يثور وينتفض، و التناص بين السياب و الجزولى، هنا موجود وهو تناص يرجع إلى وحدة الهم القومى والوطنى الذى يسكن روحين مبدعتين ويزورهما في صحوهما ومنامهما....
في قصيدته الموسومة (قبر على موج الدميرة) التى خاطب بها شيخ شعراء الشعبمحمد المهدى المجذوبفي ذكراه يتماهى عنوان القصيدة  مع موضوعها ومع بطلها الشاعر المجذوب_فالقبر مكانه الطبيعى التراب وميزته الأصيلة السكون وعدم الحركة، لكن الشاعر لايموت، وعند الصوفية هناك حياة بعد الموت، وهناك كرامات الصالحين، فمنهم من يطرح التمساح صريعا بلا حرب سوى استغاثة المريدين بالشيخ والأولياء كما هو الحال في قصيدة التمساح الذى سكن مناطق الشايقية وأخذ يلتهم في كل يوم ضحية وحين استغاثوا بالصالحين من الأولياء الراحلين تمدد التمساح في الضفة قتيلا مطعونا بعدد حراب المستغاث بهم، تلك أسطورة محلية معروفة، وهناك أساطير مماثلة، إلى تلك الأساطير ينتمى القبر المتحرك فوق موج الدميرة والدميرة هو موسم فيضان النيل وعنفوانه وشدته، فالقبر المتحرك فوق الموج القوى دلالة على الحياة لا الموت الذى هو سكون، لذلك يختاره الشاعر عنواناللقصيدة عمدا، ويقول في مستهلها(للبحر أشواق الجداول،
مثلما للريح أطوار المياه، ومثلما للحزن أمزجة.... )  وفي ذلك تأكيد لمعنى العنوان ورفض الموت والإنحياز للحياة فالجداول تشتاق الخرير وجريان الماء وتكره اليبس والسكون.  ثم يعقد الجزولى مقارنة بين استشهاد الخليفة عبد الله على فروته في أم دبيكرات حين حاصره الغزاة وبين رحيل الشاعر المجذوب:(كيف، والدنيا كئوس مترعة ، كيف يفرش أرهف العشاق فروته  الرهيفة وسط هذا الحصرم المسموم، والجمر المنقى،  والحتوف المسرعة؟!) فالموت في الحالتين هجرة إلى الله الحى الذي لايموت وليس موتا!! لهذا ربما يخاطب الجزولى الشاعر في ختام قصيدته: (ولذا سيبقي قبرك المضفور من موج الدميرة هائما، لن يستوى أبداعلى جوديه حتى  تجلجل في الزمان الواقعة) نلاحظ هنا لغة القرآن والتناص مع نصوص القرآن الكريم فالقبر هنا يمسي سفينة نوح وموج الدميرة هو طوفان نوح والواقعة هنا قد تكون سورة الواقعة وقد تكون إشارة إلى الطوفان باعتباره الواقعة الفاصلة بين زمنين  وهى هنا إشارة من طرف خفى للثورة. هكذا نجد النص عند كمال الجزولى يتراقص في أقبية التاريخ وإضواء وقائعه الباهرة ودروسه العظيمة ونجد القصيدة تحتشد  بالأساطير الشعبية الملهمة والإستعارات العظيمة، فلاتعود الكلمات هى الكلمات ولايعود المنطوق به هو المنطوق به ولايعود المسكوت عنه صامتا، بل يسمع دويه أعلى من كل ناطق ومنطوق به، وهذه هى روعة الشعر... فقد كتب الشاعر كيتس الذى يمثل تيارا مناهضا لعلم الجمال :
(ألا يفر كل ماهو خلاب هاربا
بلمسة مجردة من الفلسفة الباردة ؟
أن الفلسفةلتحبس أجنحة الملاك،
وتقهر كل الأسرار بالمسطرة  والخط،
وتفرغ الهواءالمسكون، والمنجم المحاط بالأسرار
وتفكك قوس قزح )
هنا يتحدث كيتس باسم الكثيرين ممن لديهم حساسية صادقة للفن وولع به، فلو حللنا الفن وحاسبناه  على كل صغيرة وكبيرة، جعلنا منه شيئا جامدا باهتا، فلايعود كائنا تشيع فيه الحياة والنشوة المثيرة للخيال والقوة الإنفعالية، بل أننا تقتله لكى نشرحه ، وإذن فلنتخل عن هذا التحليل، ولنكتف بالإستمتاع بالفن، بطريقة تلقائية، وحتى أقصى مدى ممكن، هذه وجهة نظر بعض المنادي بالفن للفن، ولكن ينبغي تجنب خطر الخلط بين تجربة التذوق المباشر وبين المعرفةالإنعكاسية المتعلقة بالفن. والسؤال هل لعلم الجمال هذا الأثر المنفرد على الفنون حقيقة؟! لا أظن  ها القول صحيح  ونحن نقع في مثل هذا الخلط عندما نستخدم العمل الفنى في إختبار اعتقاد أو نظرية معينة عن الفن تكون لها أهمية بالنسبة لدراستها الجمالية، بدلا من أن تستجيب لسحره وتأثيره الطاغي. هذه محاولة لقراءة بعض نصوص الجزولى في (عزيف الريح خلف بوابة صدئة) وهى محاولة للجمع بين التذوق وإنتاج معرفة بالنص ومرجعياته وإحالاته بعيدا عن ذلك الجدل
صلاح الدين سرالختم على
الخرطوم أبريل 2020