قُل "أونو!" ولا تلوي على شيء، فإنَّ الزَّمانَ طوعُ بنانِه
قُل "أونو!" ولا تلوي على شيء، فإنَّ الزَّمانَ طوعُ بنانِه محمد خلف... لندن في السَّابق، أوجزنا الكلامَ بشأنِ أقانيم الحقيقة الثَّلاثة، حتَّى لا تضيع الفكرة الكلِّيَّة.
قُل "أونو!" ولا تلوي على شيء، فإنَّ الزَّمانَ طوعُ بنانِه
محمد خلف... لندن
في السَّابق، أوجزنا الكلامَ بشأنِ أقانيم الحقيقة الثَّلاثة، حتَّى لا تضيع الفكرة الكلِّيَّة. ونبدأُ هنا باستئنافِ الكلامِ عنِ الحقِّ، حتى يسهلها نور الانتقالُ المباشر إلى موضوع الزَّمان. ولو تسنَّى للقارئ الكريم التَّمعُّن في مصفوفة البنياتِ الثُّلاثيَّة الثَّلاث، لوجَدَ أنَّها تنتهي جميعُها بشأنٍ لُغوي: بنية الواقع، بأحرفٍ كيمائيَّة محدودة؛ وبنية الفكر، بتركيبٍ لغويٍّ هو عبارة عن استعدادٍ فطريٍّ لاكتسابِ اللُّغة (متمركزاً في الفصِّ الأيسر للدُّماغ)؛ وبنية الكلام، التي تنتهي بتوجُّهٍ دلاليٍّ وأسلوبٍ أدائي، سمح للسُّلطان (عمارة)، وهو جالسٌ على كرسي العرش في البلاط السِّنَّاري، أن "ينطقَ الحقيقة"، وأن تكتسب كلماته قوَّة القانون، بحُكم أدائيَّاتِ اللُّغة المكتسَبة عبر حراكٍ طويلِ الأمد داخل المصفوفة؛ إلَّا أنَّ الحقَّ، الذي "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (سورة البقرة؛ الآية رقم "255"؛ وتُسمَّى "آية الكرسي") لا تتشظَّى لديه الأقانيم، بل تلتئمُ في أمرٍ واحد يجمعُ شمل الإرادة، والقول، والكينونة؛ إذ "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (؛ الآية رقم "82").
نستخدم مصطلح مصفوفة "ميتريكس" (وللأستاذ الفنَّان التَّشكيلي أحمد المَرضِي العُتبى حتَّى يرضى عن هذا الاستحدام)، تيمُّناً بمصفوفة تنفيذ مهامِّ المرحلة الانتقاليَّة؛ إلَّا أنَّ ما يُميِّز هذه المصفوفة الكبرى للبنياتِ الثُّلاثيَّةِ الثَّلاثِ للحقيقة، هو أنَّها شديدةُ الحركيَّة، بدفعٍ من السَّابق للَّاحق منذُ النَّشأةِ الأولى للكون، وفقاً لآليةِ الاعتماد (سوبرفينس)، مع تداخلٍ لا ينقطع بين مكوِّناتها الموزَّعة بشكلٍ تراتبيٍّ عبر الأقانيم الثَّلاثة. على سبيل الأمثلة فقط، تتميَّز أكثر الموجوداتِ صلابةً في أُقنوم العالم، على المستوى الكمومي (نسبةً إلى ميكانيكا الكم)، ومن بينها الصخور الجرانيتيَّة، بحركيَّةٍ دائبة ("وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ"؛ سورة النَّمل، الآية رقم 88")؛ في حين تتجمَّد حركة الأشخاص الخائفين من الوحوش المفترسة، إن هم لم يستخدموا داخل أقنوم العقلِ آليَّةَ ردِّ الفعلِ التِّلقائيِّ بالفرارِ أو القتال؛ أمَّا في أقنوم اللُّغة، فإنَّ الحرف السَّاكن (ضمن مجموعة الحروف الصَّوامت) لا يُمكِنُ نُطقُهُ إلَّا بتحريكِه بحرفِ عِلَّةٍ متحرِّكٍ قصير (مثل فتحةٍ أو ضمَّةٍ أو كسرة).
وهذه الحركيَّة لا تتمُّ إلَّا بانقضاء مدَّةٍ زمنية، تطولُ أو تقصُر؛ فما هو هذا الزَّمن الذي يمرُّ بانقضاءِ ثوانيه (إنْ لم نقل نانوثوانيه)، وكيف تُقاسُ مُدَدُه؟ وكيف يتمُّ التمييز بين ثوانيه التي انقضت (الماضي)، وبين لحظاته المقبلة (المستقبل)؟ اقترح إسحق نيوتن زمناً خطِّياً أُقيمَ على أكتافِه صرحُ الحياةِ المعاصرة، بينما زعزع ألبرت آينشتاين هذه الخطِّيَّة ببناءِ صَرحَيْ النِّسبيَّة الخاصَّة في عام 1905، والنِّسبيَّة العامَّة في عام 1915؛ وقبل صياغتهما، كان هناك إقرارٌ في أوساطِ العلماء، لم تُفلِح أيٌّ من هاتين النَّظريَّتينِ الأساسيتينِ في زعزعته، كما لم تُفلِحِ الفيزياءُ الحديثة في نقضِ فحواه، وهو أنَّ القوانين الفيزيائيَّة بمجملها لا تُميِّزُ بين الماضي والمستقبل أو السَّبب والنَّتيجة، فيما عدا القانون الثَّاني للدِّيناميكيَّة الحراريَّة؛ وهو المبدأُ الذي يقضي بأنَّ الحرارة تنتقل، داخل نظامٍ مُغلَق من غيرِ وجودِ تأثيرٍ صادرٍ ممَّا حوله، من الجسم السَّاخن إلى البارد (ولا يحدُثُ العكسُ مُطلقاً)؛ وهذه الخاصِّيَّة التي يشتملُ عليها هذا المبدأ الفيزيائي الأساسي هي التي تُمكِّنُ من التَّمييز بين الماضي (السَّاخن) والمستقبل (البارد)؛ وبالتَّالي، التفرقة الواضحة بين السَّبب (الذي يحدُثُ أوَّلاً) والنَّتيجة (التي تحدُثُ بتأثيره تالياً).
وقد استقرَّ هذا المبدأ، الذي صاغه رودلف كلاوزيس، إلى حين؛ وهو ما يُعرف بالإنتروبيا، وهي مقدارٌ يزدادُ باضطراب النظام (أي انتقال الحرارة في الأجسام من الحارِّ المنتظم إلى البارد بإحداثِ اضطرابٍ في النِّظام). إلَّا أنَّ لودفيغ بولتزمان (الذي مات منتحراً، بسبب فشلِه في إقناعِ معاصريه) أوضحَ أنَّ الحرارة هي عبارة عن تحريضٍ مستمرٍّ للجُسيمات الميكروسكوييَّة (وذلك قبل اقتناع العلماء بوجودِ الذّرَّاتِ)، بحيث يتمُّ تسخينُها عشوائيَّاً بالالتصاق بالجُسيمات السَّاخنة؛ وبشكلٍ حاسم، فإنَّ الإنتروبيا ليست اضطراباً لنظامٍ سابق، بحيثُ يُمكِنُ التَّمييزُ بين الماضي والمستقبل، وإنَّما هي زيادةٌ للاضطراب باختيارِ ترتيبٍ بعينِه، مع تجاهلٍ تامٍّ أو عدم القدرة المطلقة على معرفة التَّرتيباتِ الأخرى. وبشكلٍ حاسم أيضاً، فإنَّه إذا عُرِفت كلُّ التَّرتيبات الممكنة، فإنَّ التَّمييز القائم بين الماضي والمستقبل سينهار، وسيذهبُ معه التَّسلسُلُ القائم بين السَّبب ونتيجته.
في وقتِ تفشِّي الجائحة وتفتيشِ الأُسرِ عن وسائلَ لتزجيةِ الوقت، أخرجت لنا اِبنتي ماريا لعبةَ ورقٍ قديمة لم يمسسها أحدٌ منذ طفولتها، تُسمَّى "أونو"؛ وتشتمل على 108 كروت، بأربعةِ ألوان (أحمرَ، وأخضرَ، وأصفرَ، وأزرق)، وكروتٍ يبدأ ترقيمُها من صفر إلى تسعة، وكرتينِ يأمرانِ بسحب كرتين آخرَيْن، وأربعةِ كروتٍ يأمرُ كلُّ واحدٍ منها بسحب أربعةِ كروتٍ أخرى؛ وكرتين لإرجاع الدَّور في اللَّعب، وكرتين لتفويته، وكرتين لتغيير اللَّون، وآخرَيْنِ يعطي كلٌّ منهما اللَّاعبَ مطلقَ الحرِّية في أن يستبدلَ أيَّ كرتٍ بآخر. وفي البدء، تنتظم هذه الأوراقُ (أي الكروت) الجديدة وفقاً لترتيبٍ بعينِه؛ إلَّا أنَّه من الممكن تصوُّرُ ترتيبٍ للأوراق وفقاً لعدَّةِ خياراتٍ أخرى، تشمل اللَّون، والرَّقم، والتَّوجيهات المختلفة التي يحملها الكرت. ولكي يبدأ اللَّعب، لا بُدَّ من خلط الأوراق جيِّداً؛ ومع الخلط، يتلاشى تدريجيَّاً التَّرتيب السَّابق الذي ينتهي عنده اللَّعب. ويفوز اللَّاعب بتخلُّصِه من كلِّ الأوراق، إلَّا أنَّه يستوجب عليه أن يقول "أونو"، عندما يتبقَّى لديه كرتٌ واحد فقط؛ ولذلك سُمِّيت اللَّعبة "أونو" (وتعني رقم واحد في اللُّغتين الإيطاليَّة والإسبانيَّة: وهما لُغتا ذلكما البلدين الأوروبيَيْن اللَّذين تضرَّرا أكثر من غيرهما من جرَّاءِ الجائحة).
ووفقاً لبولتزمان، فإنَّ الإنتروبيا هي تماماً مثل لعبة "أونو" (ولو أنَّه لم يستخدم هذه الاستعارة المطوَّلة، فهي من بناتِ أفكارِنا التي تسبَّبت فيها اِبنتي ماريا، ومن وحي سياق الجائحة الذي استدعى تزجية الوقت بالتَّخلُّص من "الكَرور"، ومشاهدة الأفلام، وقراءة الرِّوايات، إضافةً إلى لعب الورق)، وهي لعبةٌ يُمكِنُ التَّركيزُ فيها على ترتيبٍ بعينِه باعتباره ترتيباً خاصَّاً، مع تجاهل التَّرتيبات الأخرى تماماً؛ ولو وُجِد مَن له القدرة على تذكُّر كلِّ ترتيبات الأوراق، فإنَّ كلَّ ترتيب سيكونُ خاصَّاً لديه، مهما تمَّ خلطُ الأوراق. وفي الإنتروبيا، وفقاً لبولتزمان، يتمُّ التَّركيزُ على ترتيبٍ بعينِه؛ وبدءاً منه، يتمُّ التَّمييزُ بين الماضي والمستقبل؛ ولكن إذا عُرِفت كلُّ الترتيبات، بدون إقصاءٍ لأيٍّ منها، فسينتفي الفرقُ القائمُ بين الماضي والمستقبل. وبصورةٍ أوسع، وهو توسيعٌ من بناتِ أفكارنا أيضاً، إذا وُجِدت قوَّةٌ لديها عِلمٌ مطلق، ومعرفةٌ كاملة بأدقِّ التَّفاصيل، ("مَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ"؛ سورة يونس، الآية رقم "61")، فإنَّ الزَّمان بمُجمَلِه سيكونُ طوعَ بنانِها (إنْ لم يكنِ الواحدُ الأحدُ هو الزَّمانُ ذاتُه)؛ "أونو"!
ختاماً، لا نستخدمُ إنجازاتِ العلوم الطَّبيعية للتَّدليل على صِحَّة ما جاء به القرءان، أو نلجأ لأحدثِ مكتسباتِ الحقيقة للتَّدليلِ على إعجازِ ما نطق به الحقُّ؛ وإنَّما نتوسَّلُ بمنجزاتِ العلومِ جميعِها لإضاءةِ بعضِ ما اغتُمِضَ من آياتٍ، كما نتوسَّلُ بالحقيقةِ للاقترابِ حثيثاً من الحقِّ، ولكن هيهات.