قصة قصيرة

قصة قصيرة خلايا سمعية سرطانية نجاة ادريس إسماعيل كانت تستمع اليه بنصف تركيز ونصف وعي وهي تضع سماعة الهاتف على أذنها ؛استمعت الي شكواه المستمرة من كل شيء

قصة قصيرة

قصة قصيرة

خلايا سمعية سرطانية

نجاة ادريس إسماعيل

 

 

 

 

كانت تستمع اليه بنصف تركيز ونصف وعي وهي تضع سماعة الهاتف على أذنها ؛استمعت الي شكواه المستمرة من كل شيء.. بدءا من كرات الخبز صغيرة الحجم إلي الجوارب التي اصبحت أقل جودة سريعة التلف ؛حفظت مشاجراته حول فريقه والفريق المنافس له ؛ مناكفاته لزميلاته ؛ صراخه مع جماعة متطرفة  كانت تستوطن المسجد الذي يصلي فيه مما اضطره للشجار معهم بعد كل صلاة ؛ فهو يصر على ان يدعو بصوت مرتفع وهم يصرون على إغلاق المكبر فور الصلاة مباشرة مما دفعه للتعارك معهم في باحة المسجد كل يوم. تحدث معها في كل شيء وأي شيء فهو يراها أذنا صاغية لذلك يحبذ الحديث معها ولا يمل من أن يخبرها بكل تفاصيل يومه حتى تلك الموغلة في الخصوصية ؛عرفها بالصدفة المحضة وصار (المساء الحالم) كما يسميه موعدا ثابتا للحديث معها ؛ لم يترك شاردة ولا واردة الا وذكرها لها منذ أن كان جنينا في بطن أمه إلى يومه الذي التقاها فيه ؛يحس أحيانا بانه يتكيء على أريكة طبيب نفسي وهو يقص عليها تفاصيل يومه ويحس بارتياح كبير بعد ذلك الحكي. ، حكي طويلا ..ثم لم ينته الحكي بعد ؛كان ينتهي ليبدأ ثانية دون توقف ؛

أحست بانها تحولت لحاسة أذن فقط ؛في البدء لم تكن غاضبة من تلك الحكايات المتناسلة ؛فقد كانت تمثل دور المراة المستكينة ؛هي تحب التمثيل جيدا،  منذ ان كانت طفلة صغيرة؛كانت قد مثلت على معلمتها دور الفتاة الفقيرة التي لا تمتلك ثمن الخبز الذي تطعمه ، لا لشيء الا لتحصد عطف معلمتها التي اصبحت تعطيها ثمن وجبة الأفطار كل يوم حتى تراكمت النقود في محفظتها التي انتفخت حد التخمة،  وعندها قررت أن تشتري بها دمية تلك ( ا لعروسة) التي تفتح وتغمض عينيها مماثلة تماما لتلك التي وجدتها عند صديقتها و حلمت بها كثيرا؛ ولكن قبيل ان تفوز بها فاذا بوالدتها تكتشف النقود وتضربها حد الصراخ و النشيج مما دفعها للاعتراف بالأمر أمام إخوتها أولا ثم أمام معلمتها ثانية وأمام المدرسة بكاملها فيما بعد..تذكرت الضرب المبرح الذي تعرضت له في طابور الصباح وشماتة صديقاتها فيها ..لا تزال تتألم عندما تذكر ذلك  الموقف ولكنها لا تنسى أن موهبتها التمثيلية لا زالت قابعة في مكان ما بين خليات جسدها ولم يستطع الضرب المبرح أن يميت تلك الموهبة التي حباها الله بها ؛ولكن ثمة سؤال ما يقبع داخلها لاتستطيع الإجابة عليه .. (ثم ماذا بعد كل هذا (الرغي )؟ أتمثل دائما دور المراة المستكينة ليكون شهريار الذي يستمتع بحكايات شهرزاد أم ترجع لطبيعتها .. ؛تضجرت من كثرة ما سمعت من أحاديث.

لا تذكر متى أحست بأن خلاياها تشبعت حد التخمة بتلك الأحاديث المكررة السمجة التي لم تعد تحبها ..صارت تتطلع كل يوم بأن يكون هناك جديدا ؛ولكن لا جديد..تذكرت تلك القصة التي قرأتها في هاتفها بالأمس والتي تحكي عن طبيب نفسي سأل مريضه عن اليوم -عندما أحس بتماثله للشفاء - فأجابه اجابة صائبة بأنه السبت وقبيل أن يحرر له روشتة الخروج ساله عن الغد فاجابه بأنه السبت وبعده السبت أيضا ما دام السلطان هو هو ..هي ذات المريض الآن ما دام هذا الوغد لن يقول ما تريد أن تسمعه. كانت كعادتها تستمع اليه وتغفو ثم تصحو على ذات الحديث المكرر (الحكومة فاسدة ..الشعب قانع ..الرجال (تيوس!) ..تضغط على أسنانها وتواصل رسم خطوط متقاطعة في صدر ورقة بيضاء..يذكر لها تفصيلا كيف بدأ يومه منذ أن غسل أسنانه إلى ساعته التي يتحدث فيها ليلا معها الآن ..تنظر الي الورقة والخطوط صارت سوداء من فرط ما رسمت عليها ..يخبرها بمشاكساته مع زملائه وتفوقه عليهم ..تفك شعرها المعقوف الي الوراء ثم تبدأ في تخليله بالزيت ..يخبرها عن ذلك المسؤول الذي اختلس مبلغا ضخما ثم تحلل منه .. لم تنتبه لحديثه فقد حفظت كل قصص فساد الدولة ولم تعد تعنيها في شيء ..فجاءة انتبهت لشعرها نظرت الي المرآة ؛لمحت شعرات بيضاء على مفترق رأسها ؛ خمس سنوات وهي تستمع لذات الحديث بكامل حواسها ..تهضمه دون أن تنظر في المرآة..تمعنت في شعرها.. ( نفشت)خصلات شعرها خصلة خصلة ؛لم يراوح زمان حديثه التفصيلي محطة الحادية عشر صباحا بعد ؛(نفشت) النصف الخلفي من شعرها لمحت بضع شعرات بيضاء آخر يقفن بانتصاب ؛قبضت انفاسها..كل خلايا جسدها أضحت خلايا سمعية عندما دوزن لها أغنية (أحلى منك قايلة بلقي!*) ولكنها تذكرت بأن ذات المقطع كان قد ردده لها آلاف المرات منذ نحو خمس سنوات أو يزيد ..تسمرت واقفة وهي ترى شيبات آخر طوال على الجانب الآخر من شعرها ؛لم تعد تسمع شئيا من بقية حديثه ..وهي ترى تلك الخطوط الرقيقة على جانبي عينيها ؛كان يتحدث عن فريقه عندما قذفت بالهاتف نحو المرآة وهي تقطع قبضة من الشيب في مقدمة راسها وتسكت كل الخلايا السمعية السرطانية التي استوطنت كامل جسدها!!.