"سمفونية الفوضى"  نعمة ابن حلام قراءة نقدية بقلم محمد بوحاشي

 
"سمفونية الفوضى"  نعمة ابن حلام
قراءة نقدية بقلم
محمد بوحاشي
 
                      I.  لقطات استطلاعية:
 
تتألف رواية سمفونية الفوضى للأستاذة نعمة بن حلام من سبعة عشر فصلا  موزعة على 222 صفحة. لم أتمكن من العثور على الطبعة الورقية كي أعمل على توظيف العتبات في القراءة، ما خلا العنوان الذي يتألف من كلمتين متناظرتين تناظرا ضديا: السمفونية والفوضى. فما دلالة صوغ عنوان الرواية بكلمتين متقابلتين بهذا الشكل؟ وإلى أي مدى وكيف تتحول الفوضى المشروطة بعدم الترابط  والاضطراب والتبعثر وغياب الاتساق والتناغم والانسجام إلى ضدها؟ إلى سمفونية يحكمها الانسجام وتناغم العناصر والوحدات؟ خاصة وأنها، أي السمفونية، مستعارة من عالم اللحن والموسيقى الذي يتميز بدقة وعمق التكامل في إنشاء وتكوين بنيته التوزيعية في كلٍّ متناغم تعد السمفونية أرقى أشكاله؟ فما السمفوني في الرواية؟ هل هو في المتن الحكائي الذي يتضمن الأحداث والوقائع (la fable) أم في التسريد كخطاب يرصد الأحداث في مسارها، اتصالها وانفصالها في ما يعرف بالحبكة (Intrigue )؟
يطالعنا الفصل الأول بحالة ووضعية شخصية سليمان الأوفوسي الذي، تقول الرواية، اعتاد أن يجلس ساعات طوالاً أمام جهاز التلفاز، هو الآن في سن 57، ترهَّلَ لكن بنيته توحي أنه كان قويا، بطنه المنتفخٌ أمامه يبين كأنه لم يمارس الرياضة قط، ينتقل في كرسي متحرك، متزوج بربيعة، إلخ... والسؤال هنا ليس ما آل إليه سليمان وإنما هذه البداية من النهاية؟ فكيف يتبلور مبنى الرواية وأي مسار يتبع؟
- الواقع المعاش والمتخيل والواقع الحلم: الأول ينخره العنف في تجلياته المتعددة، العنف المادي، النفسي (سلخة المعلم لسليمان التلميذ)، عنف الاقتلاع  من الوسط الأصلي، عنف الثقافة التي تتحكم فيها الدّوُكْسا والتمثلات السائدة والأحكام المسبقة والجاهزة... 
- التيمات والموضوعات التي تؤثث الرواية وأهمها الغريزة/العقل، الجهل/المعرفة، الذكورة/الأنوثة، الزواج/الطلاق، القيم المادية/الأخلاقية، الحلم/الخيبة، النكوص/التصعيد، الفوضى/التخريب، الانتماء/الاغتراب، الهجرة/الاقتلاع، التطلعات/الإحباطات والانكسارات.
أولا: إن هذه التيمات ليست مضافة إلى الواقع/المرجع بل هي لبنات انبنائه وتكونه. 
ثانيا: أصبحت في الخطاب السردي للرواية مُؤَشْكَلَة بوعي نقدي يقلبها السؤال والفحص على شتى وجوههها وأسبابها وخلفياتها.. تيمات تصاحب شخصيات الرواية وكل القوى الفاعلة، ألَما وحُلُما، إلى مفترقات عاصفة تتكسر فيها التطلعات والأحلام بفعل تكوينها الشخصي… سليمان، خديجة، ربيعة، وحيد، سعيد يقودون مساراتهم إلى الانكسار والتَّشتُّت والمحن والجريمة والفوضى، في حين تضع الشخصيات الإشكالية: كنزة وسمية بينها وبين هذه الشخصيات والأحداث التي تلتهمها مسافة فارقة منها تطل عليها لتقرأها تبعا للرؤية السردية في ثنايا خطاب الرواية. من هنا نفهم الموقع/الفضاء (تركيا) الذي يمثل ربوة تطل منها الساردة على الشخصيات وهي وتتفاعل مع الأحداث. غير ان هذا لا يعني أن الرؤية كانت من الخلف ما دامت الساردة مشاركة في صنع الأحداث ومتفاعلة مع الشخصيات، لكنها مشاركة مختلفة نوعيا... فإذا كانت الشخصيات مندمجة في واقعها تمثله وفق رؤية جمعية متماثلة ولا شعورية فإن الساردة الضمنية كنزة، ومساندتها سمية أو الصوت المرافق لها تتعامل مع الواقع ومجريات الأحداث بمنطق التعالي، بأسلوب ترنسندنتالي يمكّنها من التعامل معها تبعا لما تمليه عليها رؤيتها السردية. هذه العناصر التي أشرنا اليها سنعمل على التفصيل فيها في إطار المحاور التي قررناها لهذه القراءة.
 
II التيمات المحورية: 
في مسألة التيمات، الانتقاء يفرض نفسه، ذلك أن الرواية حملت موضوعات كثيرة يضيق المجال على استحضارها كلها، والانتقاء هنا ذاتي ما دامت هذه التيمات كلها تكتسي أهمية خاصة.
·                الفقر المدقع: نقرأ في الصفحة 60 من الفصل الخامس: "نحن الفقراء لا نحتاج إلى جواز سفر، نولد ونموت في نفس المكان"
·                العنف الراسخ والمستشري والمعمم في المنزل، خارج المنزل، في المؤسسة التعليمية، في الأسرة، في العلاقة الزوجية في القرى وفي المدن، في العلاقات الاجتماعية... نال سليمان (الشخصية الكارثية Catastrophique ) ما يكفي وزيادة من العنف، فاض العنف عليه من كل الجهات...عنفه الفقر ثم توالى التعنيف في حقه من طرف المدرس... "جره من شعره الكثيف وأوقعه على الأرض، وفي عملية شبة انتقامية أخذ يضربه بيديه ويرفسه بقدمية بعنف جعل الطفلة يُفرغ ما بجوفه..." (ص13)
·                معضلة التربية والتعليم: مما لا شك فيه أن "السلخة" التي حظي بها سليمان التلميذ وتهديد المعلم لزملائه بان ينالوا هم أيضا حِصَصا مما ناله سليمان تضع معضلة التربية موضع  تساؤل واستشكال: كيف يعقل أن تكون المسؤولية المنوطة بالمدرس هي التعنيف الممنهج؟ فإذا كان العنف هو المعيار الذي يسري ويجري مجرى الدم في المدرسة فمما لاشك فيه أنها ستكون المقياس والمرجع  لما يجري في كل المؤسسات الاجتماعية الأخرى... ولا نعدم الحجج الدالة على ذلك إذ الأواني بما فيها ترشح، ترشح بالعنف المادي والرمزي، فيساق المعنفون، حتما، إلى إعادة إنتاج العنف بكل مظاهره وأشكاله، كل شخصيات الرواية: سليمان الزوج والأب، زوجاته ربيعة، خديجة، هند، أبناؤه وحيد وسعيد ينخرها العنف وتعيد إنتاجه واستعماله كعملة أساسية في العلاقات وفي التعاطي مع الأشياء والأحداث وكأسلوب يخيل إليها (الشخصيات) أنه الوسيلة الأنجع لمواجهة المعاناة والمشكلات.
·       إشكالية الزواج: 
"- ما تثير استغرابي هو لماذا تزوجته؟
- عزيزتي؛ أغمضي عينيك وتخيلي اللون الأبيض. هل ترينه؟
- نعم 
- والآن تخيلي اللون الأخضر؛ هل ترينه؟
- نعم أراه أيضاً.
- تخيلي الآن اللون البنفسجي، ثم البرتقالي، ثم كل ألوان قزح؛ هل ترينها؟
- أجل أجل.
- افتحي عينيك الآن، هل ترين تلك الألوان؟    
[...]
- لماذا رأيت تلك الألوان عندما أغمضت عينيك؟ ألم يكن مفترضا ألا تري إلا السواد؟
- صحيح .
- لكنك رسمت الألوان في مخيلتك ونسجت منها لوحة زاهية.
[...] 
- أحيانا نغلق أعيننا ونتخيل الأشياء كما نريد لها أن تكون، ثم ننظر إليها على أنها حقيقة. نصدق الوهم الذي رسمنا في ذهننا." (ص 17 و 18 الفصل الثاني)
 
هل الزواج ضرورة؟ الجواب تمليه الثقافات عبر العصور. تزوج سليمان عدة مرات وكان يلبي رغبته الجنسية خارج إطار الزواج دون تردد ومع ذلك ظل يرغب في الزواج من كنزة لأنه يحبها. لنا وقفة مع تيمة الحب لاحقا. نوع العلاقة التي تحكمت في تفاعل سليمان مع زوجاته بما في ذلك كنزة قائمة على الأنانية والصراع والتحكم. وسليمان في الرواية يعبر عن الثقافة الذكورية في الواقع الذي يمثل خلفية الرواية ومرجعيتها. الزواج هنا محكوم عليه بالفشل والانفصال إلا اذا حتمت وضعية الأنثى أن تتحمل وتصبر... كيف تُفهم الوضعية الإشكالية للزواج؟ ما العناصر التي تؤشكلها؟ غريزية، ثقافية اجتماعية أم كلها مجتمعة ومتفاعلة؟
·       الحب والغريزة: 
ما الحب؟ هل هو دافع غريزي لا شعوري، هل هو وهم يُحَوَّل إلى حقيقة؟ هل الحب حب الغير أم حب الأنا، حب الذات؟... طرحت الرواية هذا المفهوم المسكوت عنه بكثير من العمق الفلسفي كما فعلت مع الزواج لما استحضرت رأي سقراط  فيه، نجد في ص 17 و 18 ما يلي: 
" [...] ثم سألتُني ما هو الحب؟ هل هو الانجذاب نحو الآخر لذاته؟ هل هو حب الذات إذ ينعكس طيفها في الآخر؟ هل هو حمّى تدوم بدوام زمن الحمى وتذهب بذهابها؟ هل هو الألفة والمودة؟ وهل وهل وهل؟ لم أستطيع أن أحدّد؛ وأنَّى لي أن أفعل وهو سؤال شغل الفلاسفة والأدباء والمفكرين؟ بحثت وحاولت أن أهتدي بآرائهم، بدءا من أفلاطون وسقراط وأرسطو، مرورا بالفلاسفة الوجوديين من جيل سيمون دو بوفوار كمارتن هايدجر وحنة أرندت وجان بول سارتر وغيرهم، والفلاسفة العرب الذين نظّروا للحب كابن حزم الأندلسي وأبي بكر الرازي وابن سينا، وصولا إلى المتصوفة وعلى رأسهم شيخ المحبين محيي الدين بن عربي، وكان أكثر ما لفت انتباهي هو تعريف هذا الأخير للحب.
-        لقد شوقتني وفتحت شهيتي، هيا اروي ظمئي بحديثك الممتع !" 
أولت الرواية أهمية خاصة لموضوع الحب ليس اعتباطيا أو جزافيا ومجانيا وإنما لأنه أولا لا يزال من التابوهات المسكوت عنها؛ ثانيا وحيث إنه لا يطرق ويعالج رغم دوره الخطير في حياة الإنسان وعلاقته فإنه يتسبب في مشاكل خطيرة وممتدة، بفعل الفهم المغلوط لطبيعته.
 ولا يفوتني هنا أن أنوه بالمنحى الفلسفي للرواية في هذا الموضوع كما في مواضيع الزواج والمعاناة والتجدد والتجاوز حينما تستحضر استعارة هرقليطس لمياه النهر المتجددة التي تحيل على التبدل والتجاوز والنقلة النوعية. وهو منحى إن دلَّ على شيء فإنما يدل على موسوعية معرفة كاتبة الرواية "سمفونية الفوضى" التي تمكنت من خلالها أن تُفَلسِف الكثير من الظواهر والحالات والعلاقات ناقلة إياها من الجزئي الخاص والمحدود إلى العام الكلي والشمولي، وهي استنتاجات عامة بمثابة دروس وعبر مستقاة من تجارب الحياة تخترق كتابات روائية كبرى مثل روايات ألبير كامو، وجان بول سارتر، وباولو كويلو وغيرهم.... الجنوح إلى التفلسف علامات مشرقة في رواية "سمفونية الفوضى" وقد لا أتردد في اعتبار عنوان الرواية ذا نكهة فلسفية لكونه عنوانا مستشكلا ينطوي على مفارقات عدة.
 
III - الرواية والواقع: واقع مأزوم وشخصيات مهزومة. 
في كل رواية يتم التمييز بين زمن الأحداث والوقائع، زمن الكتابة وزمن التلقي، فأنا (قارئ هذه الرواية) أتواجد في زمن التلقي، وكاتبة الرواية تتواجد في زمن يتعالى ويفارق زمن حدوث وسيران الوقائع، فكلانا مضطر إلى تخيلها عبر تقنية التذكر والاسترجاع. وهذا ما كانت تقوم به الساردة كنزة بطلب من سمية. هناك شخصيات منغمسة في واقعها حسيا وغريزيا، يبتلعها الواقع، يقذف بها ذات اليمين وذات الشمال، تخضع لإكراهات عصية على فهمها وإدراكها، تبحث عن خلاص أو مخرج فردي وبكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، تتكسر تطلعاتها على صخرة الواقع وتنهكها الإحباطات والخيبات. وهذا واقع أغلب شخصيات الرواية: سليمان، خديجة، هند، ربيعة، وحيد وسعيد... رغم سلبية هذه الشخصيات في تفاعلها مع واقعها فإن نزوعا قوامه الكد والاجتهاد من أجل تدبير شؤون حياته وخاصة توفير وسائل العيش يسم سلوك سليمان، لكن الوسائل غير المشروعة ليست مُغَيَّبَة في حساباته ومنها على الخصوص الهجرة السرية إلى أوروبا وعزمه الترشح للانتخابات الجماعية لسنة 1997 وهو متزوج بكنزة التي خيرته بينها وبين التخلي عن هذا المشروع. كنزة الساردة والصوت المصاحب لها سمية تختلفان نوعيا عن باقي الشخصيات فرغم أن كنزة ليست ساردة من الخارج، بل تسرد وهي مشاركة مُشَاركةً فعالة في الأحداث والوقائع فإنها لم ترضخ ولم تندمج مع الموبقات ولا استسلمت للشر الطافح... بل تتعالى على الواقع واضعة بينها وبينه مسافة لتأمله وقراءته وفحصه والتساؤل عن الآليات المتحكمة فيه. وعليه فإنني أزعم أن كنزة  تمثل صوت الراوية الحقيقية التي حمَّلت كنزة رسائلها الواضحة والمشفرة، حمَّلتها رؤياها السردية للواقع باعتبار ما هو كائن، وباعتبار ما ينبغي أن يكون عليه.
سليمان وكنزة شخصيتان مركزيتان لا يمكن إلغاؤهما دون أن تنهدم البنية السردية حكاية وخطابا، لكنهما شخصيتان مختلفتان جذريا ونوعيا في توجههما المغاير وفي سياق علاقتهما بالواقع سلبا وإيجابا.
ترتبط أحداث الرواية إذن بواقع اجتماعي تتفشى فيه ظواهر الفقر، الهجرة الداخلية والخارجية، البطالة، الفساد الأخلاقي والسياسي، وعلاقات يحكمها التسلط والتحكم والاستغفال والاستغلال والركض المحموم وراء أهداف ذاتية وسلوكات انتفاعية وصولية غير آبهة بالقيم الأخلاقية.
 


VI - البنية السردية: 
زمن الوقائع والأحداث أي زمن المادة المحكية متعدد الأبعاد، فما وقع لشخصيات الرواية سليمان، كنزة، خديجة، ربيعة، وحيد، سعيد، الموس، الحنش، سمية وغيرهم ممن لم يؤطرهم اسم ما، وقع لهم في نهاية الألفية الثانية وما بعدها في فضاء محوري المغرب وفضاءات أخرى، إسبانيا، فرنسا، تركيا... اتخذ مسارات زمنية متعددة، هذا الأمر لا جدال فيه غير أن زمن الخطاب أو المبنى الحكائي يقتضي طرح السؤال: أهو سرد خطي تتابعي يتضمن بداية وعقدة ونهاية أم هو سرد دوراني محكوم بالارتداد؟
ينطلق السرد في رواية "سمفونية الفوضى" من النهاية، ذلك أن الفصل الأول منها يطلع المتلقي على الحالة أو الوضع المأساوي الذي آل إليه سليمان البطل الرئيسي للرواية الذي تم توظيفه كشخصية تنكشف في مساراتها العلل التي تُبَنْيِنُ الواقع والأمراض والدوافع البيولوجية والسيكولوجية التي تصدر عن القوى الفاعلة في الرواية (Les actants). الفصول السبعة عشر للرواية غير معنونة، هي وحدات حكائية ( Séquences) متسلسلة يحكمها سير دوراني، تتسع كاتساع  دوائر على صفحة ماء، دوائر متلاحقة، تشكل كل واحدة منها مرحلة من مراحل تطور النص، يبدأ بطفولة سليمان الأوفوسي في قريته ثم هجرته صحبة عائلته قبل إن يهاجر فرديا إلى الضفة الأخرى. شخصية يملأها الحرمان والتذمر المصحوب بنزوات غريزية وبإرادة التحدي فهو شخص محارب كما ورد في وصف الرواية له...الفصول حلقات متتابعة تنتظم وفق منطق سرد أحادي تتكلف به الساردة كنزة بطلب من سمية الراغبة في جمع مادة رواية تعتزم كتابتها. غير أن تقنية السرد هي إطلالات على الأحداث المسرودة من الخارج، فمن تركيا كانت تستجيب كنزة لرغبة سمية، فهي تقنية الارتداد إلى الماضي في ما يُعرف بالوظيفة التَّقلُّبية. نحن هنا مع  حديث عن رغبة في كتابة رواية أي مع رواية في قلب رواية أو ميتا رواية، قد يكون المراد منها الإيحاء بالواقعية قصد التأثير على المتلقي المفترض الذي يبرم مع السارد الضمني عقدا يُفضِي إلى الإقرار بواقعية أحداث الرواية كما بضرورة الانفتاح عليها وقراءتها من خلال قراءة الرواية باعتباره معنيا بتلك الأحداث والوقائع والظواهر. لكن أي أفق انتظار ينعقد بين السارد الضمني والمتلقي المفترض؟ 
إذا اسْتقْرءْنا أسلوب السرد الذي هو قراءة انتقائية للأحداث باختيار تيمات والسكوت عن أخرى، نجد أن ما وقع عليه الاختيار هنا يبث رؤية الكاتبة وإيصالها إلى القارئ؛ رؤية نقدية تفكيكية تنطلق مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون بخلخلة التمثلات (الدوكسا) والعلاقات السائدة من خلال توظيف أدوات حجاجية نقدية أهمها السؤال أو الوضع في موضع الاستشكال وإقامة تناظر ضدي بين قيم وأهداف فئات أخرى.  يتجلى هذا التناظر الضدي، الذي هو في صميميه مقارنة حجاجية نقدية بين قسمين من شخصيات الرواية، فمن جهة نجد كنزة وسمية ومن جهة أخرى متعارضة مع الجهة الأولى، نجد سليمان وزوجاته وأبناءه... الجهتان متقابلتان في الأهداف والتطلعات وزوايا النظر ووسائل التنفيذ... فشخصيات الطرفين غير متجانسة، غير أن هذا اللاتجانس لا يمنع وجودها كُلَّها في واقع واحد جهنمي لا يرحم. كما أن الانتقال في السرد من الزمن الحسي إلى الزمن النفسي عدد ونَوَّع أشكال الحوار وأشكال الوصف. لقد سبق أن ألمحنا إلى أن السرد هنا اتخذ مسارا يمكن رده إلى قسمين: 1- سرد أوضاع شخصيات مندمجة بواقعها تتعامل معه بنفس العملة السائدة فيه. 2- سرد لأوضاع شخصيات مرتبطة بعلاقة إشكالية مع واقعها تنكشف داخل الرواية في  أشكال من التوتر والصراع وإرادة التجاوز (كنزة). الأولى تدور في فلك رؤية  جمعية سطحية متماثلة تسبح في مستنقع التردد، والثانية تقودها رؤية عميقة قوامها التعالي الفكري والأخلاقي والتحدي المعقلن.
 
V. اللغة والأسلوب: 
كيف تم استعمال و توظيف اللغة في الرواية؟ هناك طرق أو معايير كثيرة يمكن من خلالها تحليل هذا السؤال: المعيار اللسني، المعيار البلاغي، المعيار الشعري، اللغة والمتلقي. وبما أنه لا يمكن في هذه القراءة المحدودة طرق كل هذه الجوانب فقد ركزنا على معيار الشعرية في الرواية: علما بأن هذا المعيار يستجيب للخصائص الفنية لأي عمل روائي.
 استقت الرواية مادتها من مرحلة معينة من واقع المجتمع المغربي في المنتصف الثاني للألفية الثانية وما بعدها باعتبار مؤشرات واردة فيها أهمها مؤشر ترشح سليمان لانتخابات 1997. هل تم اختيار أزمنة معينة كان لها دور حاسم في الحاضر؟ قد تفعل ذلك الرواية التاريخية، أما رواية "سمفونية الفوضى" المطبوعة بطابع سوسيولوجي فقد اهتمت بالماكرو والميكروفِينومينات، ذلك أن أدق الأحداث والأفعال والأقوال يكون لها دورها في نسج بنية الواقع وبنية الرواية. فما هي أهم روافد الشعرية في رواية "سمفونية الفوضى"؟ سنعرض لهذه الروافد دون تحليلها لِئلاَّ يتحول هذا المحور إلى دراسة مطولة. نذكر من هذه الروافد: (1) المفارقات والتناقضات. (2) التكثيف .(3) الوصف البارونامي الشعري والشاعري . (4) وصف الحالات الخارجية والداخلية (النفسية) لشخصيات الرواية. (5) المونولوج أو الحوار الأحادي، تقنية تيار الوعي والذي اشتهر به جيمس جويس وغدا أسلوبا منتشرا في الكتابة الروائية، كما هو الحال في رواية "سمفونية الفوضى". (5) الكشف عن الجوانب الوجدانية. (6) التخييل والتصوير فيما أصبح يعرف بالصورة الروائية مقابل الصورة الشعرية. (7) الخطاب المسرود ذو الصلة بالوصف حيث يوقف الوصف حركية السرد لنقل لقطات ذات منحى شعري وشاعري، وما أكثرها في الرواية وخاصة تلك التي تبثُّها الساردة من فضاءات بتركيا تزخر بآيات وعلامات الجمال. ويحتمل أن تكون تلك الفضاءات الجميلة مستحضرة لإقامة تناظر ضدي بينها وبين فضاءات أخرى يستشري فيها القبح للتعبير عن البديل، عن الحلم، ذلك أن الحلم كما يقول مالارميه هو ما ينقلنا إلى عالم آخر. والرواية حسب ميشل بُوتورْ، لا تكون شعرية بالمقاطع فحسب بل بمجموعها، وهذا ما نلمسه في رواية "سمفونية الفوضى" التي تغوص في الوقائع والأحداث، تفككها، تؤطرها في مسار الحياة ببعديها الداخلي والخارجي والإبحار الخيالي في عوالم النفس الإنسانية، ما يجعلها في كليتها قصيدة نثرية طويلة، بل إنها -وهذا شيء مهم- تتأثث بمقاطع شعرية في البداية وفي النهاية. نقرأ في مدخل الرواية هذا التصدير الشعري:
تكبو الأحلام،
تعشونا أطياف الأوهام،
 في فوضى عابثة، تتبعثر أوراق هَرِمَتْ
وترامت
 فَوْقَ رُكام العُمر
وفي الفصل ما قبل الأخير صفحة 219 و 220 تباغتنا هذه القصيدة الرائعة المسرودة في سياقها النصي:
" [...] عرفته ذات زمن، لما كانت الشمس تشرق من جهة النبض، والبراءة ترسم خارطة القلب.
 عرفته حين كان الفجر يفصّل الأغنيات، وشعاع القمر يخيطها، وخفافيش الظلام ينقضون غزلها كل ليلة.
 عرفته لما كانت الأمنيات فراشات ترصَّدها الصقيع فكسّر أجنحتها ليصير اليقين سرابا، وشذا الورد يبابا  [...]
[...] أجابته وعيناها تسبحان في الأفق ثم شرعت تنشد:
 حين المرايا تنكسر 
تخبو أهازيج القمر
الروح عين تمتطي
سرّ الرؤى
نبض البصر 
والعمر دَربٌ للسؤال 
  عدْوٌ على رأس الإبر." (ص220)
 هذا علاوة على استعمال واسع النطاق للبلاغة تعبر عنه الرموز والاستعارات والأسلوبية المحبوكة التي تنسج العلاقة بين الموضوع والرؤية السردية فتتولد عنها صيغ إيحائية تعدد المعنى وتثريه. تمتح الصور من أعماق الذوات في تفاعلها مع الواقع مثلما ما نجد في المقاطع الشعرية، التي تتكثف فيها معطيات الرواية وتكشف أن السارد لم يبدع الرؤية السردية من فراغ أو من محض تخيله ولكن أيضا من المعايشة والمعاناة... وهذا هو دَأبُ الرواية الجديدة والرواية التجريبية التي تنتمي رواية "سمفونية الفوضى" إلى نمطها بجدارة.
 
خاتمة 
رواية "سمفونية الفوضى" للمبدعة الأستاذة نعمة ابن حلام تفتح الرؤى على واقع تحكمه الفوضى لكنها فوضى محكمة الخيوط  والعناصر محبوكة ومحكمة الصنع، تبتلع الأفراد، تكسر مساراتهم، تُبدِّد أحلامهم، تحولهم إلى أشخاص معطوبين، إلى أشباح.. واقعٌ الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود.. لكنها -وهذا فصلها وأصلها، أعني فرادتها وتميزها- رواية تؤشكل ذلك الواقع وتسائله، تسائل عطالته، أوهامه الراسخة، تمثلات الناس داخل سراديبه، ذاكرته المثقلة بالانكسارات والتراجعات، وأقنعته وأنماط سلطه... فهي بذلك مرافعة من الطراز الفني ضد الظلم وانهيار القيم الأخلاقية مقابل سيادة القيم المادية المتوحشة، وهي تفكيك لآليات التسلط والحيف والجهل المستشري والفوضى العابثة بالمصائر.. تفكيك يستند إلى أسلوبه الروائي الفني الذي أتينا على ذكر أهم معالمه في محاور هذه القراءة حيث يتم توظيف السؤال من أجل شحذ الهمم. هاهنا يتقاطع في الإبداع الإمتاع والإقناع، ويُسْتَدرج المتلقي والقارئ إلى كشف أوراق العقل المعتقَل والمعتقِل، العقل المُؤَدْلِج والمُؤدْلَج الذي أدخل ويدخل النظام والمعقولية على الفوضى، ودعوة إلى التجديد والتجدد والتجاوز.
 وأخيرا، لا يفوتني أن أذكر أنني بفعل كثافة الرواية وزخمها الجمالي والدلالي، كنت مضطرا إلى إلحاق عناصر ومحاور بأخرى ودمجها في بعضها البعض.