تقنية الأسلوب الاسترجاعي في رواية حياة
تقنية الأسلوب الاسترجاعي في رواية حياة أبو طالب محمد أصدرت دار أوراق للنشر والتوزيع بالقاهرة في العام 2016م، رواية "حياة" للروائية إيمان المازري، وهي ثالث رواية للكاتبة، نهضت الرواية على أسلوب تقنية الاسترجاع السردي
تقنية الأسلوب الاسترجاعي في رواية حياة
أبو طالب محمد
أصدرت دار أوراق للنشر والتوزيع بالقاهرة في العام 2016م، رواية "حياة" للروائية إيمان المازري، وهي ثالث رواية للكاتبة، نهضت الرواية على أسلوب تقنية الاسترجاع السردي، أي بمعنى قامت على نمط استرجاعي بطريقة كتابة الرسائل عبر عناوين مسماة على أسماء شخصيات شكلت مساحات كبيرة في متن الرواية بالداخل، نسبة لحضورها وسيطرتها على مشهدية الأحداث، جاءت على هذا التسلسل كما وضعتها الكاتبة في جزأين.
الجزء الأول: الرحلة الثانية قبل الموت"حياة"، وفصولها: رسالة إلى حمزة، رسالة إلى سارة، ورسالة إلى عثمان.
الجزء الثاني: الرحلة الأولى الموت والحياة، وفصولها: رسالة إلى أبي، رسالة إلى أمي،ورسالة إلى حياة.
هذا البناء اتبعته الكاتبة وبينته في بنية روايتها بتقنية الأساليب الاسترجاعية المتداخلة مكونة من خلاله فضاءً سردياً تحركت فيه الرواية. يضاف لهذا ارتكزت الرواية على شخصية محورية "حياة"، التي لعبت دور البطلة المحركة للأحداث والمشاركة في بنائها والمسترجعة لماضي حكاياتها والرابطة بين أساليب الاسترجاع المتعددة والمؤسسة لعلاقات شملت الشخصيات جمعاء.
أبرزت الكاتبة ملامح إيجابية في مجتمعنا السوداني تحديداً في توظيف فكرة التبنى أي جميع الشخصيات راهنت على مبدأ التعاون المجتمعي المشترك بإعتبار أن الرواية مضت اتجاه بنية مجتمعية، وشخصياتها تحمل روح التعامل والتعاون مع بعضها بعضا. فقدت الفتاة "حياة"، أمها التي حدثت وفاتها نسبة لحليب مسمم مع إبنها حمزة وأدا إلى وفاتهما، تكفلت بتربية "حياة"، خالتها عواطف التي رفضت أن تكون زوجة لأبيها واكتفت بتربيتها، ونجد أيضاً شخصية "الدكتور عثمان"، قام برعايتها والاهتمام بها إلى أن توطدت علاقتهما بالزواج. وشخصية "نفيسة"، اهتمت بها وتكفلت بمتابعة حالتها المرضية، وذهبت بها إلى الوداعية "زهرة عطا الله"، لمعرفة علة المرض. وحتى شيخ أحمد التمساح لم يبخل عليها بكراماته وزيارته لها في المنام، وبجانب هذا رعاية "حياة"، نفسها للفتاة "سارة"، وملازمتها لها في مستشفى القطينة والخرطوم واهتمامها بها في الكمبو، على هذا التبنى ظهرت شخصية أخرى تسمى أيضاً "حياة"، وهي شخصية مجهولة الهوية تربت في الحوش الكبير وكفلتها حياة وغيرها من ذوي البر والاحسان هذه الشخصية تدعى"حياة"، دعمت الأحداث بمزيد من الأفكار التحريضية التي تلقيها على شخصية البطلة "حياة"، دائماً تحذرها من الابتعاد عن عثمان بصدد أنه متزوجاً ولديه طفل، وهي نفسها وليدة لنبوءات حُلم راوض "حياة"، البطلة نفسها من خلال الجملة السردية الآتية قالت: "فأعود لفراشي مبتسمة وأردد: لعل أحلامي قد انهكت بصيرتي فصرت لا أميز بين الواقع والخيال، ثم لا يلبث أن يرعشني الصوت مرة أخرى ويزداد قرباً يتبعه نباح جيمي كلب حاجة "نفيسة"، وصياح ديكها، ثم تسكن الغنيمات عن ثغائها ليصرخ "حاج مكي"، بعلو خوفه: دا شنو يا ناس؟.وعلى صوت حاج مكي يصحو الكمبو لنقف على باب منزلنا نراها طفلة مسجاة على ورق كرتون ملفوفة بقماش أبيض". إذن "حياة الصغرى" ظلت حاضرة في بنية الرواية إلى أن أحدثت ربكة ضاعفت توتر الأحداث ووطدت فكرة التبنى بصورة أعمق عندما تم قبولها في المدرسة طلب منها أن تأتي بأوراق ثبوتية لكيما يتم تسجيلها وكانت دائماً تردد أنا حياة بمعنى حياة أمي وأبي، رفض هذا الاسم من مؤسسة المدرسة، وتم استبداله بحياة عثمان مكي نسبة لتسهيل ‘الإجراءات في المدرسة وحتى الجامعة. هنا تكفل عثمان بمتابعة دراستها حتى التخرج ويضاف له زملاؤه الذين قاموا بدور المتابعة داخل الجامعة حتى مطار فرنسا.
فكرة التبنى التي أتت بها الكاتبة شكل استمرارية لحياة قادمة حلمت بها البطلة في مسيرة حياتها وعكست الوجه الإيجابي للمجتمع السوداني ودوره تجاه الأبناء مجهولو الهوية.
أسلوب الاسترجاع السردي في حياة:-
لابُد أن تكون الحكاية السردية وقعت في زمن سابق عن لحظة الكتابة، إذ يتعذر كتابة قصة لن تكتمل أحداثها بعد، الأمر الذي يفترض مسافة زمنية فاصلة بين زمن الحكاية وزمن السرد، تلك المسافة التي تتيح للكاتب التنقل بين أزمنة عدة، إذ يعود للماضي ببعديه: القريب والبعيد، وقد يقفز على الأحداث الحاضرة لطرح بعض الأحداث الآتية، فتتكسر تعاقبية الزمن الحكائي عند معالجته سردياً.
أسلوب تقنية السرد الاسترجاعي تعني إيقاف السرد من أجل العودة إلى نقطة سابقة على النقطة التي وصل إليها. يلاحظ في الرواية تقنية الاسترجاع ،عندما مهرت حياة رسالتها لشقيقها حمزة ومرورها بعوالم الشخصيات التي ساهمت في بنيتها. توقف هنا السرد عند هذه النقطة واستأنف طريقة سرده من جديد بإشاراته لسيرة الشيخ أحمد الرضي، وتقول عنه الساردة: "ولد مع عشرة أشقاء من الذكور جميعهم توفوا قبل بلوغهم سن السابعة إلا هو، فقد كان الحرز الناقة، وهو من الأذكار الشهيرة التي تقرأ للصبية ما قبل سن بلوغ الحُلم، أثره ذاك الحذر الذي يردده حاج الرضي كما تتناقل الروايات، كان له من السحر ما جعل الصبي أحمد شيخاً وصاحب كرامات ومعجزات، وفي ليلة من ليالي منتصف رمضان، والجميع في صلاة التراويح بالمسجد كان أحمد ذو السته أعوام يجوب قفار الكمبو بحثاً عن لا شيء، لم يفتقده أحد إلا بعد مرور زمن متوجس على غيابه، شمر الجميع للبحث عنه وبعد يأس من البحث فيما يقارب الثلاث ساعات في غمرة بحثهم يأتيهم صوت نداء من المساحة الخالية التي بنى عليها المسجد فيما بعد، يهرول الجميع إلى موقع الصوت ليجدوا شيخ أحمد يجلس بجانب تمساح، كانت مفاجأة وفاجعة فلم يجرؤ أحد على محاولة الاقتراب أو حتى إصدار صوت، كان شيخ أحمد يجلس هادئاً في ظلام الكمبو، وتنعكس على الأرض قربه تضاريس جسد تمساح يراقب الجميع في صمت وهدوء، إلا أن زوبعة الرياح وصراخ أم شيخ أحمد أيقظت تأملاتهم.. الرواية ص18".
ويتواصل السرد:"اقتربت حاجة خديجة مندفعة نحو إبنها الذي ظل صامتاً، وفي غمرة قوة اندفاعها يقولون أن التمساح تحرك ناحيتها لتتراجع مذعورةً، لكن الصبي أحمد يضع يده على ظهر التمساح فيسكن حجراً ومن يومها صار حجر التمساح مزاراً للجميع من كل القرى والحلال المحيطة بالكمبو، وأمسى أحمد شيخ أحمد تمساح وهو لم يتجاوز السادسة من العمر ووفاءً لكراماته تم بناء المسجد عليه.. الرواية ص18".
استئناف السرد لاسترجاعيته وظفت ملمح ديني لكرامات الأولياء الصالحين ودورهم في المجتمع من خلال الاستشهاد السردي الذي أتى حاملاً وموضحاً سيرة الشيخ أحمد التمساح وصار صاحب مزار يرتاده المريدين ليناولوا منه البركة عندما قامت حياة برحلتها إلى الضريح لتنال بركة الولادة بسلام وطمأنينة، وهو طقس ديني عُرف في المجتمع السوداني بالتبرك وحلول العقد عندما يرتاده الزائرين.
بجانب الضريح وظف النص في استشهاداته الاسترجاعية فكرة المعتقد الشعبي المتمثل في شخصية الوداعية "زهرة عطا الله" وتقول:"صرخت شيخة زهرة وهي تقرأ ودعاتها المتناثرات على صحن الطلس الأفطح الممتلئ بالرمال، ثلاثتنا بدأنا نراقب ما تقوم به باهتمام، حملت السبع ودعات بيدها اليسرى ثم رمتها بخفة على صحن الطلي برماله الذهبية، وأخذت تهز رأسها، تبلع ريقها، ترسم خطوطاً بين الودعات ثم ترفع رأسها تراقب ملامحها في سخرية وقالت:"الوحيد ليكي منو يا السمحة؟.....الخ الرواية ص117"، مزار الوداعية الهدف منه معرفة حالة المرض وكيفية علاجه عند الفكي وتمضى الرواية في تقديم بنيات سردها إلى الأمام مستصحبة معها مدى الزمن وسعة امتداده ليصل السرد عند نقطة استرجاعية، ويوظف فيها معتقد شعبي آخر يمثل توضيح طقس الفكي فضل الذي يستهل طريقة علاجه للمريض بعبارات دينية تدخله وتدخل المريض في حالة رهبة وثقة بالشفاء حيث يقول الفكي فضل:"بسم الله يا شافي يا كافي يا معافي، أمان.. أرفعي أيديكي....الخ الرواية ص126"، ثم ينتهى طقس العلاج باعطاء المريضة قراطيس من الأوراق الملفوفة"بخرات"، وطريقة استعمالها مرة واحدة كل يوم ورقة تبليها بالماء وتشربيها لمدة سبعة أيام. المقصود من توظيف المعتقدين "الودع والبخرات"، لأن السرد افترض أن المريضة حياة مكتوبة من قبل هنادي زوجة الدكتور عثمان الأولى وأضحت حياة بمثابة ضرة لها. وزد على ذلك توظيف المؤسسة الدينية "الخلوة"، نجدها لعبت دوراً كبيراً في تدعيم بنية السرد واستناده على فكرة الدين والانتماء المجتمعي إضافة لدورها في تحفيظ القرآن الكريم على يد أبيها.
جسدت الرواية فكرة التبنى المجتمعي بمؤسساته الدينية ووضح قيمه المتماسكة في مسارات أحداثه.
أنواع الاسترجاع السردي في حياة:ـ
يقسم جرار جينيت الاسترجاع إلى ثلاثة أنواع:-
أولاً:- الاسترجاع الداخلي: فهو عرض حدث ماض لم يُمكن من عرضه، وهو ضمنياً داخل سياق خطاب النص.
وعليه يكمن أسلوب الاسترجاع الداخلي في رواية حياة ضمن الخطاب المجتمعي للرواية وكثيراً من استرجاعات الرواية تم فيها عرض أحداث لم تتمكن الساردة من عرضها وهي أحداث لقاءات مدونة بأسلوب الرسائل وتوضح الساردة في رسالتها إلى حمزة، وإلى سارة، وإلى عثمان، وإلى أبي، وإلى أمي، وإلى حياة، هذا الاسترجاع يعتبر استرجاعاً داخلياً أسست عليه الرواية بنية خطابها السردي.
ومن أنواعه:
- استرجاعات داخلية قريبة من الحكاية المروية تسير في خطها من خلال مضمون حدثي مغاير للحكى الأولى، مثل تقديم شخصية واستحضار ماضيها.
وتقول عنه الساردة "ولد شيخ أحمد الرضي مع عشرة أشقاء من الذكور جميعهم توفوا قبل بلوغهم سن السابعة إلا هو...الخ".
- استرجاعات داخلية متضمنة في الحكاية ، تسير في خط الحدث نفسه الذي يجري في الحكي الأول، مثل قول الساردة: "وكان حمزة يحملني تارةً ويمسك معصمي تارةً أخرى نركض كيافعين، حمزة في عمر الشباب، تلوح لنا أمي من بعيد فيسرع حمزة محاولاً تلبية النداء أبحث عنه بين الأشجار... رسالة إلى حمزة".
ثانياً: الاسترجاع الخارجي:ـ
يعنى العودة إلى نقطة تتجاوز نقطة الانطلاق السردي، فتظل سعة الاسترجاع كلها خارج سعة الحكاية الأولى، ووظيفته تنوير التلقي بخصوص هذه السابقة أو تلك، واكمال الحكاية الأولى ورجوع السارد إلى ما قبل نقطة الانطلاق وهي محاولة منه لاكتساب حكيه تفسيراً جديداً على ضوء المواقف المتغيرة.
وتقول الساردة :"لم تكن هناك تحقيقات من الشرطة أو أسئلة، الكل قرر أن أمي ماتت منتحرة، وأن حمزة قد لحق بها بدون علم منه بعد شربه من ذات كوب اللبن المسموم، ولم تتجه أصابع الاتهام إلى أحد. دون الكمبو الوفاة تحت بند مجهول، وتمت مواراة الجثمانين في صمت، ولم يبحث خالي الماحي عن أسباب موت أمي وأخي، تقبل الأمر بقراءة الفاتحة صامتاً محتسباً وانقطعت أخباره عنا... الخ".
وتمضى قائلة بذات فكرة الاسترجاع الخارجي:"طوال سنين طفولتي بعد وفاة أمي لم يستطع أبي بناء جسر بيننا، لم يملك وقتاً لهدم بركة نضبت من الحب بيننا، لم يسع أن يمنحني طوقاً من النجاة ولا شريطاً من الذكرى يليق بمراهقة".
ومن أنواعه:-
- استرجاعات جزئية ووظيفتها تقديم معلومة ضرورية لعنصر محدد في حركة تنتمي إلى حذف دون أن يصل إلى الحكي الأول، يتمثل في فعل الساردة عندما تقدم معلومة عن ظهور وميلاد شيخ أحمد الرضي ودوره في الكرامات كما ورد سابقاً.
- استرجاعات كلية تمتد لتغطي مدة طويلة في الماضي إلى الحكي الأول.
هذا النواع نجده ماثلاً في أسلوب كتابة الرسائل القائمة عليها الرواية حيث تغطى مدة طويلة جداً في الماضي بإستنادها على تفسيرات رؤية الحلم التي أباحت به الشخصية المحورية حياة في متن النص.
ثالثاً: الاسترجاع المختلط:-
يسترجع حدثاً بدأ قبل بداية الحكاية واستمر ليصبح جزءاً منها، فيكون جزء منه خارجياً وما تبقى داخلياً.
نلاحظ استرجاع هذا النوع ناتجاً عن بوح الساردة "حياة"، وما اختزنته من حكايات وروابط جمعتها بسارة وعثمان وحياة والأب والأم في الماضي، حتى استمر وأصبح جزءاً أصيلاً من البنية السردية للرواية وبعض منه صار خارجياً في بوحها لوفاة والدتها وشقيقها حمزة ووفاة سارة والبعض الآخر بقي داخلياً مختلطاً بمسيرة الشيخ أحمد التمساح والفكي فضل والوداعية، هذا النوع عُرف في بنية الرواية بأسلوب المزج المختلط نسبةً لتداخل بنيات حكاياته.
نخلص مما تقدم بالآتى:ـ
1/ وظفت الرواية أسلوب تقنية الرسائل بطريقة استرجاعية.
2/تجلت في الرواية فكرة التبنى الماثلة في المجتمع السوداني.
3/ وظفت الرواية المعتقد الشعبي.
4/ التزمت الرواية بطرق الاسترجاع الداخلي وأنواعه والخارجي وأنواعه وتقنية المزج المختلط وفقاً لنمط كتابة الرواية الذي جاء بأسلوب الرسائل.
إحالات مرجعية:-
- جودة عبد النبي جودة: الزمن الروائي "روايات علاء الديب نموذجاً": دراسة منشورة بمجلة الرواية قضايا وآفاق تعنى بالابداع الروائي المحلي والعالمي، العدد9: القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص163.
- نفسه، ص166.
- جيرار جينيت: خطاب الحكاية "بحث في المنهج"/ محمد معتصم"مترجم": القاهرة: المجلس القومي الأعلى للثقافة، ص65.
- نفسه، ص70.
- نفسه، ص75.
- جودة عبد النبي مرجع سابق، ص175.
- نفسه، ص180.
- نفسه، 185.
- إيمان المازري: حياة "رواية": القاهرة: أوراق للنشر والتوزيع، ديسمبر2016م.