تحليل الخطاب والتاريخ الوطني المخذول في رواية جمال محمد إبراهيم

تحليل الخطاب والتاريخ الوطني المخذول في رواية جمال محمد إبراهيم رحلة العسكري الأخيرة  عز   ا لدين ميرغني                      ( موضوع التاريخ ليس ما يريد الإنسان                       بل تصورنا لما يريد )                            تولستوي

تحليل الخطاب والتاريخ الوطني المخذول في رواية جمال محمد إبراهيم

تحليل الخطاب والتاريخ الوطني المخذول في رواية جمال محمد إبراهيم
رحلة العسكري الأخيرة 


عز   ا لدين ميرغني

 

 

 


                     ( موضوع التاريخ ليس ما يريد الإنسان
                      بل تصورنا لما يريد ) 
                          تولستوي
إن الرواية , شكل أدبي بانورامي مرن , يمكن أن يقرأ الحاضر بالعودة إلي الماضي , ويستشرف المستقبل بقراءة الحاضر أيضاً . ويما أن تاريخنا الحديث ما يزال يحتاج إلي إعادة لقراءته , فإن الرواية يمكن أن تكون واحدة من وسائل إعادة القراءة هذه . فهي قادرة علي رصد وتحليل التغيرات التاريخية والسياسية والاجتماعية والفكرية التي تحدث في المجتمعات الحديثة . وقد فعلت الرواية ذلك في أوربا , بحيث ترجمت تحولات اجتماعية حاسمة , فحررت الواقع المعيش من صورته اللاهوتية وحررت معه العقل الإنساني وأسئلته , ونقلت الإنسان الذي يقتات بالمقدس ويقتات المقدس به إلي وضع جديد يقاسم فيه المقدس قداسته , أو يكتفي بحياة دنيوية عارية من أطياف الخطيئة الأولي . 
   وفي رواية الدكتور  جمال محمد إبراهيم ( رحلة العسكري الأخيرة ) , وكما يقول ( لوسيان جولدمان ) , ( إن النص هو بنية إبداعية متولدة من بيئة اجتماعية ) . فالخطاب في هذه الرواية , ليس خطاباً سياسياً , أو تاريخياً محضاً , وإنما هو شكل من أشكال الخطاب الاجتماعي . والذي صنع في زمن تاريخي ما فردا بطلا منه ومن صلبه وتربيته الاجتماعية . جاهد ضد الاستعمار ومات ميتة الشهداء . وهو البطل ( عبد الفضيل ألماظ) . وهي شخصية صنعها المجتمع , ولم تصنع نفسها لوحدها . لذلك كان المجتمع هو الذي احتفى بها ميتة أكثر من أنها حية حتى في زمانها . لان المجتمع قد يصنعك ولا يعرفك إلا عندما تموت . وقد كان خطاب الرواية يحمل لوما للمجتمع الذي لم يتتبعها حية وميتة . وذاكرة الرواية هنا , وعن التاريخ والذي كان يمثل المتن الحكائي فيها , هي ذاكرة تدوين أقرب للشهادة السماعية , رغم تدوينها المكتوب . بحكم القرب الأسري بين صاحب السيرة وبين الكاتب المدون لها . وهو ليس مؤرخاً , ولم يرد أن يكون كذلك . ولذلك جاءت المادة التاريخية المدونة أقرب إلي يوميات السيرة الذاتية . ولأن الراوي داخل النص ( صديق الشقيلي ) , لم يكن معاصراً أو مشاركاً في الأحداث , فهو ينقلها نقلاً , دون أن يرويها , فالنقل له عيوبه , والتي ظهرت في هذه الرواية , ولولا خبرة الكاتب الروائية لأصبحت خواطر مبعثرة , تقف محلك سر . وقد كانت العهدة علي كاتب اليوميات , وليس علي الراوي . لأن الحياة اليومية للأبطال قابلة للتكذيب والتصديق . 

 

 

 


   يقول الدكتور فيصل دراج , في كتابه ( الرواية وتأويل التاريخ ) , إن دور الرواية في التاريخ هو أن يصحح ما جاء به المؤرخ , ويذكر ما امتنع عن قوله . ويقول في صفحة 87 : ( ينتج تكامل المعنى في النص الروائي في قول يربط بين وقائع حقيقية وشخصيات متخيلة , يعارض نصاً تاريخياً ينسب قولاً حقيقياً إلي شخصيات متوهمة , أو يضع فضائل متوهمة في شخصيات حقيقية . ) . 
لقد حاولت رواية ( رحلة العسكري الأخيرة ) , أن توازن بين التاريخ والفن الروائي , وذلك بأن تنسب وقائع حقيقية إلي شخصيات حقيقية . رغم أن هذا قد أخل قليلاً بالبنية الروائية . والتي أصبح الراوي الحقيقي فيها هو كائن ورقي غائب . لم يتح للكاتب الذي أصبح مقيداً يما هو مكتوب في اليوميات فقط . فلم يستطع أن يحرر مخيلته , ويمزجها بالواقع التاريخي الذي حكي عنه ( سامي جوهر ) . وهذه المدونات هي التي قيدت جموح اللغة وجمالياتها , وشعريتها وانطلاقها . ورغم قوة السرد فيها ولكنها أصبحت مقيدة كلغة مدونات يومية , أو عرض حال يومي . وهذا ما جعل الرواية وأحداثها تدور في دائرة مغلقة . لأن صاحب اليوميات نفسه كان ينقل عن الآخرين , وكالة وليس أصالة . نقلاً وليس مشاركة . في الوقائع التاريخية التي حدثت . وكان بطلها ( عبد الفضيل جوهر ) , وهو اسمه الحقيقي . فقد أراد حفيده أن يتكئ علي هذه البطولات فغيبه من حيث لا يدري . وقد نصب نفسه كضحية من ضحايا العنصرية في الأمدرماني . والتي لم يكن جده ضحية لها , ولم يستطع أن يثبت ذلك لأن جده , كان بطلاً , والبطل أكبر من أي تمييز عنصري . وحتى الآن لا يعرف أغلبنا ولا يريد أن يعرف أي قبيلة كان ينتمي هذا البطل . فالفرق كبير أن يكون الإنسان بطلاً , أو أن يحاول أن يكون ضحية . يقول في بداية الرواية : (إنه تاريخي الشخصي , ولكنه تاريخ جدي أيضا , ( عبد الفضيل جوهر ) , بدأت متأخراً , أفكر جدياً في التقصي عن سيرة جدي الهمام , مات شهيداً علي مدفعه في ( المستشفى العسكري ) , قبالة شاطئ النيل الأزرق , ليس بعيداً عن من ( سراي ) الحاكم العام في قلب الخرطوم , في 28 نوفمبر 1924م توجوه بطلاً ولم , يتعرفوا عليه عن قرب . جعلوه أيقونة للنضال , ولكنهم تجاهلوا تفاصيل حياته . اعتمدوه سيداً للشهداء , وما تابعوا كيف تكونت نشأته , كيف جرى دم الأبطال في شرايينه , من قلب جده الأول الكولونيل ( محمد جوهر بك ) . الذي عاش في سنوات القرن التاسع عشر الوسيطة ) . وقد أراد أن يربط تاريخه الشخصي به كنوع من الفخر , دون أن يثبت حتى نهاية الرواية ما كان يلوم الآخرين علي تجاهله . 
كان العنوان , وهو يمثل عتبة النص الأولى , مكشوف المعنى دون أن يلغي تحفيز القراءة الجادة للنص . فهو رغم وضوحه , فهو محفز وجاذب ( تحفيز العنوان ) . والقارئ لروايات جمال محمد إبراهيم ( نقطة التلاشي) , ( دفتر من كمبالا ) , ورواية ( حان أوان الرحيل ) , قد يزيده العنوان قبل قراءة النص , تحفيزاً علي الدخول في النص , ليكتشف المزيد من متابعة مشروع الكاتب في التوثيق الروائي لتاريخنا الحديث . والعنوان يفتح أفق التوقع واسعاً لمن يتابع مثل هذه النصوص الروائية . وفي صفحة الإهداء جاء فيها : ( إلي روح والدي , محمد الشقليني , رحل والرواية من وحي لسانه , وإلي مدينة أبو سعد وأهلها ) . فوالد الكاتب , كان راوياً ضمنياً في النص . ومكان واقعي هو مدينة أبو سعد , وشخصية حقيقية في التاريخ السوداني الحديث . ولعل مقدرة الكاتب الروائية هي التي حولت ألحكي الشفهي , إلي سرد روائي مكتوب , وبمصداقية فنية واضحة . فهي بالمقاييس الروائية الحديثة رواية قصيرة ( نوفيلا ) , أو ميني رواية . وقد كتبت بلغة سردية مكثفة . لقد حاولت الرواية أن تستحضر التاريخ , دون أن تقع في مطباته العلمية , فهي قد جمعت بين التاريخي والذاتي . بين الجد المغيب , والحفيد المضطهد , والذي لم يشفع له أنه حفيد البطل الذي استشهد من أجل الوطن . لقد كانت يومياته باكية , عندما يتحول من التاريخي إلي الذاتي فيقول : ( ماذا أقول في هذه اليوميات ؟ أخجل أن احدث عن جراحي , عن دم بدأ نزفه منذ أول التاريخ . العسكرية التي تجري في شراييني , هي جينات تنزلت من جد إلي حفيد , حلقة تشتبك بحلقة , ودوائر تمسك بتلابيب أخرى , حراك لا متناه , يشكل تاريخاً , لم يبدأ هناك , ولن ينتهي هنا , رحلات بلا نهايات , ولا خواتيم ) , فهو يريد أن يكون بطلاً مثل أجداده , في زمن اللا بطولة . 
كان يمكن لصاحب اليوميات ( سامي جوهر ) , حفيد البطل ( عبد الفضيل جوهر ) , أن يكون بطلاً حقيقياً , وهو يفتش , وينقب , ويقرأ عن ما لم يقله التاريخ عنه , وأن ينصره إن كان يعتبر بأن التاريخ الوطني قد خذله وأهمله . فلم تكن المعلومات بالغزارة , ولم تكن التفاصيل بالكثرة التي كانت متوقعة , فجاءت المعلومات التي كانت عن جد البطل ( محمد جوهر بك ) , أكثر تفصيلاً وتوثيقاً من بطل الرواية الضمني , ( عبد الفضيل جوهر ألماظ ) . كانت فرصة للتوسع في الوصف لحياة البطل الشخصية لنعرف مفتاح شخصيته البطولية , وغزارة الوصف للشخصيات التاريخية أجاده الروائي المصري ( صنع الله إبراهيم ) , في روايتيه ( التلصص ) ورواية ( العمامة والقبعة ) . والذي ساعد غزارة الوصف فيهما , على أن تكون الرواية صورة توثيقية , يكون المتخيل داعما للواقع والحقائق التاريخية , يضيف إليهما , ويجعلهما أكثر قرباً لما يتوقعه المتلقي عن أبطاله المجهولين , ( والذين لا يشاهدهم إلا كنصب تذكارية جامدة وميتة غير متحركة ) . 
ما يحمد علي الرواية لغتها السردية المكثفة , والموظفة لخدمة الموقف والحدث الماضوي التاريخي . وقد نحت الروائي جمال محمد إبراهيم كثيرا من المفردات السردية كبصمة أسلوبية خاصة ومميزة .