العدميّـــة وغُبن المكــــــــان .

العدميّـــة وغُبن المكــــــــان . قراءة في رواية " بارادايس" للكاتبة صباح سنهوري منهل حكر الدّور الفضاء المكاني في الرواية، هو مساحة يهندسها الكاتب وهي المساحة الوحيدة التي يمتلكها ويتصرّف فيها في الصفحة الواحدة او على طول نطاق صفحات الحكاية التي تمتد على طول الاتساع السردي

العدميّـــة وغُبن المكــــــــان .

العدميّـــة وغُبن المكــــــــان .    
قراءة في رواية " بارادايس" للكاتبة صباح سنهوري
منهل حكر الدّور

 

 


الفضاء المكاني في الرواية، هو مساحة يهندسها الكاتب وهي المساحة الوحيدة التي يمتلكها ويتصرّف فيها في الصفحة الواحدة او على طول نطاق صفحات الحكاية التي تمتد على طول الاتساع السردي، هذه المساحة احياناً تكون منغلقة وضيقة أحياناً أخرى.  الفضاء  المكاني أحياناً يكف عن كونه إقليماً أو وطناً أو مدينة باسم وتوصيف معيّن، ربما يكون مكان عابر للجغرافيا يمكن تطبيقه على أي رقعة جغرافية وهذا بوضوح نجده في حال الحديث عن المكان الهندسي الافتراضي، الذي لا يحدّد بلد أو مدينة معينة لجري الأحداث ولكن يكتفي فيه المؤلف بالإشارة إلى أن روايته يمكن أن تحدث في أكثر من مكان، وتجد نفسك في هذا النوع من المكان كلما تمعن  في استكشاف المكان تزداد استغراباً، وحينها لا تحتاج إلى طول تأمل لتدرك أن المكان ماهو إلا مكان افتراضي رمزي يشير إلى أمكنة تكثر في الواقع ولا تقود إلى مكانٍ  معروف لديك. بالحديث عن الزمن الافتراضي  يجدر بنا أن نتدبر في معنى كلمة افتراضي في معناها المعجمي والتي تقودنا إلى ما يعتمد على الفرض أو النَّظرية بدلاً من التَّجربة أو الخبرة، وأنا هنا أذهب على نحو افتراضيّ؛ على نحو ظنيّ أو احتماليّ  بأن الزمن الافتراضي في هذه الرواية كان معالجة لطبيعة تيمتها الموغلة في العدمية القائمة على استغلال احوال الشباب استغلالاً عدمياً، ولعلّ الشعور بالافتراض على مستوى المكان لا يقود إلا إلى اليأس والإحباط. قصداً أُدراجُ تعريف قاموس أكسفورد لمصطلح العدمية بأنه: الإنكار المطلق لكل فكر إيجابي، لكن عندما تتراكم القوى بطريقة متعمدة أمامك وتحطّم كل النوافذ التي من خلالها يمكن أن ترنو لمستقبلك وقتها تشعر بخطيئة الحياة.  نتفق بان لا أحد يولد عدمياً ناكر للحياة ولكن يصبح كذلك بفعل اليأس والقتامة ، الربط بين الافتراض على مستوى المكان واليأس في الحياة هو ما احاول التركيز عليه في في رواية "بارادايس" للكاتبة الشابة صباح سنهوري.

 


صباح سنهوري، كاتبة شابة، فازت قصتها (العُزلة) بالجائزة الأولى في مسابقة جائزة الطيب صالح للقصة القصيرة بمركز عبد الكريم ميرغني الثقافي عام 2009م. العزلة ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسيّة وقدّم لها معالجة سينمائية المخرج الأُردني برهان سعادة. تهتم بالتدريب على الكتابة الإبداعية عبر مشروعها " يوم للكتابة غير الواقعيّة One Day Fiction.
صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان "مرايا" .
رواية بارادايس صدرت في العام 2018م, عن دار المصورات بالخرطوم.
قد تبدو هذه الرواية عصيّة على التحليل التنميطي الذي يتخذ المحاكمة من باب القوالب الجاهزة لاسباب نجدها بالاساس في بنيتها الحكائية وعناصر مكونات الخطاب فيها وتنقل السرد بين ضميرين على الحكاية الواحدة؛ ضمير الراوي المشارك في الأحداث (سلام)، وضمير من خارج الحكاية أحياناً، او عندما يتحوّل الراوي إلى مروي له داخل الحكاية عبر تقنية السرد التياري الذي يتيح للشخصيات أن تعبّر عن نفسها. ولكن في غمرة تلذُذك بعصيان الحكاية على التحليل، تروم أن تستذيد فيها كلما تقرأ شطراً منها، ويترايق لعابك لتتلمظ الشطر التالي، حتى تحس بسهولتها عندما تنسجم مع احداثها التي تلامس الواقع، عندما تكتشف إن صعوبتها وعصيانها ماهو إلا توليفة تؤكد التماثل بين مكوناتها والواقع متخطية بذلك نهج القائلون باستقلالية الرواية عن الواقع.
  يبرز صوت "سلام" كراوٍ مشارك في الأحداث لها قدرة فائقة على التعقيب على الأحداث وتزرع فيها تأملات فلسفية في غاية الذكاء، والجمل في السرد مشحونة بالإجابة على السؤال الذي يتجهّز به القارى في بداية اي عمل إبداعي وهو البحث عن موقف الكاتب من تعبيره عن الواقع.
الأحداث والأشخاص في رواية "بارادايس" واللغة وعنصر الزمان  كلها جاءت في خدمة تقنية المكان الافتراضي والنسيج العدمي الناكر للحياة على إمتداد أركان الحكاية. تُسرد الأحداث بلغةٍ وصور ذات مواصفات حددتها طرائق الحديث عند الكتاب والمثقفين وهي طرائق مليئة بالمفردات الغامضة والثورة على الواقع، بإعتبار إن الأحداث في الرواية مؤطرة بقرائن زمنية ضاربة في عمق الراهن البائس وابراز ضنك الحياة.
"الكتابة وما أدراك ما هي؛ هل هي أن نكتب ونعكس ضنك الحياة، أم هي نفسها الحياة في ضنكها، الكتابة التي اصابت سائر جسدي بالمشيب، أشعر بأنني سأتحول لسمكة وسط كل هذا الغرق. عندما سألني ذلك الرجل لماذا تكتبين؟ أوشكت على ضربة، ثم تذكرت أننا على الهواء مباشرةً..." الرواية: صفحة (11).
تبدو ذاتية الكاتب جليّة في هذا النّص وهي الجزئية الوحيدة التي تدخل هذا النّص في الجدل المّختَلف حوله، وهو البحث عن الكاتب داخل النص. كان الدارسون في السابق يتجنبون الكلام عن الراوي ظناً منهم ان المؤلف هو من يروي الحكاية لكن هذا منطقياً غير صحيح لأن لو أن كاتب كتب راوية تاريخية عن مملكة كوش أو سلطنة الفونج لوجب أن يكون المؤلف شاهداً على هاتيك الحوادث. وهذا بدوره يقودنا إلى رأي مخالف أخر عند "بوث" وهو بأن الراوي هو ذاتاً ثانية  للكاتب. الامر ليس ببعيد من ما اورده (م. خرابتشينكو) في كتابه " ذات الكاتب الإبداعية"، ( بان الفهم المثالي بأن الإبداع الفني يأتي عفوياً بعيداً عن علاقة الكاتب بالنصّ ماهو إلا تصريح عفوي)، لكن يبقى إنزعاج أي كاتب من محاولة القراء وبحثهم الدائم عن ذاته داخل النص، رغم ان كثير من الكتاب يسعون إلى طرد ذلك بالتصريحات عند مجالستهم للقراء إلا أن الأمر الجيّد في هذه الرواية يُعالج فنياً  بموت الراوية التي تشبهه الكاتبة في بعض النقاط.
" لا أظنني كنت لأقول شيئاً ذا قيمة، ربما كنت لأحكي عن كاتبة شابة بائسة تحاول جاهدة أن تعثر على قصة، هي لم تكتب منذ عام، زارت متاحف للفن ومعارض للفن المعاصر، حضرت العديد من أمسيات الرقص المعاصر، الكلاسيكي الشرقي، حدّقت في كل كلاب البلدة ولم تفلح في أن تكتب قصة. اشترت العديد من أسطوانات الموسيقى، كما اشترت سخاناً زجاجياً لغلي الماء، اختارت أن يكون زجاجياً حتى تتمكّن من رؤية الماء وهو يتقافز، علّ قصة ما تقفز عليها". الراوية: الصفحات (84 - 85).
في النّص الذي استدعيته أعلاه ليس لأثبت بأن الراوي في الحكاية كاتبة مهتمة بالأدب والفن فقط، ولكن - كأن يحكي الراوي إلى نفسه،   مع استخدام صيغة الفعل المضارع الذي يرمز الدال على الحاضر بمنطق الإتجاه الجديد في الكتابة، الذي أبطل بأن كل ما يرد في الراوية من أفعال إنها تدل على الماضي فقط – أيضاً له وظيفته الرمزيّة عن البعد النفسي الذي يعتري شاب طموح يهرول مع الحياة لصيد مستقبلة.
" لفد قرات قبل قليل قصّتي (متسع من الموت) للمرة التاسعة والتسعين اليوم، علّني اجد فيها ما رايته انت فيّ". الرواية: صفحة (110).
الراوية تستمد أهمّ مقومات السرد فيها من الإشتغال على الاحداث والاشخاص وعنصري الزمان والمكان دون أي حِيل اُخرى القصد منها وقف للحكاية أو إسترجاع خارجي بعيداً عن الحكاية، متن الحكاية يذهب بوتيرة واحدة حاملاً  عدميّة الحياة ومتحركاً في المكان المفترض.
الفعل المضارع في الراوية يدل بذكاء كبير على الحاضر المستمر وهذا ما يجعل هذه الراوية قابلة للقراءة في كل الازمنة، وتستطيع ان تجد لها مؤامة مع الماضي والحاضر وكذا المستقبل بالنظر إلى الزمن النحوي او مايعرف بالحاضر التخييلي Fictive Present .
" كيف يمكنني ان أكتب سيناريو انتحار؟ لم أكتب شيئاً كهذا من قبل، في قصتي (متسع من الموت) كان الانتحار لشخصيات أنا من خلفهم، هم شخصيات فقط، كيف يمكنني أن اكتب سيناريو لانتحار شخص حقيقي من لحم ودم؟، كنت داىماً ما أشعر بأن أبطال قصصي هم حفيفيون لدرجة كبيرة، لكني الىن بدأت افقد ثقتي في ذلك، القادمون هم الحقيقيون..." الراوية: صفحة (83).
نجد بعد الاشارات تستطيع من خلالها معرفة إن الراوية معاصرة، وإن كان المكان فيها مفترض والزمن غير محدد بسنةٍ وتاريخ، لكن الاحداث متشابهة والاماكن تماثل بعضها.
" شارع الشهيد (عمران عمران) يكسوه التراب، لدرجة تجعلك تظنّ أن الشهيد المعني مدفون تحت أرضه، تراب كثيف، ربما ليداري سوءة جثته، أو سوءات جثث رفاقه معه، من ماتوا دون ان ندري ودون أن يدروا هم. لم يكن هذا الشارع يحمل هذا الاسم قبلاً، كان يُسمّى هذا الشارع، شارع (كازينو البدوي) كمفارقة قدريّة متحذلقة. البدوي كان صاحب أكبر كازينو، وكان الشارع يؤدوي إلى المدخل الجنوبي للكازينو المعني؛ فاطلق الناس عليه ذلك الاسم، وسرى عليه للدرجة التي جعلت الحكومة تنصب لافتة صغيرة تحمل (شارع كازينو البدوي). اليوم هو شارع الشهيد (عمران عمران) لا يؤدي إلى كازينو أو غلى مقبرة. هَجرت كل المحلات الشارع دون اتفاق مسبق، حتى المجانين، المدمنين وجماعات التسوّل المنظّم،جميعهم لا يقربون هذا الشارع، مما زاده وحشة على وحشته.....". الراوية: صفحة (39).
اي زمن مرّ علينا فيه غيّرت اسماء الشوارع بأسماء الشهداء الذين ماتوا دون أن ندري أو يدروا هم ؟.
 هجرة المحلات التجارية العتيقة وكثرة المتسولون والمجانين الذين يحبون شوارع بعينها ويطاردون في شوارع اُخرى، لذلك يهجرونها ويكرهونها، كثير من الشوارع  تبقى المكان النهائي إلى كثير من الأحلام، وكذلك تتحوّل الراوية إلى واقع عندما يكون الشارع رمزية إلى آخر فترة في حياة الفرد، ربما يظن البعض إن في الشارع خلاص، وما أن يصلوا إليه إلا ويتكشّف لهم بأن في نهاية الشارع وكالة متخصصة في كتابة سيناريوهات الانتحار.
 تأويلاً؛  الكثير يمكن استنساخه من هذه الجزئية في الراوية، لتتناسل لنا عناصر للتاويل لا نهاية لها، كلها معروضة في الشارع الذي يكتب النهايات الأخيرة للشباب الذي يحلم دون أن يجد عتبة أولى يخطو عليها لتناول أحلامه.
المكــــــــــان في الروايـــــــــــــة:
المكان في هذه الراوية كما أشرنا سابقاً هو مكان هندسي افتراضي، ليشير إلى أن الراوية يمكن أن تحدث في أي بلاد في هذا الكون، مما يضفي ذلك الاتساع على أحداثها .
"من هو يا ترى الشهيد (عمران عمران) ؟، ما أكثر الشهداء في هذي البلاد". الراوية: صفحة (19)
فالمكان الهندسي، لاهو بالمكان الافتراضي فقط ولا هو بالمكان الأليف، فقط نجده مكان ممتد على طول الحكاية، وهو دلالة صريحة على الشمول والشيوع، ورمزاً للتوهان وتوهان الإرادة وبؤس الحياة وإسوداد المستقبل الذي نجده عند كل شخصيات الراوية التي تسعى للموت او تعمل في صناعة الموت. نجد فكرة التناول للمكان بهذه الفكرة عند (جبرا ابراهيم جبرا)، في روايته ( صراخٌ في ليلٍ طويل), يتخذ من المدينة رمزاً للبحث عن الماضي في حياة المدينة القائمة على الاختلاف والتفكك وإحياء الامجاد الكاذبة.

 التاويل من خلال السرد والتركيب العام لبناء الراوية ومقاربة ذلك مع الواقع.
لو بدأنا التأويل من غلاف الراوية؛ وهو لوحة للفنان أمادو الفادني، نجدها - لوحة الغلاف – عبارة عن لوحةٍ لشاباتٍ وشباب، يؤدون حركاتٍ مختلفة، يبدو عليها الاضطراب والبؤس والحزن، وبعضهم كأنه يؤدي الحركات التي تُطلب في طوابير التعذيب العسكري أو المعتقلات، هذا بدوره يتكفّل بوظيفة النّص الموازي التي ذكرها جيرار جينيت حينما تحدّث عن النّص الموازي والعتبات النصيّة، فالغلاف يعد الوثيقة التي تثبت اسم الكاتب والجنس الأدبي للعمل، ولوحة الغلاف لابد أن يكون لها ارتباط وثيق مع متن النّص الداخلي، كما نراه في لوحة غلاف هذه الراوية ومخاطبتها لقتامة الحياة وضنك الحال وظلام المستقبل، وتعذيب الظروف للناس التي تدفعهم للإنتحار.
التصدير الذي ورد في الراوية بعد صفحة التجنيس الداخلية - التصدير- أُخذ من التعليقات التي تُدرج في الويكبيديا ودائما ما تزيّل بها المقالات الخاصة بكتابة السير الشخصيّة التي لا تستوفي الشروط الموسوعية، وهي إشارة إلى شخصيات الراواية المُهملة التي لا يعرفها أحد، ويمكن ان تكون شخصيات مؤهلة لكن لم تجد فرصتها، او لم ينصفها المجتمع والدولة، لذهاب العمل والتوظيف بإتجاه المحسوبية والواسطة، وهذا يمكن ان يحصل في الويكبيديا ايضاً إذ إنها لا تقبل المقالات عن الشخصيات التي لا توجد مصادر أو مقالات مكتوبة عنها يمكن الاستعانة بها كمراجع تطلبها الويكبيديا.
من جانب التنظيم الداخلي للنّص لم تتبع الراوية نهج الابواب والفصول والعناوين الفرعية، لكن كان تنظيمها الداخلي بالارقام، وكانت معكوسة من الأكبر إلى الأصغر، أي بدأت الحكاية بالرقم (38) وانتهت بالرقم (1).، ولا تخفى الإشارة هنا على أحد، وهي تشير إلى عكس الأشياء، وانحسار الأمل وتضاؤل فرص الحياة وتأكلها حتى تصل إلى الرقم واحد الذي يعقبه الانتحار، وكان هذا مصير كل الشخصيات في الراوية.
لم تكن بداية الراوية بإعلانٍ عن وظيفة شحاً في الكتابة ولكنه دليل إلى عتبة صلدة يدلف من خلالها القارئ إلى حكايةٍ كل أحداثها وشخصياتها بائسة نسبة لعدم الوظيفة والعمل، تتحوّل حيواتهم إلى العدمية، والياس الذي يؤدى إلى احتقار الحياة في الارض، وتتولّد فيهم الشخصيّة العدميّة التي لا تتمنى الموت فقط بل زاهدة حتى في كيفيته، لذلك يلجأون إلى وكالة "بارادايس" المتخصصة في كتابة سيناريوهات الانتحار، ليحققو قول آرثر شوبنهاور: " خطيئة وجود الانسان لا يغفرها إلا الموت".
"سلام" هي الشخصية الأساسية في هذه الراوية والتي وقفت سرداً وراء أحداثها، رغم إنها كاتبة ومثقفة؛ تحضر إفتتاح معارض الفن التشكيلي وتشتري الكتب واللوحات، وتحضر أمسيات الرّقص المعاصر والكلاسيكي والشرقي، لم تجد وظيفة إلاّ كاتبة لسيناريوهات الانتحار، وفي الأخير لم تجد المعنى ولا الغرض من الحياة، سلمّت السرد إلى راوٍ من خارج الحكاية وأفرغت رصاصةٍ في دماغها وماتت، وكأنما مات السلام.
" وضعت "سلام" فوهة المسدّس على صدغها الأيمن، وأطلقت النار عليه، وقعت جثتها على الأرض، تماماً تحت الافتة الخشبيّة التي نُحتت عليها "بارادايس" بكل وضوح". الراوية: صفحة (168).