صلاح بن البادية والحضر د.أسامة خليل
صلاح بن البادية والحضر
د.أسامة خليل
عندما تسترق السمع إلى الشوق والوطن في رائعة الأستاذ هاشم صديق:"ألفين سلام يايمة ياشتلة المحنة.. الشب في وسط الجروف.. ألفين سلام يايابا.. يا الدرع المتين.. الليهو كم سجدت سيوف..ألفين سلام يا جدة يا أم صوتا حنين..حجواتا بالوادي بتطوف.. ألفين سلام ياالسمحة يا شمس الفريق.. الليها كم غنت حروف..في الغربة يا أهلي الحنان..كم عشنا في قسوة ظروف.. وأشواقنا لي أرض الوطن.. وخضرة الوادي العطوف"، تقف أمام نص حاضر يعبر عن الواقع بتمثلاته العديدة، وقد صادف مخيلة ملحن وفنان سكب عصارة إبداعه الخلاق لتخرج إلى الناس بتلك الروعة والجمال. وعلى الرغم مما قدمه من غناء طروب إلا أن "طبع الزمن" تبقى أسيرة لوجدان صلاح من حيث الأثر حينما يتغنى بها: "في عيونا بنشيل الصبر.. بنشيلو ريد.. وبنشيلو عز.. إنت بتجينا بلا ميعاد.. تحرق فؤاد عاشقا بعز.. قدام أشوف.. كم زول بكا.. وقدام أشوف كم زول تعب".
هذا الإبداع المتناهي ظل فعلا ملازما للمطرب الذي جمع بين موهبة الغناء وطلاوة المديح بما يشبه البيئة والمتلقي بصورة تحترم تقاليد المجتمع المعبر عنه، بل تمجده وهو يحتفي بمراسم الأفراح السودانية وطقوسها التي اختفت في ظل المتغيرات، الليلة سار، وأنا غنيت للستات، وحسنك أمر، وعدي بي يا شوق عدي، وسال من شعرها الذهب. وبإحساسه الشفيف للكلمات يجمل لوحة الغناء السوداني برائعته "حرف نون" عندما تنسج الأقدار خيوطها وتلتف حول تلك القلوب المفعمة بالمشاعر المتقدة في مدارات العشق السرمدي:"أنا عمري ما غنيت قصيد.. ولا عرفت نغم جميل.. أصلو ما هزت مشاعري..صور جمال وعيون كحيل.. الليلة بس أيه الحصل.. يا قلبي حار بي الدليل.. بقيت أديب أنظم شعر.. وأغني ألحان الخليل".
ويذكر في عرس بمدينة الأبيض أن غنى صلاح للشاعر محمد يوسف موسى "كلمة" فما هي إلا لحظات حتى يعتلي المسرح أحد المعجبين مستفسرا عن الكلمة التي فرقتهم، وظل على إلحاحه بعد نهاية الحفل ليخبر ابن البادية "الكلمة" التي لامست مشاعره وكأنما تحكي عن لحظة افتراق عن ابنة عمه وهنا تدخلت جودية صلاح حين يمارس دوره الصوفي لينتهي الأمر بالتئام شمل الأسرة من جديد.
لم تقف ملكاته الإبداعية في محطة الغناء العاطفي فحسب، بل سجل حضوره في الأغنية الوطنية في لقائه بالشاعر الكبير مبارك المغربي في حب الأديم:ما عشقتك لجمالك أنت آية من الجمال.. ولا روحك لي خصالك.. أنت أسمى الناس خصال". وله في حب الوطن أيضا "الشوق والمنى".
ظل صلاح بن البادية يقدم صورة أخرى وملمح مختلف لما ارتسم في مخيلة البعض فيما يرونه في الوسط الفني خروجا عن المألوف وساحة للانفلات دفع إلى توصيف مجانب لبعض الوقائع لمن يلجون مجال الإبداع الفني من قبل منتقدي هذا الميدان أفضى إلى تنميط متخيل في ذهن المتلقي للمفاهيم المغلوطة حول طبيعة الفن ودوره في الحياة المعاصرة كرسالة إنسانية خاضعة للمعايير الأخلاقية والمجتمعية في التعبير عن حاجياته الحياتية والثقافية من خلال المضامين الغنائية كأوعية إبداعية تحمل هموم المجتمع، أحمل تلك الأفكار وغيرها وفي الذهن حضور خزينة أسراره الرجل الخلوق حسن أحمد نوح إلى منزلي استمع إليه مبهورا حينما يقدم إفاداته بشفافيته المعهودة في التحاور والاستطراد، متحدثا عن رفقة عمر مع الأستاذ الفنان صلاح بن البادية بمحبته الودودة لهذا الهرم الغنائي، الذي يرى فيه تجسيدا لرسالة الفن كقيمة إنسانية جديرة بالاحترام والتقدير وقادرة على تشكيل وجدان جمعي حول قضايا مجتمعية وإنسانية، وخليفة في مسيد والده يحل المشبوك عن وقائع مشاهدة قابلة للحكي بافتخار في تعبير حسن أزرق كما يحلو لإبن البادية مناداته وقد أطلق عليه هذا اللقب ليفرق بين الحسنين والآخر إبنه، كان صوفيا زاهدا يتبسط في تعامله وتواصله مع الجميع، صائما نهاره يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وذاكرا يقيم الليل باعتبارها سنة متبعة في المجتمع الصوفي، يضع المناسبات الدينية في مقدمة التزاماته حضورا بأبوقرون حيث الخلوة واللمة الحلوة المعطرة بليالي الذكر والمديح في الأعياد والمولد النبوي الشريف. وقد جمع ابن البادية بين نظم الشعر والتلحين والغناء إلى جانب موهبة نظم المدائح النبوية، وله في هذا دواويين وأشعار يعلمها القاصي والداني من أهل الطريق أشهرها: طيب وطيب، ياساتر قول يا لطيف. حيث يسير فن المديح جنبا إلى جنب الفن الغنائي أينما سار، ويعقد لها مجلس وحضرة ليلة الأحد بمنزله في شمبات وهذا مسيد آخر في وجوده، وبيت ضيافة في وجود ست البيت حاجة زهراء التي افتقدتها الأسرة، وتحاول إبنتها حاجة شادية صلاح أن تقابل بعض من هذا الفراق العريض بكرمها ومحبتها وتفانيها في خدمة الآخرين كشأن والدها. وقد حتمت شهرة صلاح بن البادية ومكانته في مجال الإبداع الغنائي التواصل مع أنماط وشخصيات مختلفة في أمزجتها وفقا لاعتبارات البيئة الحضرية بتعقيداتها المقيدة، تطلب ذلك مراعاة البروتكولات الرسمية الثقيلة إلى نفسه، عندما يبتعد عن تلقائية البادية ومجتمع المسيد الذي يقوم على الفطرة المحببة إلى النفس. دقيق في مواعيده بحيث يجعل منه معيارا للتعامل والاهتمام بالآخر. مواصلا للأرحام ومنابع الحياة الأولى في مدينة أم دوم الوادعة على ضفاف النيل الأزرق في شرق النيل متصلا بتلك المنازل التي لها في القلوب منازل حيث العشيرة ورفقاء الطفولة وشرخ الشباب الأول. والمنزل الذي شهد ميلاده الباكر حيث سكنى والدته طيبة عمر أحمد محمد قديم وخالاته ستنا وست النساء وفاطمة وخادم الله. ولديه محطات أسيرة إلى نفسه حيث يقصد حسن نوح في منزله بزيارة ومقيل وقيلولة، ثم يعرج إلى منزل الشيخ محمد أحمد صالح وفاء لأصدقاء الوالد وبرهم حين جمع الطريق بينهما لأكثر من خمسين عاما. وتشهد أم دوم على بكرة أبيها بمشاركته لأحزانها ومناسباتها المختلفة على الرغم من مشاغله الكثيرة في الطريق والمجتمع والوسط الفني.
كما يلتزم صلاح بن البادية نهجا صارما في عاداته الغذائية بحيث لا يتناول من الطعام إلا أقله، وهو أكثر ميلا إلى الوجبات الشعبية وما لم تدخله يد الصنعة بفساد المكونات غير الطبيعية في غالب طعامه وشربه. متجنبا ما يخدش سمعته الاجتماعية من زواية الاعتداد بقيم المجتمع السوداني في حله وترحاله حين يتقيد بالنظم، واللوائح العامة، وقوانين الدولة حتى لو خالفت مطلوباته أحيانا، مراعيا الذوق العام في حركاته وسكناته.
في كل هذا القول أعتقد أن حسن أحمد نوح بمثابة القاسم المشترك الذي يقف إلى جانب صلاح الذي يعتقد فيه أبوة الروح في السياق الصوفي وأبوة القدوة في الإطار الأسري حيث يتصل برب الأسرة عبر زوجته حاجة زهراء حاج خوجلي إبنة خال والده أحمد نوح، هذا ما يترك مجالا يتسع بقدر الحاجة لتواجده في محيط الأسرة دون حرج التواصل، وقد ظل حسن وفيا لتلك العلائق يدرك تماما دقائق الفنان الإنسان والصوفي الزاهد صلاح بن البادية ومطلوباتها في غدوه ورواحه، حين أوقف حياته لخدمته ومحبته في صداقة دائمة ما زالت جذورها تتصل بخلف الأسرة في الكبيرة والصغيرة.