الروائي عماد البليك فى حوار الكتابة والتجربة

الروائي عماد البليك فى حوار الكتابة والتجربة -لايمكن فصل فكرة المسكوت عنه من أسئلة الهوية والعرق والمماحكات الإنسانية . - المهاجر توفر أرضية لوعي الذات بشكل مختلف وجديد - في العالم العربي قضية الكاتب صيرورة ضائعة - النقد عمل منهجي وفلسفي وفكري عميق، يعمل على ابتكار كليات مشهد الحياة والوجود الإنساني حوار : محمد نجيب محمد على

الروائي عماد البليك  فى حوار الكتابة والتجربة

الروائي عماد البليك  فى حوار الكتابة والتجربة


-لايمكن فصل فكرة المسكوت عنه من أسئلة الهوية والعرق والمماحكات الإنسانية .
- المهاجر توفر أرضية لوعي الذات بشكل مختلف وجديد
- في العالم العربي قضية الكاتب صيرورة ضائعة
- النقد عمل منهجي وفلسفي وفكري عميق، يعمل على ابتكار كليات مشهد الحياة والوجود الإنساني

حوار : محمد نجيب محمد على

 

 

 

 

 

يعد الروائي السوداني الشاب عماد البليك أحد الأقلام المميزة في كتابة الرواية المعاصرة ، ورواياته تثير الكثير في أوساط النقاد والمهتمين بالشأن الإبداعي . صدرت له ( الأنهار العكرة ) و( دنيا عدي ) و( دماء في الخرطوم ) و( القط المقدس) و(شاورما) التي وجدت رواجا كبيرا في العالم العربي ورشحت من قبل لجائزة البوكر وله روايات أخرى  بجانب كتاب في النقد الأدبي  بعنوان ( الرواية العربية – رحلة البحث عن المعني ) وأيضا  إسهامات عديدة في الكتابة في شئون مختلفة .. إلتقيت  به حول محاور شتي

 

 

 


(*) نبدأ بملامح من سيرة الكتابة؟

هذا السؤال يجعل سيرتي هي سيرة الكتابة.. بمعنى آخر أن قرار الكتابة هو قرار حياة.. قد يكون ذلك صحيحا لحد بعيد، فأنا كتبت منذ الصبا وألحّ عليّ هاجس أن أكون كاتبا، وأحببت العمل في الصحافة رغم أنني درست هندسة العمارة، كانا متجاورين العمل في الجريدة والالتزام بمدرجات الجامعة. وفي النهاية أخذتني هذه السيرة، من الشعر في البدايات إلى السرد المفتوح فالنقد الأدبي ثم الرواية والاهتمام الفكري والفلسفي بشكل عام.

(*) لماذا الرواية .. يقول عيسي الحلو بموت القصة القصيرة .. هل إنتهي زمنها ؟

يصعب القول بذلك.. الأستاذ عيسي له خبرته ومبرراته التي ساقها، وهي صحيحة في الإطار الذي قيلت فيه وفي ظل التجربة المحددة. بالنسبة لي لا أميل لكتابة القصة القصيرة كثيرا لكن لا اعتقد بموتها مطلقا.. هي تدخل في أشكال أخرى عبر تطويرها وقدرتها على استيفاء ملامح زمن جديد.. وفي الوقت الذي يكون فيه ثمة امتداد باتجاه النص الروائي المتسع، حديقة السرد.. هناك اهتمام بزهرته.. وهي القصة.

 

 

 

 

(*) أغلب المبدعين السودانيين الشباب والشيوخ ايضا تحتفي بهم المهاجر، بدءا بفيصل مصطفى وصديق محيسي وفضيلي جماع وجلاب وبشرى الفاضل وأسامه الخواض ومحمد الربيع وبركة ساكن و و و ؟

تحديد فكرة الاحتفاء صعبة، من يحتفي بمن؟ ولكن يمكن القول إن المهجر يوفر أرضية لوعي الذات بشكل مختلف، بالتالي يسمح لها بأن تتشكل على نحو جديد.. ربما أمام الآخر.. قارئ النص.. لكن بعض المهاجر كانت خصما من اسماء كثيرة، وغيبتهم تماما.. يخال لي أن البذرة لابد لها عند الكائن وإلا لما نهضت الشجرة.. لابد للكاتب من مقومات معينة ذاتية صرفة، يكون لها أن تتعايش في ظروف معينة أو تتكيف فنرى ذلك الاحتفاء، وبشكل أوسع فكيمياء الاحتفاء عملية معقدة تحتاج تفسير يتطلب بحثا وإحالات مرجعية وتأويل.

(*) علاقة الكتابة بالمكان .. ماذا تقول عنها ؟

مدرك أن المكان لا يصنع كاتبا. بل يوفر خامة للكتابة، هذا بفهم المكان بوصفه الوطن أو مسقط الرأس. وعلى النحو الثاني إذا كان المقصود به الموقع الذي يُكتب فيه النص، فهو يؤدي دورا نفسيا هنا أكثر من أي بعد ثانِ، وهي مسألة تتباين من كاتب لآخر. وعموما الكتابة مسألة إنسانية لا تقرأ بمسار واحد أو قراءة نهائية، العلاقة بالمكان في ظل ذلك وبأي شكل كان تعريف المكان، هي محاولة لفهم الإنسان نفسه، فهم الكتابة.. محاولة لتحديد هوية النص التي غالبا ما نفشل فيها، لأنه مرات كثيرة يصبح المكان هو الذاكرة.

(*) الكتابة من خارج الوطن .. هل تختلف عن الكتابة من الداخل ؟

قد يتعلق ذلك بسؤال المكان سابقا.. لكن سأتحدث عن تجربتي.. نعم تختلف كثيرا جدا.. في الوطن تكثر المشغوليات اليومية واللهث ويأخذك المعاش والسؤال المجتمعي، تصبح ظلا أكثر منك كونك صانعا للظل. حقيقتك تتوه في المجموع. فتتباعد أحيانا القدرة على الإمساك بالنص. في الخارج يحدث العكس يكون للذات ان تنفلت وتحلق وحيدة وترى الأشياء والكائنات من عوالم مجهولة ويكون للنص أن ينفتح باتجاه المطلق بعد أن يغادر الأنا، ليرسم موقعه في العالم ويصبح موجودا. يعني ذلك أن الاختلاف موجود، في الانتباه والحضور والقدرة على النظر من خارج الصندوق كما يقولون.

(*) شاورما مرشحة الآن للبوكر .. ما قولك عن المسابقات في كتابة الرواية بالأخص ؟

المسابقات مطلقا لا قواعد لها. تحكمها ظروف كثيرة منها طبيعة وقيم وأخلاق المؤسسات واللجان، وما دام المسألة بشرية بحتة فلا حيز للإقناع بالنتائج نهائيا. لابد من جدل سيدور، ولا أحد يمكن أن يحكم على نفسه بأن رديء الصنعة مثلا لو أنه كان خارج اللعبة والعكس صحيح. تتدخل الظنون والجغرافية والسياسة وظروف كثيرة في تشكيل النتيجة النهائية في أي مسابقة.. الرواية لديها إشكال آخر يتعلق بهوية النص، لأن تعريف الرواية اليوم بات ملتبسا وغير واضح في ظل كمّ هائل من الإبداعات وتعدد الأذواق.

(*) اغلب كتاب وكاتبات الرواية الشباب في السودان يميلون كثيرا للدخول الي عالم المسكوت عنه .. كيف ترى ذلك ؟

ربما كان ذلك صحيحا. لكن إلى الآن ثمة نظر إلى فكر المسكوت عنه بطريقة تقليدية نوعا ما.. ما زلنا نراه في المحرمات الثلاثة المعروفة..الدين والسياسة والجنس.. اليوم ثمة إكراهات أقوى وأعقد من ذلك، لا اعتقد أنه يمكن فصل فكرة المسكوت عنه عن أسئلة الهوية والعرق والمماحكات الإنسانية المختلفة لفكرة وجود الكائن في حد ذاته لاسيما في بلد كالسودان متشابك من حيث وجوده وتاريخه وربما مستقبله الغامض. دعني أوضح الأمر أكثر.. مطلوب مزيد من البحث والحفر في ما وراء المسكوت عنه، وليس تمظهراته وهذا لم يحدث بالدرجة المرئية، بحدوثه فإن النص سوف يتغير كثيرا وسنكون قطعا أم مشهد سردي مختلف تماما بعيدا عن التمثيل المباشر للواقع أمامنا كما يحدث الآن.

 

 

 

 

(*)التاريخ  المعاصر يمثل مرتكزا لأغلب كتاباتك ؟

وجود الإنسان في حيز اللحظة التاريخية يحكم عليه بأن يكون مشاركا فيها، كأن يتنفس ويمارس حياته العادية.. الكتابة تأخذ من تفاصيل موقعك في العالم ومن تجربتك ووعيك ومدى إحساسك بالأشياء والعوالم. بالنسبة لي المعاصر يعني الحضور ويعني التاريخ أيضا، لأن أي قيمة راهنة هي جزء من الماضي تغلفه بداخلها، فنحن لسنا ابتكار اليوم جسدا ولا دماغا وفكرا.. نحن كائنات تراثية وتاريخية بقدر ما نحن معاصرون.. أما بالمعنى المباشر فإنني أهتم بفهم سياقات ما يجري في عالمنا اليوم من خلال تجليات الحضور المعاش، كما في روايتي "شاورما" مثلا.. أو "رسام الآلهة" عن سيرة القذافي.. أو "القط المقدس" التي تهتم بتاريخ معاصر متخيل في فرنسا وليس السودان أو بلد عربي.

(*) اختلف النقاد حول رواية حمور زيادة "شوق الدرويش".. كيف قرأتها؟

أعجتني فكرة أن تكتب عن مرحلة معينة من تاريخ السودان حافلة بالغموض وإن كان ذلك الغموض موجود في كل لحظة تاريخية كما فسرت أعلاه. المهدية لها سحر ووقع لأنها مؤثرة إلى اليوم في الحياة السودانية.. لهذا فإن الاهتمام برواية حمور كان قد انساق أكثر لتقاطعات الأفكار أكثر من هوية السرد نفسه الذي كان شاغلي في النظر للنص، رغم أنه مرات كثيرة تساهم الموضوعات في تقديم النص بدرجة أكبر لاسيما في بلداننا. لكن قيمة نص حمور في الحبكة الأساسية، ثيمة الحب والخسارة والاشتياق فهي التي أعطت للرواية جسارة وحضور. أما ما يقال من محاولات تفسير للنص بالمقارنات أو الاستشهادات التاريخية، فهذا لا معنى له. لأن الرواية غير التاريخ وقد جاهد حمور نفسه كثيرا ليشرح ذلك.

(*) في الواقع العربي الجديد وتحولاته كيف تنظر إلي قضية الكاتب ؟

يكاد يكون منفيا في ذاته وفي مشروعه إن وجد، ما بين سؤال المعاش اليومي بحضوره الكبير، وقلق أن تكتب نصك. الكتابة تتطلب الكثير من الوقت والتفكير والتعمق في رؤية العالم وهذا يتطلب أكثر من التجارب المباشرة، القراءة والدأب وانتظار لهفة الميلاد وقبلها شحذ الخيال. في ظل ذلك يمكن أن نفهم قضية الكاتب على أنها صيرورة ضائعة إذا ما تم تعمية كل ذلك بالغطاء الكلي.. السياسة التي تصنع كل شيء اليوم.. بما فيه قرار أنك موجود أم لا، سواء كنت كاتبا أم إنسانا يفكر في حيز تربية الأبناء.

(*) الشعراء يقولون أن هذا ليس زمان الرواية ؟

فكرة زمان الرواية.. نفيا إم إثباتا.. مسألة نسبية وليس هناك من كائن يمتلك الكلمة النهائية في ذلك. من حق كل أن يقول ما شاء إذا عرف كيف يسوّغ المبررات المدهشة لذلك. ليس مطلوبا المنطق. لأن عملية الإبداع والفن لا تخضع لقانون أرسطو. هذا زمن الرواية وممكن أن يكون زمان الشعر إذا تمت عملية تشكيل الشعر برؤية جديدة تعرف كيف تستوعب الحياة الراهنة بكل ما فيها من عبث وتوحش.

(*) إلي أين وصلت الرواية الحديثة ؟

هي لم تصل بعد.. ففي كل يوم نقرأ عن رواية جديدة، مغامرة مختلفة ما بين الأدب الآسيوي الذي يغامر في صوفية واقعية كما اسميها، أو الأدب الفرنسي الذي يحاول أن يكتشف ما وراء تمظهرات الأشياء في العالم. أو الرواية العربية التي تجرب في حيز منطقة الواقع المرئي ولم تتخارج منه إلى اللحظة بوضوح. ملخص ذلك أن الرواية الحديثة هي سؤال مستمر عن شكل جديد للكتابة من خلال ابتكار إدراك مختلف للواقع ومحاولة تحريره من الخيال الكلاسيكي والرؤية الخطية للعالم.

(*) ماذا عن النقد ؟

النقد يتطلب مغامرة وانتباه كبير.. ربما هو أصعب من عملية الولادة الأولى للنص.. حتى لو أن هناك من يرى دوره هامشيا. أنا أفهم النقد بوصفه عمل منهجي وفلسفي وفكري عميق، يعمل على ابتكار ليس النصوص فقط، بل كليات مشهد الحياة والوجود الإنساني. فالناقد الحقيقي هو فيلسوف قبل كل شيء.. الأدب وممارسة النقد فيه ليس إلا جزءا من حيز لوحة معقدة الفسيفساء. لهذا فإن النقد عندنا يتضاءل، ما لم تتم إعادة اكتشافه.

(*) كيف يكتب عماد البليك ....؟ ثم لماذا تكتب ؟

أكتب بداية بسؤال وقلق حول مسألة ما.. إحساس برغبة معينة في محاولة لفهم الحياة والعالم من حولي.. يكبر هذا الهاجس شيئا فشيئا فيتحول إلى نص.. ومرات ينقطع في منتصف الرحلة. ليس ثمة نص محتمل وجائز إلى أبديته. طقوس الكتابة عندي بسيطة لكنها مشروطة.. احتاج خلوة لذاتي وجهاز حاسوب محمول وكوب قهوة ومن ثم لا شيء سوى الغوص في الفكرة.. الإنسانونية التي يحققها لك السرد أو التفكير في كتابة نص. هذا يعني أن كيف؟ ولماذا؟ تتداخلان عندي بدرجة ما.. فهوية الكتابة بتقديري مرتبطة بسؤالها. والكتابة أيضا بالنسبة لي هي نزهة قد تكون سيئة أحيانا، حين تتحول دون سابق إنذار إلى حرب تتورط فيها ويكون عليك ان تخرج بسلام.

(*) ماذا عن المشهد الإبداعي في عالمنا العربي .. قياسا بالعالم ؟

العالم العربي فيه طاقات مختزنة من الإبداع لكن تنقصه مقومات مرتبطة بالنسيج العام للبناء الهيكلي السياسي والاقتصادي والمجتمعي.. لا يمكن فصل الإبداع عن مجمل الصورة.. إلى اليوم نبدو متأخرين عن العالم ربما لأننا لم نعمل على إدراك خواصنا بالشكل الذي يجعلنا نقدم إبداعا قادرا على التماس مع جوهر وجودنا، ليس اختلاقا ولا محاولة تقليد ولا إرضاءات لما نقرأه من نصوص معربة. وفي اللحظة التي نصنع فيها جهاز حاسوب متكامل وغسالة ملابس ذكية، سوف نكون قادرين على إبداع نصوص محكمة. أن ننتتج كل ذلك ولكن بطريقتنا، بهويتنا. رغم أنني أشك في فكرة الهوية في ظل عالم بات مفهوم الإنسان فيه هو الأعمق لتفسير المشهد.