وترجل الفارس عن صهوة قلمه
وترجل الفارس عن صهوة قلمه صديق مجتبى ١ إبراهيم اسحاق معلماً مطبوعاً ********
وترجل الفارس عن صهوة قلمه
صديق مجتبى
١
إبراهيم اسحاق معلماً مطبوعاً
********
في العام ١٩٧٣ ونحن في السنة الأولى بمدرسة محمد حسين الحكومية الثانوية العليا دخل علينا شاب قصير نحيف أسود اللمة كث اللحية ذو عينين لامعتين ونظرات ثاقبة سريعة أظنها التقطت صوراً سريعة لكل وجوه طلابه ربما كان يحاول التعرف على وراء هذه الوجوه من شخصيات ، كانت ترتسم على فمه ابتسامة ما على غرار ما جاء في رواية الكاتبةوالروائة الفرنسية فرانسوا ساغان الرومانسية ( ابتسامة ما ) certain Smile ربما كانت تستبطن الحب لتلاميذه وربما كانت تحيته الإنسانية المفعمة بالحب لمهنته كمعلم كانت ابتسامة تبعث رسائل عديدة لمن يقع في رُوعه فحواها . لم يكن وجهه صارم التقاطيع فهو وجه تألفه لأول وهلة من لقائك به ، كان انيقاً في مظهره مهذبا يتحدث ترسلاً ليس بالمتعجل ولا بالمبطئ في الحديث .
قال بتواضع جم وبلغة انجليزية متقنة : (أنا ابراهيم اسحٰق أستاذ الأدب الإنجليزي مرحباً بكم وأهنئكم بدخول المرحلة الثانوية بنجاح باهر ، بالنظر إلى وجوههكم يبدو أنكم طلاب نجباء ، التعليم والتعلم عملية تفاعلية مشتركة بين المعلم وتلاميذه فلذلك سنتدارس معاً رواية The Mistery Of Edwin Drood للكاتب الانجليزي الكبير شارليز ديكينز ) كانت تلك اول كلمات قالها لنا طرقت مسامعنا وأسست لعلاقة إنسانية بيننا وبين معلمنا الذي نراه لأول مرةٍ ، سجلت ذلك في كراستي وصرت أنصت إليه بشغف ولهفة .
كان استاذنا لا يقرأ من الكتاب بطريقة إملائية مملة ، ولكن كان يسرد الوقائع بطريقة تجعلنا نتشوق لقراءة الرواية ، كأنه كان يعلمنا فن الرواية أو ربما حاول أن ينمّي في نفوسنا فن قراءة وتذوق الأدب الروائي . كان يطلب منا أن نقف على منصة قاعة الدرس " الفصل" ، لنحكي الفصل المعين من الرواية بطريقتنا ولغتنا الانجليزية الخاصة يعني In our own Words كأنه كان يعلمنا طريقة السرد القصصي وأن نحكي ما فهمناه من تلك الرواية ، هكذا تعرفت عليه وأنا تلميذ يافع ولم أكن أعرف عنه شيئاً . تزامن وجوده في المدرسة مع كوكبة من الأدباء الكبار منهم الشاعر الكبير النور عثمان أبكر أستاذ اللغة الإنجليزية وأستاذنا الشاعر الكبير عوض حسن أحمد أستاذ النحو النجليزي وأساليب التعبير والكتابة , والشاعر وأستاذنا محي الدين فارس وغيرهم نجوم الأدب في بلادنا
تعرفت عليه كاتباً روائيا عندما قرأت مقالة كتبت عنه في إحدى الصحف لأحد النقاد محتفياً بصدور إحدى رواياته وعندها عرفت أننا أمام رجل عظيم من رواد الرواية في بلادنا وأن ما كان يطبقه في منهج التدريس ينم عن عبقرية أدبية ومهنية عالية في تدريس فن هو من صناعه .
قصدت من هذه المقدمة أن أرسم صورة قلمية تبرز الجانب الإنساني من شخصيته لأن موهبة الإنسان في أي مجال تعطينا مفتاحاً لفهم شخصيته وهذا ما نفتقده في كتابة تراجم الأدباء والفنانين والمفكرين والعلماء
٢
كان أستاذنا إبراهيم اسحٰق مثقفاً موسوعياً يتمتع بذاكرة حديدية كان واسع الاطلاع في الأدب العالمي المعاصر والكلاسيكي وكانت رواياته تتناول قضايا إنسانية عالمية ومحلية وكان توظيفه للتراث الثقافي والاجتماعي توظيفاً عبقريا ينفذ به إلى جوهر انساني كوني وهذا هو سر الخروج من المحلية إلى العالمية. إن لأي عمل فني أو أدبي مكونات محلية أو ملهمات من التراث ولكنّ قليلاً من المبدعين من يستطيع أن ينفذ بتراثه الإنساني المحلي إلى الجوهر الإنساني الكوني الفذ . وتستطيع أن تلمس ذلك في عدد من أعماله الروائية والقصصية ، إلا أن أعماله لم تحظ بالنشر العالمي ولا الترجمة إلى اللغات العالمية الحية رغم أنه كان بإمكانه أن يفعل ذلك .
ومن أهم رواياته التي وجدت صدى واسعاً لدى النقاد والباحثين
"أعمال الليل والبلدة" ورواية "مهرجان المدرسة القديمة" التي تمثل نقلة نوعية في اتجاه الحداثة والتجديد من حيث التقنيات الكتابية والأسلوب
وقد تميز أيضاً استاذنا في كتابة القصة القصيرة فصدر له عدد من المجموعات القصصية مثل "ناس من كافا " و"عرضحالات الكباشية" والتي نشرت متفرقة في عدد من الصحف والمجلات الثقافية في الداخل والخارج .
نلاحظ في قصص وروايات الأستاذ ابراهيم اسحٰق اهتمامه العميق بالتراث الثقافي السوداني عامة وتراث إقليم دارفور الثقافي على وجه الخصوص حيث تكتشف قدرته على توظيف هذا التراث في فضاء السرد القصصي توظيفاً إبداعياً بما يخدم نهجه الإصلاحي في العمل الأدبي ، ويعتبر الاستاذ ابراهيم اسحاق جاحظ زمانه في اهتمامه ببعض الظواهر الإنسانية ورصدها وتوثيقها في رواياته وقصصه القصيرة بما يجعلك تعتقد أن شخصيات رواياته الذين يعيشون داخل الزمن السردي هم أشخاص حقيقيون وأنت حاضر في المكان والزمان الذي تتواتر فيه أحداث الرواية أو القصة ، فالقصة كأنها حلم انت جزء من عالمه وأحد شخوصه شاهداً ومشاركاً فيه لا إرادياً ولكنك أحد أهم شخوصه وستفقد هذه الخاصية عندما تغادر زمن السرد أو تستيقظ من وتفادر لحظة الحلم ، فالروائي العبقري وهو الذي يجعلك جزءاً من عالم روايته هذا تلمسه وأنت تستغرق في قراءة روايات وقصص أستاذنا إبراهيم إسحٰق
٣
يبدو إلمام أستاذنا بالتراث جلياً في بحثه القيم عن الأدب الشعبي الذي شارك به في أعمال مهرجان الثقافة الثاني عام ١٩٧٧
فالأستاذ ابراهيم اسحٰق باحث في الأدب العالمي والتراث الإنساني كذلك وقد قدم بحثاً قيماً عن الحكاية الشعبية في أفريقيا .
٤
انصبت معظم الدراسات عن هذا الأديب المفكر الثقافي السوداني القامة في أعماله الروائية والقصصية بينما لم تجد أعماله النقدية وبحوثه العلمية الإهتمام اللائق بها خاصة في كتاباته النقدية التي تشكل مفتاحاً لدراسة فلسفته ورؤيته الخاصة في كتابة القصة وحياكة الرواية فلذلك اقترح إقامة مؤتمر خاص لتناول أعماله من نواحي متنوعة وأن تحظى رواياته بقراءة جديدة وأن يتم تدارس آرائه النقدية وحصر كل أعماله وتصنيفها . ولعله من الوفاء له أن تتبنى إحدى الشركات الكبرى جائزة سنوية باسمه تخليداً لذكراه وتشجيعاً للنشء والشباب والكتاب أن يحذو حذوه فهو كاتب سوداني قومي أصيل وروائي عالمي يجب أن يشق طريقه إلى الدوائر الثقافية العالمية كما يجب أن نعكف على ترجمة أعماله إلى اللغات العالمية الحية
٥
الآن ترجل هذا الفارس عن صهوة قلمه مخلفاً أعمالاً ادبية خالدة وبحوث دراسات قيمة يتوجب علينا جمعها وترجمتها إلى اللغات الحية ونشرها لفائدة الأجيال القادمة فالمبدع يفنى جسداً ويخلد ابداعاً وفكراً وعطاءً
كما قال شاعرنا التجاني يوسف بشير وقد توفي عن عمر لا يتجاوز الخمس والعشرين عاماً ولكنه ملأ الدنيا وشغل الناس قال في قصيدته الأدب الضائع
أنا إن مِتُ فالتمسني في شع ري تجدني مدثراً برقاعه
في يميني يراعُ نابغة الفُصْ حَىٰ وكل امرئٍ رهين يراعه
على مضجعي نثارٌ من السو سن غضٌ مقدسٌ في رَفَاعِه
شِرْتُهُ في صبايَ من وضح الفج رِ ومن بهرج الضحى وخداعهِ
وعلى هامتي أكاليل "سَحْبَا نََ" وفي شِرَّتي أداةُ مَصَاعِه
فللمبدع حياة جديدة كما للنص حياة أخرى في زمانٍ ما سيأتي بعد حين من الدهر
٦
ألا رحم الله استاذنا الجليل المبدع العالم والمعلم المطبوع والروائي الكبير إبراهيم اسحٰق واسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا
اللهم ألهمنا وآله وذويه وعارفي فضله الصبر وحسن العزاء
تلميذك
صديق المجتبى