قراءة نقدية لديوان دم العاصفة الشاعر محمد نجيب محمد علي

قراءة نقدية لديوان دم العاصفة الشاعر محمد نجيب محمد علي
بقلم صابر جمعة

المتصفح لديوان شعر دم العاصفة يشعر بالمتعة لسلاسة اللغة وعذوبتها وسهولتها عند القراءة الاولي ، وفي القراءة الثانية يكتشف انه امام منجم هائل من فنون القول الشعري وبلاغته حتي أن اتت ابياته صادمة وإنفعالية عنيدة أحيانا لانه يكتب بصدق وخلفه تراث جم لفحول الشعراء العرب من لدن عروة بن الورد وقيس بن الملوح وأمروء القيس ، وم الشعراء المحدثين سميح القاسم ومحمود درويش , بدر شاكر السياب او صلاح عبد الصبور مثلا الخ .
تفتحت قريحة نجيب الشعرية منذ السبعينيات القرن الماضي وسطع نجمه وسط أقرانه فضيلي جماع وعالم عباس والمرحوم محمد محي الدين وغيرهم من الشعراء المجيدين من الشباب انذاك ، تميز نجيب بعالمه الشعري والمتتبع لمسيرته منذ البدء وحتي الان يري النسيج الشعري ذاته ، نفس التعابير القوية المليئة بالإيحاءات والتصاوير الجميلة وهذا إن دل فإنما يدل علي نضج الموهبة مبكرا وقد لاحظ صديقه الحميم الفنان الشامل متعدد المواهب الاديب المرحوم سامي يوسف تجربته وعوالمه الشعرية منذ السبعينات وكتب عن إبداعه بعنوان قصائد غير معنونة ورامبو السوداني في مجلتي الإذاعة والتلفزيون ومجلة الشباب .

البناء الشعري وسيموطيقا الصفحة الشعرية في قصائد دم العاصفة :-
تحيلنا المفردات والتعابير الرنانة في الديوان لتقصي وإستخلاص نسيج ضام كل الرؤي والإيماءات والحوارات والمنلوجات مع الذات الي الذات ومن الذات الي التذات ، فعملية الخلق الإبداعي هنا مخاض يتولد بإستمرار في ذات الشاعر وهي محرقته وأتونه الذي يتلظي فيه !! إن عملية الكشف الإبداعي في المخيلة والتي تنصهر فيها الكائنات والظلال والاحجام والروائح هي ما تقودنا الي اللذة النصية كما يقول بارت او المتعة المدركة كما يصورها إبن جني في سبر عوالم ابا الطيب المتنبي الشعرية ، إن التلاعب بالالفاظ وإختيار الكلمات بعناية تسم العوالم الشعرية عند نجيب ، ايضا براعته وإلمامه بقواعد اللغة العربية وإستخدامه فنون الكلام وما يضمه من بوح ومناجاة وتضرع وتساؤل وبإندغام سلس تنثال القصائد المنثورة بمحاذاة ضفاف قصائد التفعيلة ، كما نلاحظ ولعه بالموسيقي الشعرية ذات الإيقاعات الدائرية في متون النصوص وتضمين النص خلاصة التجربة الحياتية بشفافية متمرسة تتجاوز السائد وهي إن اتت مباشرة منذ الوهلة الاولي إلا أننا نري المعاني الكامنة خلف القول الشعري لاحظو هنا إختصاره الوقائع الحياتية بكل ما يحفها من ثقل ايدلوجي وبؤس ويستعيض بدلا عنها بعبارات اوجزت ولخصت تراجيديا الصراع في وطن مجروح .
كل يوم في الصباح
أرتدي حزنا قميصا
وحذائي شارعا لا ينتظر
ومجاعاتي التي تسرق من عطر المطاعم
كان لي بيت وإمراة وعصفور جريح
كان لي يوما وظيفة أشتري منها وطن
غير أني لم أجدها .....
لم أجدها !!
لم تجدني !!
حينما قابلتها دخلت الي ظلي وقالت هيت لك !!
(( البكاء في هامش القصيدة ))
تجربة المرض والحزن الشفيف او التناص مع قصيدتا الرحيل في الليل لعبد الرحيم ابو ذكري واوراق الغرفة ثمانية لامل دنقل
تداعيات غرفة إنعاش
هذه القصيدة التحفة رغم التجربة المريرة التي عاني منها الشاعر تعتبر من أجمل واصدق قصائد الديوان ، تجلت العبقرية القريضية بإستخدام كل الفنون البصرية من تشكيل ولقطات ورسم للمشهد الشعري بإقحام الشخوص و إنسياب الإيقاع ببحوره الذاخرة الوارفة وهنا ينبثق التساؤل لماذا الاسي والالم يكون اصدق من الفرح ؟؟؟ الإجابة في مظاني لحظة الكشف الشعري عند معايشة التجربة ، هي الإضاءة الخافته والمقياس الاصدق لقيمة الحياة ومعناها !!
كم أنت عظيم ايها القصيد !! وما الشعر سوي مراَة للروح به تتجسد ذواتنا .. احلامنا ، وعينا الغائب الحاضر فينا فالنتأمل هذه الابيات :
غرفتي كانت مليحة
ويد البنت الفرس جست النبض
ولاصت كفها ببطن كفي
ثم قالت خذ نفس
وكنت أسمع همسة الخطو ووقع الأمنيات
أيقظنتي كف تلك البنت من أخر عمري
اشعلتني مرة أخري
فأيقنت بأني لست أدري
انا الان بشطء العالم اخر احيا
ام تراني هاربا من بطن قبري ؟؟!!
يقول ابو ذكري حين إستبد به الوجد والحزن
أيها الراحل في الليل وحيدا
ضائعا منفردا
أمس زارتني بواكير الخريف
غسلتني في الثلوج
وبإشراق المروج
أيها الراحل في الليل وحيدا
موغلا منفردا
إنتظرني ... إنتظرني
فأنا ارحل في الليل وحيدا
ويقول نجيب
ايها الموج الجبل
إنتظري ريثما احمل قيثاري
وامض في عجل

الحالات الشعورية تسفر عن تقاربات موحية ومتشابهة ومتلازمة عند كل من الشاعرين ، ابو ذكرى يحلق كالنسر الفاره يتجاوز المعاناة نحو أفق جميل مجهول تستطبنه تشوقاته !! اي افق سرمدي ميتافيزيقي اما نجيب وامل دنقل فتغلب نزعة الاشراق والامل رغم الالم الهائل علي جوانحهما يقول نجيب
لم يذل قلبي يراودني علي موت جميل
حيثما يصعد صوت الريح في قلب الجبل
حينما تغفو عيون الشمس في صدر الاصيل
وينادي الليل للانجم
كي تومض في حقل القبل
وامل دنقل يناجي إبنته أسماء قائلا
ليت أسماء تعرف إن أباها صمد
لم يمت
هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة ابد !!
وكأن الشراب نفد
وكأن البنات الجميلات يجيئن مثل الذبد !!
مخرج
رغم أن هذا الديوان الثالث للشاعر محمد نجيب إلا إننا نري في محتوياته قصائد قديمة كتبت في فترة السبعينات والثمانينات والتسعينات ماعدا قصائد البكاء في هامش القصيدة ، وتفاصيل حالة جنون عاقلة والاسئلة فهي كتبت في اوائل واواخر العام الفين ولعل الشاعر بحصافته المعهودة أرتأي ان تكون المداخل للعوالم الشعرية لنصوصه كما يبين في مستهل الكتاب مدخلين لمساعدة القارئي في تتبع سير قصائده وجعل المدخل الاول العام 1982 والثاني قصائد كتبت في مطلع الالفية الجديدة للعام الفين وجميع القصائد يربط بينها خيط ناظم مملوء بالجمال والإيقاعات الموسيقية الراقصة كما نلاحظ العناية في الدقة اللغوية وإختيار الكلمات وتصريفها وإعرابها وللجرس الموسيقي عند نجيب شأن واي شأن ، كذلك الاسلوب وفي جسد القصائد تتحاور الحروف تملاء الفراغات بكل عنفوان لتخصيب وتجزير المعاني والرؤي نحو أفاق مسكونة بهواجسه ووعيه الانطولوجي كذات حالمة واعية مدركة مستبصرة .
دم العاصفة ديوان شعر صادر عن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر الطبعة الاولي 2014