القصائد الوصايا

القصائد الوصايا  د. نزار غانم , مدرسة الطب بجامعة الأحفاد للبنات , أمدرمان يعتبر النقاد الشاعر اليمني محمد عبده غانم أحد أكثر الشعراء العرب كتابة لشعر الأسرة . في الستينات و في كتابه الموسوم ( شعراء اليمن المعاصرون ) أشار الناقد العراقي هلال ناجي الى ذلك و إن كان قد أشار أيضا الى أن إبداع الشاعر المصري كمال نشأت في هذا الاتجاه أكثر تفوقا . و في التسعينات أشار الأكاديمي السوداني مبارك حسن خليفة إلى ذلك في كتاب نقدي صدر له ضمن إصدارات صنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004م . و إنني لأجد محمد عبده غانم , والدي , قد خاطبني بالشعر مرارا بل و دفعني إلى مواقف في الحياة ببعض قصائده . و في ميلادي في السابع من أكتوبر 1958م كتب غانم قصيدة أقتطف منها الأبيات التالية:-  (نَزار) يَا بَهجَةَ هَذَا الوَرَى لَولَاكَ لَم يَعبَقْ وَ لَم يَسطِعِ لَم يَفرَحِ السَّارِي بِبَدرِ الدُّجَى وَ لا هَفَا الصَّادِي إِلى المَشرَعِ

القصائد الوصايا

القصائد الوصايا
 د. نزار غانم , مدرسة الطب بجامعة الأحفاد للبنات , أمدرمان

يعتبر النقاد الشاعر اليمني محمد عبده غانم أحد أكثر الشعراء العرب كتابة لشعر الأسرة . في الستينات و في كتابه الموسوم ( شعراء اليمن المعاصرون ) أشار الناقد العراقي هلال ناجي الى ذلك و إن كان قد أشار أيضا الى أن إبداع الشاعر المصري كمال نشأت في هذا الاتجاه أكثر تفوقا . و في التسعينات أشار الأكاديمي السوداني مبارك حسن خليفة إلى ذلك في كتاب نقدي صدر له ضمن إصدارات صنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004م . و إنني لأجد محمد عبده غانم , والدي , قد خاطبني بالشعر مرارا بل و دفعني إلى مواقف في الحياة ببعض قصائده . و في ميلادي في السابع من أكتوبر 1958م كتب غانم قصيدة أقتطف منها الأبيات التالية:-
 (نَزار) يَا بَهجَةَ هَذَا الوَرَى لَولَاكَ لَم يَعبَقْ وَ لَم يَسطِعِ
لَم يَفرَحِ السَّارِي بِبَدرِ الدُّجَى وَ لا هَفَا الصَّادِي إِلى المَشرَعِ
مِثلِي إِذَا ما جِئتَنِي ضَاحِكًا تَدلِفُ أَو تَحبُو إِلَى مَخدَعِي
وَ تَجذِبُّ الرَفَّ فَتَهوِي الدُّمَى تَرجِفُ في القَاعَةِ كَالقَوقَعِ
حَتَّى إِذا فَرَّقتَهَا لَاهِيًا في الرُّكنِ تَحتَ الفَرشِ في المَضجَعِ
مَدَدْتَ نَحوِي الكَفَّ خُذنِي أَلَا خُذنِيَ و احمِلنِي عَلى الأَذرُعِ
و حينما رافقته و والدتي في السفر الى بريطانيا حيث كان يخضع للعلاج الطبي كتب يتأسى :-
وَ لَولَا طِيب قُربٍ مِن (نَزار) و مِن إِلْفٍ هِي الأَمَلُ المُنَدَّى
لَسَدَّتْ وَطأَةُ الأَشجَانُ أُفْقِي وَ عِشتُ مَعَ الأَسَى فِي النَّاسِ فَردَا
   و حينما تم قبولي في كلية الطب بجامعة الخرطوم بمنحة من الحكومة السودانية كتب لي قصيدة بعنوان ( في جنة العلم ) :-
و الآنَ قَد صِرتَ إِلى بَابِهَا فَقِفْ قَلِيلًا عِندَ أَعتَابِهَا
و استَقبِلِ القِبلَةَ كَيمَا تَرَى رِضوَانَهَا يُهدِي لِمِحرَابِهَا
فَإنَّهَا الجَنَّةُ قَد أُزلِفَتْ فِي الأَرضِ بِالعِلمِ لِأَصحَابِهَا
يَنهَلُ مِن كَوثَرِهَا كُلُّ مَن يَسعَى إِلى الحَوضِ بِأكوَابِها
وَ كُلُّ من طَافَ بِأقدَاسِها و نَالَ مِن حِكمَةِ أربَابِهَا
سَبعُ سِنِينَ أَنتَ فِي ظِلِّهَا فَانظُر إِلى أَينَ سَتَرقَى بِها
لَو شِئتَ نِلتَ المُبتَغَى عِندَهَا و صِرتَ مِن أَسعَدِ طُلَّابِها
تَأكُلُ مِن رُمَّانِهَا تَارَةً و تَارَةً تَحظَى بِأَعنَابِهَا
و تَارَةً بِالحُورِ في سَاحِهَا تَلهُو وَ بِالولدَانِ أَترَابِهَا
فَاعمَلْ هَدَاكَ اللهُ حَتّى تُرَى تَخرُجُ بِالرِّضوَانِ مِن بَابِهَا


و حينما تركني في الخرطوم لأبدأ دراستي الطبية و غادر مع والدتي الى صنعاء للعمل بكليتي التربية و الآداب بجامعة صنعاء في سبتمبر 1977م كتب قصيدة يودع فيها ملتقى النيلين و أشار في آخرها إلي بقوله :- 
مُلتَقَى النِّيلَينِ مَا زِلتَ على العَهدِ الأَصِيلِ
لَستُ أَنسَى فِيكَ أَسمَارِي وَ لَا طِيبَ مَقِيلِي
وَ لَقَدْ خَلَّفتُ لِلعَهدِ عَلَى الشَّطِ سَلِيلِي
يَرِدُ الحَوضَ ليُسقَى مِن نَمِيرٍ سَلسَبِيلِ
وَاثِقًا أَنْ سَوفَ يَحظَى كَأَبِيهِ بِالجَزِيلِ
و خلال وجودي طالبا للطب بالخرطوم كتب قصيدة يتخيل فيها أنه يخاطبني من قبره عندما يحل العام الميلادي 2000 في قصيدة بعنوان (الالم عام ألفين) فيقول :-
لم تَزَلْ يَا (بُنَيَّ) تَرنُو إِلَى شِعرِي بِعَينِ المُتَيَّمِ الوَلهَانِ
مِثلَمَا كُنتُ حِينَ كُنت ُغُلَامًا بِأَبِيهِ يَزهُو عَلى الغِلمَانِ
وَ حَمَاسُ المُحِبِّ قَد يَحجُبُ العَيبَ فَلا تَهتَدِي لَهُ العَينَانِ
إِن أَكُنْ يَا(بُنَيَّ) صِرتُ رُفَاتًا في ضَرِيحِي بَعدَ السِنِينِ الثَمَانِ
فَأَنَا في السَّمَاءِ بَاقٍ بِرُوحِي سَابِحًا بَينَ حُبِّهَا و الحَنَانِ
فَلَقَدْ كُنتُ في الحَيَاةِ رَحِيمًا لا أُطُيقُ العَذَابَ لِلإِنسَانِ
أَمقَتُ الظُّلمَ دَائِمًا أَينَمَا حَلَّ وَ أدعُو للبِرِّ و الإِحسَانِ
فَتَلَاشَتْ بَعدَ المَمَاتِ ذُنُوبِي – وَ هي كُثرٌ – فِي رَحمَةِ الرَّحمَنِ
غَسَلَ العَفوُ زَلَّتِي و استَحَمَّتْ مُهجَتِي فِي أَشِعَّةِ الغُفرَانِ
كذلك خلال دراستي في الخرطوم كان أن بلغ السبعين من العمر في العام 1982م فكتب قصيدة أشار إلي فيها بأبيات يقول فيها :-
وَ أَخِيرًا وَافَتِ السَّبعوُنَ مِن أَيَّامِ عُمرِي
..................
وَ استَقَرَّ الشَّوطُ فِي السُّودَانِ فِي خَفضٍ وَ يُسرِ
حَيثُ مَا زَالَ (نَزار) و هوَ فِي بَحثٍ وَ ذِكرِ
دَائمًا يَسعَى إِلى الغَايَةِ فِي كدٍّ وَ صبرِ
يَطلُبُ الطِّبًّ الذِي يَقضِي عَلى الدَّاءِ وَ يُبرِي
وَ إِذَا أَنهَكَهُ البَحثُ وَ أَضنَاهُ التَّحَرِّي
كَانَ فِي العَودِ لَهُ خَير مَلاذٍ وَ مَفَرِّ
يَجمَعُ اللَّحنُ كَمَا يَهوَى إِلى اللَّحنِ الأَغَرِّ
وَ يُغَنِّي بِأَغَانِي الحُبِّ فِي أَجمَلِ نَبرِ
بِالمِلَاءِ الأَبيَضِ النَّاصِعِ قَد جَالَ بِخَصرِ
يَتَهَادَى وَ هوَ وَ (الصَّندَلُ) فِي طَيٍّ وَ نَشرِ
وَ يَلُفُّ السَّاقَ بِالساقِ عَلى نَقرٍ وَ نَفرِ
فَيَرِنُّ القَاعُ بِالإِيقَاعِ مِن شَفعٍ وَ وِتْرِ
لَم يَخِبْ مَن مجَّدَ الحَسنَاءَ فِي شِعرٍ وَ نَثرِ
وَ إذَا قِيلَ بِأَنَّ النَّثرَ بِالشَّاعِرِ يُزرِي
فَلتَقُلْ: فِي النَّثرِ مَا لِلشِّعرِ مِن فَضلٍ وَ قَدرِ
إِن يَكُنْ قَد صَاغَهُ الفَنُّ بِإبدَاعٍ وَ أَسرِ
وَ بِصَنعَاءَ كَمَا فِي النِّيلِ دَاعٍ لَيتَ شِعرِي
أَيُّ عَيبٍ فِي الفَتَى أَنْ يَخلِطَ البِيضَ بِسُمرِ
أَن يَجِدْ فِي (الثَّوبِ) كَـ (الشَّرشَفِ) مَا يَسبِي وَ يُغرِي
كَم لِصَوتِ اليَمَنِ الشَّاعِرِ فِي السُّودَانِ شِعرِ
بَينَ (حُمرَانَ) وَ (لُطْفِي) كَم لَنا فِي النَّهرِ بَحرِ
.......................
وَ أَخِيرًا يَلتَقِي السَّبعِينَ فِي حَمدٍ وَ شُكرِ
يَتَمَنَّى أَن يَجُودَ اللهُ فِي البَاقِي بِنِزرِ
فَيَرَى فِيهِ (نَزارًا) وَ هوَ فِي نَجحٍ وَ نَصرِ
قَبلَ أَن تُودِعَهُ الأَقدَارُ فِي أَحْضَانِ قَبرِ!


و حينما تخرجت في شهر مارس من العام 1984م كتب غانم قصيدة معبرة عن لهفته لهذا الحدث بعنوان ( ترنيمة للعودة) أقتطف منها :-
عُدْ إِلَينَا
قَد كَفَانَا مَا لَقِينَا
عُد إِلَينَا لَا تُهَاجِر
عُد إِلَينَا
لَمْ يَعُد فِينَا عَلى الصَّبرِ على الأشوَاقِ قَادِرْ
عُد إِلَينَا
يَا طَبِيبِي نَحنُ - بِالأَشواقِ - مَرضَى
بُورِكَتْ كَفُّ المُواسِي و المُؤَازِر
عُد إِلَينَا
تُنقِذُ البَاقِي مِن الهَيكَلَ مِن دَاءٍ مُخَامِر
فِي صَمِيمِ العَظمِ نَاخِر
لَمْ يَعُدْ فِي الشَّيخِ مَا يَقوَى عَلى الصَّبرِ فَبَادِر
عُد إِلَينَا


كَي نَرَى الإِكلِيلَ زَهرًا عَبقَرِيَّ اللَّمحِ آسِرْ
كَي نَرَاهُ حِينَ يَشدُو فِي جَبِينِ النَّصرِ بِالأَلحَانِ عَاطِرْ
كَي نَرَى فِيهِ جَزَاءَ الصّبرِ سَافِرْ
كَي يَعُودَ الشَّوكَ وَردًا كَي نَرَى فِي فَرحَةِ العَودةِ آلَافَ البَشَائِر
كَي يَظلَّ القَلب شَاكِر
نِعمَةَ المَولَى على العَبدِ وَ ذَاكِر
و بما أن الشاعر محمد عبده غانم كتب مثل هذا الشعر و أكثر في زوجته و في أبنائه الخمسة الآخرين فإنه يكون بالفعل ممن سخر الشعر للبوح بعواطفه الأسرية و إن كان الموضوع بحاجة لمزيد من التأمل و التحليل و المقارنة. لقد كانت قصائده لي بمثابة الوصايا الأبوية و إن من الوصايا لقصائد !