سكين الفراغ ..صيد الفقير
سكين الفراغ ..صيد الفقير
كليك توبرس _ عامر محمد أحمد ..
قصة " سكين الفراغ "للقاص الراحل" احمد المصطفي الحاج" من اجود القصص القصيرة السودانية التي لم تجد حظها من القراءة. وقد وظف القاص المكان للنفاذ نحو القضايا الاجتماعية إذ المجتمع المتخيل في حالة انقسام بين طبقة وسطى وفقر مدقع شديد الوطأة. سردية "سكين الفراغ" تنحت في صخر الواقع في رمزية قاسية حول الفراغ / الفقر وسكينه الحادة _في احشاء المكان.لأحمد المصطفى الحاج طرائق سردية مختلفة ،عن ابناء جيله ،ومن اتى بعدهم.وهو و"ابراهيم اسحق" ابرع من يمسك بخيوط السرد القصصي ، ويغمسها في اشكال سردية متعددة، ومتلونة ،ولديهما خاصية الحبكة الدرامية التي تبدا من النقطة صفر المحددة ثم تنطلق في فضاءات تتشكل من قول فصيح لسارد عليم، وفلسفة ليس لديها مع المباشرة اي علاقة ، ثم تتعالى السردية ، ولاتهبط ابداً بحيث تحتوي علي روح فنانة ،في معالجة النص والقبض على الزمن . وخاصية الإمساك بالزمن من اهم شروط صحة واكتمال النص القصصي ،ومنها تتحدد محاورته ،ومداورته، وتقسيمه إلى حلقات داخلية ،وكل حلقة تقودك الى اخرى في سلسلة طويلة تقود القارئ إلى مفاتيح الخطاب و الحكاية.."إمتلأت أحواء المدينة بالصقور بعد أن هجرت أوكارها في الجبال والوديان والسهوب مشكلة من الأجنحة السوداء والرمادية مظلة ترسم بظلالها السوداء علي أسطح البيوت والباحات والجدران لوحة تشكيلية متحركة تتغير بتغير حركة مرور وتحليق الصقور بالجو ..
علي عامود الكهرباء الخرصاني بالقرب جائط الدار حط صقر رمادي اللون أعلي قمته وعلي السلك أسفل منه حط صقران واحد علي يمينه والآخر علي يساره ،مشكلين لوحة تشبه تماما منصة الفائزين الثلاثة الأوائل في المسابقات _ سكين الفراغ " بقعة الفقر السوداء، تنقر بمخالب العوز على ساحة صراع مفتوحة حول الفتات . بقية ماترمي به إلى الناس ،وتجعلهم يركضون في مساحات الفراغ..حركة الدائرة مابين تحليق الصقور في الجو ،وحركة الارض تتحرك ، وفق بوصلة الجوع..تبحث الصقور عن فضلات الطعام ،وطفلة في وصف" احمد المصطفى: تنظر الى اقدامها الحافية ،وبطنها الخاوية ،ولايهمها حركة تربص الصقور بها، وورقة شهادة الجوع ، تدحرجها رويدا رويدا إلى شهادة الوفاة ، كان بامكان المكان حولها ان يكون اكثر عدلاً ولكنها دخلت في سكين الفراغ_ سكين الجوع والمرض _ سكين تقطيع لجثث احياء _ سكين السلطة المتربصة بكل من هو في حيزها السلطوي "فقير ". وهنا ما ذا تملك الطفلة ؟_ تموت البراءة بهدوء وإهمال متعمد _ ماذا تملك الطفولة في غابة الوحوش، غير ان تفعل ما يقوله السارد عنها ولنا ."أدخلت يدها في سطل بلاستيكي بهت لونه وتآكلت حوافه ..أخرجت سمكة صغيرة بحجم كفها تنز بطنها بكائنات دقيقة ورائحة نفاذة .. وضعتها علي المنضدة المغطاة بكعكة زفاف العصر .. وبدأت تعمل سكين الفراغ لإزالة القشور بحذر شديد حتي لا تتوغل عميقا في جسم السمكة شبه المتحلل ..وهي تهش الذباب بحركة آلية من يديها النحيلتين_ سكين الفراغ " بقعة المكان مليئة بما تعافه النفس، وبقعة الحاجة الملبدة بالدماء العكرة هي بعض من آثار الجوع الطويل وركضه المتواصل داخل البطن .في مثل هذه اللحظات البريئة تختفي سلطة الخوف ،وتنفجر سلطة الرغبة في إسكات الجوع ، السباحة في الهواء لاتملكها فالأمر سيان في حالة الاغتيال للبراءة بالجوع، وتربص الصياد بفريسة الجائع ، "جيفة سمكة صغيرة في سطل ..
خفق الصقر الرمادي علي قمة العامود الخرصاني جناحيه رفرفهما ثم بسطهما ثم دار نصف دائرة ونيش عينيه الحادتين تلقاء السمكة الممسكة بها الطفلة فانقض عليها ..ززز بوغتت الطفلة فتشبثت بالسمكة ..فانقض عليها الصقر ثانية صافعا وجهها بجناحيه الطويلين ..إلا أن الطفلة تشبثت بها بقوة ..فانقض الصقر علي عينها ففقأها سرعان ما هجمت الصقور علي الطفلة التي تركض في باحة وهي تصرخ وتولول من الألم والدم يسيل من عينها علي خدها الناتيء وكانت الصقور تطارها وهي تنهش وتقضم من جسدها الذي كان ينز دما حتي سقطت علي الأرض والصقور ماتني تنقض وتنهش_ سكين الفراغ ." القاص السوداني الراحل "احمد المصطفي الحاج" ، يقبض بالزمن ويحركه في تلقائية ، لاترى الصقور في الجو سوى السمكة ، الفتاة الصغيرة لاترى سوى السمكة الصغيرة .تفقد العين وتنهش الصقور ماتبقى من لحم اثارتها بقعة دم العين ،ورائحة السمكة الصغيرة المتعفنة..تلك الرائحة ، تصنع زاوية من زوايا غائبة عن الجميع ، منظرها مع الرائحة يسد النفس .تجلس الفاقة دائماً عند الصراع على الحافة وتنظر إلى مفاتيح تشير عليها بان هناك سراب .تدخل مطمئنة إلى سرب جوعها، وعريها، وتنتظر ماتبقى من طعام..الطفلة سعت لكي لاتمد عينها إلى بقايا طعام ، لتطفئ البطن الجائعة" انفتح الباب الخشبي عنوة .. ولج شخصان مذعوران يرتدي أحدهما جلبابا وعلي وجهه لحية كثة بينما ارتدي الآخر بزة كابية مهلهلة .. خلع ذو الجلباب عمامته بينما حل ذو البزة الكابية حزامه وبدءا يهشان الصقور من الطفلة ...
انفضت المعركة حيث كانت بقية جسد مكومة علي الأرض تنز دما ماسكة بيدها اليمني سكين الفراغ وقريبا منها كانت الكائنات الصغيرة تصول وتجول في جسد السمكة وفي الجو ما زالت الصقور تزداد عددا وهي تحلق في المكان وترسم بظلال أجنحتها الرمادية والسوداء لوحة قاتمة _ سكين الفراغ ." .دخول أشخاص إلى مسرح الحماية للطفلة، هو دخول مختلف إذ في مسرح الحياة كثيراً ماتأتي جحافل ،عقب نهاية المعركة، وتغرس "سكين "في قلب فقير جائع بدافع إنساني مخبوء تحت اللسان ونهاية الدخول في المسرح المتخيل هو في الواقع.استغلال وشعارات ترفع حيث يغيب الفعل . .. السردية المفتوحة الحركة ، تهدينا من كتابة القاص الراحل احمد المصطفي الحاج ، ملاحم، ومعارك لانراها في الحياة ،وقد نراها ولاتمكث في العين إلا قليلاً، او نلعن ظروف هذا الشقي في تكتم ، ونتمتم ببعض كلمات .قد نتأمل قبل غروب الشمس، المنظروكآبته ، ثم تتحرك العين في اتجاه آخر معاكس للأول ويمحوه في لمحة وكأنه لم يوجد او نراه "منظر صادم." ثم تمحوه الذاكرة ..من المدخل إلى ختام النص تتجلى عبقرية القاص الراحل" احمد المصطفي الحاج" وهو خبير في الكتابة ، وسيم الروح ...ولازال مقعده شاغراً..