الرواية الجزائرية الحديثة تنفتح جنوب الصحراء
الرواية الجزائرية الحديثة تنفتح جنوب الصحراء رواية الصديق حاج أحمد الزيواني " كاماراد " أنموذجاً عز الدين ميرغني تنفتح الرواية الجزائرية المعاصرة على مختلف الأبعاد الفكرية والمعرفية والثقافية والاجتماعية , وتعمل على بلورة هذا المزيج في شكل خطاب روائي يجمعه الفعل السردي , ويصهره في بوتقة واحدة وفق تقنيات متعددة , حيث يكشف المسار السردي عن الرؤية التي توجه الخطاب
الرواية الجزائرية الحديثة تنفتح جنوب الصحراء
رواية الصديق حاج أحمد الزيواني " كاماراد " أنموذجاً
عز الدين ميرغني
تنفتح الرواية الجزائرية المعاصرة على مختلف الأبعاد الفكرية والمعرفية والثقافية والاجتماعية , وتعمل على بلورة هذا المزيج في شكل خطاب روائي يجمعه الفعل السردي , ويصهره في بوتقة واحدة وفق تقنيات متعددة , حيث يكشف المسار السردي عن الرؤية التي توجه الخطاب , وتتماشي مع خصوصية الراهن الجزائري المعاصر في علاقته بالآخر , سواء في صبغته العربية والإسلامية أو صبغته العالمية . كما جاء في دراسة الباحثة الجزائرية " صليحة شتيح " , والتي جاءت بعنوان " صراع الهويات والذوات - في رواية " القلاع المتآكلة " ل محمد ساري " , وقد تم نشره في مجلة " فصول المصرية " .
لم تعد الرواية الجزائرية حبيسة الخصوصية المحلية فقط , بل أن رواية الدكتور الصديق الزيواني " كاماراد " قد انفتحت على جنوب الصحراء حيث إفريقيا بكل ما يدور فيها من صراعات وأحداث . وهذه الرواية تؤكد الانفتاح على الهم الإنساني الإفريقي المشترك . ومن أهمه مواضيع الهجرة السرية والحلم بالجنة الموعودة الزائفة . ولطالما اتهم الشمال الإفريقي بأنه بعيد عن الهم الإنساني الإفريقي , والرواية الجزائرية الثانية التي جاءت بعدها هي رواية " الزنجية " للروائية الجزائرية " عائشة بنور وهي تهتم بمشاكل المرأة الإفريقية . وقد تشرفت بكتابة مقدمتها .
تدور في أروقة الجامعات الأوربية في السنوات القريبة نقاشات حادة , حول عودة الإرث الثقافي الاستعماري القديم , وذلك بتصنيف النقد الأوربي للأدب الأفريقي , بحسب لون بشرة الكاتب . فالأدب جنوب الصحراء يطلق عليه الأدب الزنجي , وشمال الصحراء هو أدب أبيض مغاربي . وهي تفرقة خطيرة ولها مدلولاتها المغرضة . وقد ظهرت مقالات عديدة تفند وتنتقد هذا التقسيم الثقافي العرقي للأدب الأفريقي . ومعروف تاريخياً بأن تقسيم أفريقيا ثقافياً قد بدأ منذ سيطرة الاستعمار عليها في العام 1885م . فهنالك الثقافة الفرانكفونية , والأخرى الآنجلو فونية . وهو تقسيم لا يخضع للنقد الحديث إلا في الاسم فقط , كما يقول الناقد الجزائري ( بن عودة اللبادي ) في مقال له لمجلة ( ثقافات الجنوب ) الفرنسية .والكلونيالية الجديدة , هي التقسيم العرقي للأدب الأفريقي . وهي نظرية تقوم على مبدأ ( فرق تسد ) الاستعمارية القديمة . والقصد منها تقسيم أفريقيا إلي جيتوهات ثقافية متفرقة ومتناحرة . وهو ما لا يساعد على توحيدها أبداً . بحيث كل قطاع يدعى بأنه يمثل أفريقيا ثقافيا بحسب لون البشرة والموقع الجغرافي . وهنالك العديد من الكتاب والروائيين الأفارقة الكبار من الذين وقفوا بشدة ضد هذا التقسيم , منهم النيجيري (أشينوا أشيبي ), والكيني ( أنغوغو واثينغو ) , ومن المغاربة ( رشيد بو جدرة ) , و ( طاهر بن جلون ) , و ( كاتب ياسين ) والشاعر والناقد التونسي ( طاهر بكري ) . والمتمعن والمتابع للأدب الأفريقي , لا يجد كاتباً يصنف نفسه بأنه جنوب أو شمال صحراوي . ومن المدارس التي بدأت قوية ونبيلة في طرحها مدرسة ( الغابة والصحراء ) , والتي تنادي بأن المكون الثقافي للسودان هو نتيجة الثقافة الأفريقية العربية .
تحكي رواية " كاماراد " عن قصة مخرج فرنسي , قدم فيلماً لمهرجان كان بعنوان " مغارة الصابوق " , وهي قصة أسطورية للكاتب الجزائري عبد الله كروم . لشخصية جزائرية أسطورية تسمى " الصابوق " بأحد قصور " توات بالجنوب الجزائري " . ويفشل المخرج في أن ينال فيلمه أي جائزة في هذا المهرجان . وقرر أن يسافر إلي النيجر أفقر دول العالم وشبابها الأكثر تفكيراً في الهجرة منها إلي الغرب حيث الجنان الموعودة , وذلك لكي ينتج ويخرج فيلماً عن ضحايا هذه الهجرة . وقد اتفق مع أحد هؤلاء والذين عادوا لبلادهم بعد أن فشلوا في التسلل هربا . وهو يدعى مامادو , والاسم هو التحريف في النطق لاسم " محمد " . والذي باع بقرة العائلة لكي يسافر بثمنها ويدفع تكاليف الهجرة السرية . لكي يسرد حكايته منذ البداية " بيع البقرة " وحتى عودته خائباُ .
بنية الرواية تقوم على السرد بضمير المتكلم . بحيث يتحول مامادو , أو لو كاماراد , والكلمة فرنسية معربة بمعنى الصاحب " Le camarade . وهو مصطلح سيصاحبنا في الرواية بحيث يتحول إلي جمع لكل الأفارقة رفقاء الرحلة السرية . ليكاماراد . Les camarades . كان الراوي مامادو , يسرد قصته بحميمية وصدق , خاصة عندما عرف بأن قصته ستتحول إلي فيلم وثائقي . وقد أفلح الروائي الزيواني بأن يجعل شخصية مامادو , شخصية مرحة ومنفتحة , وغير معقدة , رغم انقطاع تعليمها بسبب الفقر , فقد ندم المعلمون على هذا الانقطاع وهذا الحرمان من أن تتعلم مثل هذه الشخصية الذكية المنفتحة . وبهذا نجح الكاتب , في أن تكون لبطله هذه الخلفية " ذكاء + حرمان من التعليم " وهي شخصية تمثل نموذجاً في إفريقيا بحيث هؤلاء هم ضحايا التفكير في الهجرة , لأن الوطن لم يقدم لهم ما يستحقونه . فالبطل " مامادو " يمثل خيبة الأمل في الوطن . وهو يعتقد في قرارة نفسه الداخلية بأن الجنة الذاهب إليها كل خيراتها وما فيها من نعيم هي منهوبة من الوطن الكبير " إفريقيا " . الميزة الأخرى في شخصية " مامادو " , هي أنه مسلم , يحمل بداخله ثقافة الإسلام حتى ولو لم يكن متديناً . Pratiquant . فهذه الثقافة أو القيم أو العقيدة التي يحملها بداخله , جعلته يستنجد بها أو يتصرف على ضوئها من الناحية الإنسانية وليس من ناحية التعبد والممارسة . وإنما في تذكره المستمر لأمه الفقيرة وأخته اليتيمة , " قبل النوم عاودني الحنين لتذكر أمي وأختي .. لكني صرفت الشيطان بتطمين إدريسو عنهما زوال اليوم , غداً صباحاً سأكلمهما " . في محافظته على عهود الصحبة والرفقة والصداقة . وفي مساعدته للآخرين حتى ولو كانوا من الغرباء . وكثيرا ما كان يستدعي هذه الثقافة " في عرفنا نحن المسلمين - وكما أخبرتنا به أمهاتنا أولاً وشيوخ الحي ثانياً - يوم الجمعة , يبدأ عصر الخميس . " . ولم يتخلص من جوازه الأصلي حتى بعد أن حصل على جواز مزيف فيه تغير اسمه وديانته إلي الديانة المسيحية . فقد كان يعتبر جوازه الأصلي باسمه وديانته هو هويته التي يجب أن يحافظ عليها . " لا أخفي عليك يا سيدي المخرج , أني تزلزلت .. تهلهلت والله !! في ذوات صدري " تغيير اسمك وهويتك يا كوليبالي أمر مقبول .. تستبدل ديانتك ومعتقدك يا روبنسون .. قرار صعب " . كل شيء يهون من أجل تحقيق حلمي .. سأعلق الصليب في رقبتي وألبس عباءة اليسوع من أجل خداع رجال الأمن , أني مالياني مسيحي كما في جوازي .. في عميقي سأبقى نيجيرياً مسلماً وما يضيرني ذلك .. " . ولأن رواية " كاماراد " , رواية مغامرات , وخوف وترقب , ومن هنا جعلت البطل يكشف ذاته الحقيقية , وهي تتمسك بماضيها وهويتها وحتى معتقدات الآباء والأجداد , حيث ظل طول الرحلة متمسكاً بالتميمة التي أعطته لها والدته كحرز من الخطر .
وبذكاء الرواية , اختار أيضاً الكاتب , شخصية مامادو , لكاماراد , من دولة النيجر حيث القرب المكاني والتشابه الثقافي بينها وبين موطنه الجزائر , حيث كان الكاتب على دراية كبيرة بثقافة جنوب الصحراء . فالرواية تدخل في تقنية رواية المعرفة , بهذه المعرفة والدراية بالمكان . والنيجر كدولة فقيرة وتمثل ضحية للاستعمار الفرنسي القديم , هي أيضاً نموذج لأسباب الهجرة منها بل وهجرها إلي الأبد . مسار الرحلة الطويلة التي قطعها البطل مع رفاقه من العاصمة نيامي وحتى الأراضي المملكة المغربية . بل تميزت الرواية بتفاصيل دقيقة تتحملها بنيتها , مثل أسماء الطرق والمدن , وخصوصية كل مكان فيها , وقصورها القديمة , بل حتى أنواع الأكل والطعام , من ما يجعلها تستحق بجدارة اصطلاح رواية المعرفة . والكثير من المصطلحات لقبائل إفريقية وأمازغية طارقية . من ما يدل على أن الكاتب قد بذل مجهوداً كبيراً في أن يجعل روايته توثق المكان , وتؤكد اهتمام أهل الشمال الإفريقي بجيرانهم جنوب الصحراء .وبهذا تكون أول رواية من تلك الروايات التي يكون موضوعها هو الهجرة السرية تتحدث عن شخصية غامرت حتى النهاية وضحت ولم تفلح في الوصول إلي الجنة الموعودة . وهي تجربة مثيرة وصعبة واحتاجت لخيال كبير وحبل سرد متين لأن كل نقطة وصول جديدة يجب أن تكون بمعلومة وتفصيل جديد . فلا عودة للخلف إلا ما يتذكره مامادو عن بقرتهم المحبوبة التي باعها وأمه وأخته ما هو حالهم بعده ؟ ولأنها رواية من الواقع الحديث , حيث ما يزال ضحايا الهجرة السرية في ازدياد , فإن الكاتب وضع نفسه في امتحان صعب , كي لا يكرر قصص الواقع التي أصبح يعرفها الجميع , وقد اجتاز هذه العقبة بنجاح , بحيث جعل من الواقع الأليم أحد محفزات المتلقي فيها , وكان القارئ في شوق كبير ليعرف كيف عاد مامادو ليحكي مغامراته , فهل عاد برغبته أم عاد مطروداً ليسرد ويحكي ما حدث له . وهذه الرواية تؤكد بأن كتابة الواقع المتخيل , هي كتابة صعبة , لأن حتى الخيال يجب أن يخضع لمنطق الواقع . لذا كان مسار الرحلة الطويل " 3333" كيلومتراً , كان يخضع فيه الكاتب تفاصيله لمنطق الحقيقية الواقعية خطوة بخطوة .
طالما أن الحكاية هي قصة فرد واحد , يحكي ما حدث له وما حدث لغيره , فكما يقول رولاند بارت , في كتابه " الدرجة الصفر " إن ضمير المتكلم لأنه أقل التباساً فإنه بسبب ذلك يكون أقل روائية " . ولكنه في هذه الرواية كان الأكثر روائية بحيث كان متموضعاً بجدارة . وكان أشبه بالراوي العليم , والذي كان يمثل الكاتب في معرفته بكل التفاصيل . حتى أن البعض قد يتساءل , وهل يستطيع " مامادو " أن يعرف بدقة حتى الأماكن التي هو بدون شك ضيفاً عابراً عليها ويزورها لأول مرّة في حياته ؟ لقد كان مامادو في معرفته الدقيقة هو الشخصية الخفية للكاتب حيث كان الذي يقود البطل ويوجهه , وكانت هذه الشخصية أساساً موجهة بتعليمات المهربين , فهو يصف ما يشاهده في المكان الذي قادوه إليه ولم يكن يعرفه من قبل . والطريق نفسه هو المعرفة الخفية للكاتب والتي بالطبع قد استوثق منها وهو يكتب روايته . والبطل في الرواية حريص على أن يصف المكان الذي يستضاف فيه مع زملائه , وصفاً دقيقاً , فبالنسبة اليه هو مكان جديد , فيه الدهشة والغرابة . فقد كان منغلقاً في مدينته في وطنه النيجر . والمعلومة الجديدة عليه , والتي يذكرها , فهو يترك لمن يعرفها أن يسردها ويحكيها بنفسه بما يسمى " السرد المناوب "
قد يقول بعض النقاد بأن هذه اللغة التي كتب بها الروائي الصديق حاج أحمد روايته لا تناسب مستوى السارد , خاصة أن اللغة العربية ليست لغته الأم . ومن هنا كان تصرف الكاتب ذكياً وهو يكتب الرواية بلغته وأسلوبه الخاص , فكأنه يترجم ما يقوله للمخرج الفرنسي إلي العربية . واستطاع الكاتب أن يجعل من لغة خطابه الروائي والتي جاءت بضمير المتكلم لغة للتنواع والمراوحة بين القصدية تارة والعفوية والتداعي تارة أخرى . رغم أن المجال ليس متاحاً للراوي بضمير المتكلم أن ينشغل بغير ما هو فيه الآن وخوف من المصير المجهول والذي قد يكون أوله الموت عطشاً وضياعاً في الصحراء . وثانيه الترحيل القسري إلي الوطن الجحيم . تنوعت نبرات الخطاب الروائي في النص , تنوعاً مذهلاً ورائعاً , ويقود هذا الخطاب إلي لسانية Une Linguistique , تلغي كل مؤشرات التلفظ المعتادة , والتي جعلت أسلوب الكاتب مميزاً ومحفزاً لمتابعة الرواية منذ البداية وحتى النهاية . حيث " الهجنة – والعتاقة – والحوارية الساخرة والمثيرة " . لقد طوع اللغة لتكون مهجنة ومتمازجة مع بعض المصطلحات الفرنسية بحكم الاستعمار الفرنسي الطويل والذي لا يمكن محوه بين ليلة وأخرى , وبحكم التواصل بها مع جنوب الصحراء الفرانكفوني , ومع بعض المصطلحات والكلمات الأمازغية بحكم الامتداد والإرث القديم لهم في المنطقة , مع بعض اللغات الإفريقية , كلغة الهوسا وغيرها . ولطالما أنه يكتب بالعربية الفصحى ولكنه قد طوعها لكي تتماشى مع المكان بثقافاته المتعددة والمتنوعة وجاء فيها الكثير من الجمل التي تثير دهشة المتلقي في المشرق العربي والذي لم يستفد كثيراً من تطويع هذه الفصحى لتساير العصر الحديث . ومن أمثلة ذلك " خرج الشاي مبروماً من خرطومه " _- " تكتفنا وتأبطنا متاعنا " – " برمنا لفائفنا " – " الطرقات تتزين بالثياب الثلاجية , نطت في ذاكرتي سيميائية اللون الأبيض " . – " كنت متعطشاً جداً حتى إلي هذا النزر اليسير من رذاذ الأخبار " – " اقتسمنا الياغورت Yaourt بيننا بالتساوي " .
إن لغة الرواية وأسلوب الكاتب تمثل متعة كبيرة بالنسبة لقارئ مشرقي ما اعتاد أن يوظف مثل تلك الكلمات الموجودة في حياتنا اليومية ولا نستخدمها في الكتابة وبعضها منسي في قواميس اللغة العربية القديمة . مثل ذنذنة الذباب , بساطاً كرتونياً , اللوحة الإعلامية , افتراري كان عالياً , ربضت جلسة الراحة , ساقية البول تسيل الخ . الرواية نص متعة ونص لذة في نفس الوقت كما يقول الفرنسي رولاند بارت .