قراءة في نصوص مسرحية أبوطالب محمد
قراءة في نصوص مسرحية
أبوطالب محمد
تضم هذه المجموعة الصادرة عن مركز د. يوسف عايدابي لفنون المسرح 2022م ثلاث مسرحيات سياسية للقاص والشاعر، الروائي والكاتب المسرحي عادل سعد. النصوص الثلاثة وليدة أفكار سياسية ناتجة عن هاجس ظل يردّده المسرح السوداني عبر تاريخه الممتد في القدم. أعطى الكاتب البناء الدرامي في مسرحياته بُعداً معرفياً مصقولاً بآيدولوجيات المراحل السياسية التي تحركت فيها. ومن جانب آخر تنوعت طرق البناء وتعددت موضوعات طرحها، ما بين السياسي والاجتماعي، والرثاء لحال الوطن وجماعاته الثقافية جراء ممارسات السياسات الشمولية التي شكّلت حاجزاً أعاق قيام الدولة الوطنية وعجزت عن إقامة مشروعات إيواء المشردين، ... إلخ.
سبق هذا المقال طرح قدمته عن خطاب المسرح السوداني، ذكرت فيه منذ بداياته الباكرة حتى اللحظات الحاضرة تفرده بخطابين ثوريين، الأول مناهضٌ للاستعمار، والثاني ناقدٌ لرؤى وتوجهات الحكومات الشمولية. من خلال هذين الخطابين ارتبط تاريخ المسرح بنشوء حركات التحرر الوطنية التي انتظمت في عقود ماضية وما زال صداها يتردد مطالباً بالتحول الديمقراطي ودافعاً أفكار المسرح المعاصر بوعي جديد، ساهم في تزويد جهود المنتج المسرحي بخطاب ثوري.
بدأ الخطاب المسرحي الثاني شاخصاً البصر منذ الستينيات حتى الراهن المعاصر وهو يقدم نصوصاً مسرحية متضمنة مزيجاً من قضايا الطبقات الاجتماعية وتباين مستواها الاجتماعي مع الاهتمام الكبير بالخلفيات السياسية التي أدّت إلى هتك النسيج الاجتماعي ، كما أسست لخطاب الكراهية بسياستها التي لم تستوعب مفهوم التنوع الثقافي وكيفية إدارته.
النصوص المسرحية الواردة في هذا الكتاب دليل بائن ينضم للمنتج المسرحي في بُعديه التاريخي والمعاصر اللذين سادا وما زالا يقدمان الجديد في طرحهما ونقدهما لأنظمة الحكم الشمولي.
تفردت النصوص الثلاثة بالجانب السياسي، حيث قدمته في بناء درامي شاعري؛ نلحظ في مسرحية (حكاية يوم من أعوام الظلام)، مسرحية اجتماعية سياسية من فصل واحد، تدور أحداثها الدرامية في مكان واحد، هو ورشة الحداد (اسمث)، الذي يجسِّد واقع الطبقة العاملة المكافحة من أجل حياة كريمة باحثة عن وطن مصادر، وهو على درجة عالية من الثقافة يناهض النظام الشمولي ويدعو لمحاربته بكافة السبل، ويقدم دعوات تحريضية سرّية تُبث للعلن، فاضحاً فيها سياساته و مستهدفاً سقوطه.
وكما ذكرت آنفاً يحاور (اسمث) صديقه القديم (كالوا) منذ أيام الدراسة، الموالي للنظام الحاكم والمتعاون مع جهاز أمنه القمعي.
تظهر بين ثنايا حوار هاتين الشخصيتين أسماء لشخصيات وطنية اغتيلت عمداً بسبب ثرثرتها عن سياسات القهر، وشخصيات مصلوبة على قارعة الطريق مثل شخصية الفتاة.
تقدّم المسرحية خلال الحوار الدرامي بين الشخصيتين حكايات كثيرة عن الاعتقالات والتعذيب والقتل، ثم سرعان ما يتغير الفعل الدرامي ويكشف عن حياة الجوعى والمتسولين، والمتشردين الذين يملأون شوارع المدينة وهم إحدى الفئات الاجتماعية المهمشة التي يهتم بها (اسمث) في مسيرته النضالية. ينساب الحوار بين الشخصيتين داخل الورشة ويدلي (كالوا) بإفادات لصديقه عن رغد العيش وهناء الحاشية و التابعين للنظام، حتى يغير أفكار صاحبه، وفيما يظل هو عيناً مراقبة للنظام. يرفض (اسمث) هذا الإغراء لأنه هدفه كما يقول :( نحن لا نقرأ لنفهم العالم فحسب، وإنما لامتلاك وجهات نظر لتغييره).
قدمت المسرحية في حيزها المكاني بانوراما عامة لحياة نظام سياسي ظل يمارس سياسات قمعية لدرجة حجبت عن (اسمث) الحداد البوح بآرائه للعلن، لكن أفكار التغيير التي يمتلكها وتمتلكها الشخصيات الأخرى تتسع وتعمّ الأحياء الشعبية وتتوّج بقيام مؤسسة أهلية تقود توجه ثوري ينشئ مرافق خدمية تدعو للاستمرار في نهش جسد النظام.
يتطرق الكاتب في مسرحية (الغراب) إلى أفكار سياسية بمستوى رمزي عالٍ، يقسمه إلى خمس لوحات تتحاور فيها الشخصيات مع الغراب حواراً واقعياً اجتماعياً وسياسياً.
جاءت عناصر البناء الدرامي في المسرحية موجهة نقداً لاذعاً لسلطة باطشة تجزأت مكوناتها داخل متن المسرحية إلى فئتين ، فئة لشخصيات كفيفة ترمز للسلطة والتي لا تتمتع ببصيرة لحلِّ المعضلات الحياتية، أو هي غافلة عن واقع الإنسان، وفئة كفيفة أخرى تدرك ما يحيط بها من مشاكل في ذات الوقت تكون قادرة على توجيه النقد وإرشاد السلطة الحاكمة. أما مدلول الغراب فهو مكمل للفئة الكفيفة المبصرة وداعماً لرؤيتها في نقد السلطة، والسعي لحلول جذرية تخرج أوهام النخب السياسية إلى برِّ الأمان.
اتبع الكاتب في مسرحيته طريقة الكتابة الإخراجية؛ بوضعه لمخطط للمخرج يسير فيه، لأن تعبيرية المسرحية تتطلب هذا الشكل الإخراجي في التأليف. كما يلاحظ في الاستهلال وضع التكوين المسرحي وإرشاداته في رسم الديكور الخاص بالمسرحية وملحقاته، يقسم جغرافية الخشبة إلى يمين ويسار، ورسم مساحات خالية بها مقاعد تستغل في تحديد مكان الشخصيات، هذا النوع من التأليف فرضته طبيعة المكان والهيئة الاجتماعية للشخصيات، بحيث وضع لها مكاناً محدداً تتحرك فيه وتتجادل حول قصايا وطنية بإعلان نضالها أمام عين السلطة تنادي بواقع سياسي جديد.
يواصل الكاتب نقده للنظم الشمولية في مسرحيته (البوت)، وهي مسرحية سياسية من أربعة مشاهد تتغير أحداثها حسب ما تقتضيها مراحل التاريخ السيا سي.
يبتكر الكاتب أسلوباً درامياً مخالفاً لأسلوب المسرحيتين السابقتين؛ فنجده في البوت يوظف تقنية البرامج الإذاعية في تقديم عرض تاريخي و توثيقي للانقلابات العسكرية في السودان بدءاً من انقلاب إسماعيل كبيدة عام 1957م حتى انقلاب البرهان25 أكتوبر 2022م.
تفتح المسرحية حوارها مع الجمهور عبر تقنية البرنامج الإذاعي، وعدد من وسائط الميديا مثل الفيسبوك والتويتر لتخلق علاقة مع المستمع والإدلاء بآرائه عن الانقلابات العسكرية وما قدّمته لصالح الوطن. تركيز المسرحية على هذا الجانب يجعلها وثيقة فنية، فقد رصدت التغيرات السياسية التي اجتاحت الخارطة السياسية في السودان، وهي انقلابات تتشابه إلى حدٍّ بعيد، ولم تنجز مشروعاً وطنياً واحداً، بل أدخلت السودان في تعقيدات هيكلية وخلقت الكثير من الأزمات. لم تكتف المسرحية برصد التحولات السياسية، وذهبت تعدد انتهاكات كل نظام، على سبيل المثال أشارت لانقلاب جعفر نميري، وإعدامه للأستاذس محمود محمد طه، وإعلانه لقوانين العدالة الناجزة (قوانين سبتمبر 1983م). تتوسع ذاكرة المسرحية في عرض انتهاكات انقلاب الجبهة الإسلامة التي مارست القتل والتعذيب والطرد والفصل وتدهور الخدمة المدنية، وفي مشهد مأساوي تشير إلى طريقة القتل الوحشي للطبيب علي فضل وللمعلم محمد الخير.
تقدّم المسرحية بانوراما عامة للانقلابات العسكرية وإعاقتها لبناء الدولة الوطنية، وتكشف مآربها وعبثيتها وفسادها وممارساتها الوحشية تجاه شعبها. تمتد المشاهد الدموية في عرض المزيد من الانتهاكات لحقوق الشعب السوداني بالوقوق على مجذرة القيادة العامة.
في ختام هذا المقال يجدر الإشارة إلى التأليف المتبع في الثلاث مسرحيات، نلاحظ في مسرحية (حكاية يوم من أعوام الظلام) اتبع المؤلف في طرحه للعمل السّري للثورة. وفي مسرحية (الغراب) بدأ الرفض الثوري في العلن وضم فئات محددة من المجتمع، أما في مسرحية (البوت) فقد انفتح الباب على مصراعيه مردداً رفضه للمؤسسة العسكرية الموالية للسلطة الغاشمة.