أصالة التجربة الذاتية في قصائد شريعة النواب

أصالة التجربة الذاتية في قصائد شريعة النواب علي حسين عبيد تتطلب الكتابة عن شعر حسن النواب تنقيباً في المنحى الذاتي الشمولي الذي استثمره في حفر قصائده واستولدها

أصالة التجربة الذاتية في قصائد شريعة النواب

أصالة التجربة الذاتية في قصائد شريعة النواب
                                                                             
علي حسين عبيد  
     

                    
                                                                     
تتطلب الكتابة عن شعر حسن النواب تنقيباً في المنحى الذاتي الشمولي الذي استثمره في حفر قصائده واستولدها من رحم تأريخه العائلي المعفَّر بالبذخ والأمجاد وحاضره العابق بوقائع يومية تغصّ بالجوع والنكد.
ويرى أحد النقاد العرب أن (ثمة أزمة انتماء روحي) عصفت بالشاعر فأسهمت في صياغة وتميّز قصائد (شريعة النواب) عن غيرها، لكنني أرى أن الجانب الأكثر أهمية - الذي أغفله كثيرون- ينحصر بلغة شعرية تشير إلى الشاعر حصراً وبتجربة ذاتية شمولية لها طابع الأصالة والخروج عن النسق المتماثل معا التجارب الأخرى.
إن الشاعر كما يقول – رامبو- يجب أن يصبح (رائياً / وسارق نار) وفي هذا الصدد أذكر وصفاً يتعلق بقصيدة النثر لحسن النواب جاء في جوارٍ أجريَ معه قال فيه (ان قصيدة النثر هي محاولة لرسم الهواء.. أي رسم اللامرئي.) ولذا تبدو لنا قصائده بمثابة (أداة بحث روحي لبلوغ المجهول أو المطلق.*)وهو يؤكد ذلك عندما يقول في قصيدته المطولة – أغواها بعنايته.. فتعطلت أجنحتها- الواردة في  كتابه الشعري موضوع هذا المقال (الشعر ذاكرة وتأريخ متخيل.. تدوين لما هو مستحيل).
ولكن هل يمكن للشعر أن يقدم لنا مدوَّنة مقبولة ووافية عن المستحيل/ المجهول/ المطلق، وإذا تعلق الأمر باليومي المُعاش، فما الذي بوسع الشعر انجازه، وبأية لغة سيتخطى الشاعر ذلك البون الشاسع بين ما هو واضح وملموس وبين ما هو مغلق غامض وخفي أو لا مرئي!!.وقبل الإجابة التي ستأتي في السياق القادم.. ثمة استلهام وظَّفه الشاعر في تدوينه الشعري يمكن حصره بالآتي:
    أولاً: استلهام الإرث الذاتي.                                                                                           
تندرج ضمن هذا التوظيف أهم قصائد شريعة النواب ابتداءً من القصيدة المفتتح ( قصر الخورنق ) ثم تتوالى القصائد التي استلهمت إرث الأجداد الغائب في بطون التأريخ والحاضر بكل بهائه وقسوته وتضارباته في روح الشاعر وقلما تخلو قصائده من سيل شعري أو جملة أو حتى مفردة تنوّه بجانب من جوانب هذا الإرث الذي أثقل كاهل حسن النواب وأبهجه حينا وأدمى قلبه في أحيان، وعندما أقول إن ثمة تفرداً في التجربة الذاتية للشاعر فان ذلك سيتعاضد مع موهبة متدفقة ولغة نافرة ساخطة متأججة تكابد من اجل تمثُّل هذه التجربة التي وزَّعتْ إشاراتها الوافية في عموم المشهد الشعري لشريعة النواب ومن هذه الإشارات ( لكنو/ مدينة في الهند يقطنها المسلمون.. راما/ محارب في الملحمة الهندية رامايانا، ردد اسمه –غاندي- قبل ان يفارق الحياة- 14- مرة وأسلم الروح.. الكنج/ نهر مقدس في الهند…الخ) فالشاعر إذاً ينحدر من عائلة ملكية وثمة بوح شعري متواتر يشير إلى ذلك إذ يقول في قصيدته -إقبال الدولة..عطايا- (هذا إقبال الدولة –جدي- في صفحته الأولى/ اقلبوا ورقاً من جلد الفيلة والثعابين، واقرأوا ..معي في صفحته الاخرى: كانوا ملوكاً / إقبال الدولة/ معين الدولة/ آصف الدولة/ شجاع الدولة… الخ ) وغالبا ما يلقي هذا الإرث الملوكي الباذخ بثقله على واقع حال الشاعر وهو حفيد الملوك الذي (تتنكر له كسرة خبز في الميدان ) كما يرد ذلك في قصيدة - إقبال الدولة - ويظل هذا الحفيد متنقلاً بين أمجاد الأجداد محاولاً استغوار الإرث الغابر بكل خصائصه المتناقضة رِفعةً وتراجعاً (جدي/ الكون يغار من طقس غرائبه/ يقول للبحر، يأمره/ ألفظْ ملح مثانتك للشاطئ / يلفظها مرتبكا، يـلتـقـطـها –غانـدي – ويحيا الإنسان، كان الغيم، والطير، والريح، والشمس، والقمر، البحر، تستأذنه قبل ان تتحرك…الخ/ إقبال الدولة) ويركّـز الشاعر على أمجاد الإرث فيقول في- أغواها بعنايته – (حين عاد جدي على ظهر فيل .. حجمه قرية في الجنوب / تراجع المغول عن شهوة الدم) على أن هذا التفاخر لا يحد من جرأة الشاعر في كشف الجانب الآخر من خصوصية التجربة فيـقول فـي القصيدة نفسها( إرث من هذا الذي تلوكه لباناً أسنان التأريخ / ويقامر بوهمه رعايا السدنة/ ما الذي ظل من عرش الملوك حتى يتهجاه اللسان ) ويخاطب جده الذي ضـيَّع الـملْك - بجنون ما استحى من سلطان - فيقول له (لماذا خيول الغزاة في المدينة/ وأنت في حوض السباحة/ يلهو كرشك بين أسراب الجواري… الخ / إقبال الدولة ). إذاً فالشاعر يمتلك – مثل غيره – رغبة التفاخر بالأمجاد لكن ما لا يمتلكه الغير جرأته في قول ما لا يقال حتى لو تعلق ذلك بشخصه وإرثه الحميد .
    ثانياً: استلهام الواقع اليومي.
يحفل هذا الكتاب الشعري بعدد من القصائد التي اصطدمت بالوقائع اليومية وروضتها بلغة ذكية لاذعة رفعتها من مرتبة – وقائع المفردات اليومية – إلى مصاف الشعر لغةً وأحداثاً.. فالحدث اليومي العابر يمكن أن يتحول بوسائـل الفـن الى مدوَّنة تنحفر في ذاكرة التأريخ الشعري، على أنها تأتـي من صلب التجربة الذاتية للشاعر ووقائعه اليومية التي سرعان ما يلتقطها ويحيلها الى نصوص توازن بين سطوة هذه الوقائع وجفافها المستديم وبين إمكانية التعامل معها وتحمّل ثقلها وتندرج تحت هذه اليافطة قصائد عديدة منها (عروسه منذهلة ونثره يستغيث، جنينها يحبو وبعلها سيزول، مؤونة الخريف، يتملق هلاكه، الهائمون، نقصان، دوّامة منـزلية… وغيرها) لكن التجربة الأعمق والأكثر مرارة هي تلظّي الشاعر بأتون الحروب المتعددة الوجوه بوصفه واحد من أدواتها وضحاياها - أتعرفون لماذا تحبنا الحرب .. لأننا طعامها الوحيد*- واستلهامه لإفرازاتها الآنية والتابعة سواء في رحبة القتال او عند التسكع على خرائط الأرصفة، فلا غرابة أن نقرأ مفردات مثل ( إجازة دورية/ قنـابر/ شواء آدمي /جندي/ رمانة يدوية/ سرفات…الخ) وكلها تدخل في تصميم التركيبات اللغوية لتتحول الى نسق تعبيري يسمو بها من معناها العادي المتدنـي، إلى مرتبة الشعر كما نلاحـظ ذلك في قصيدة – شريعة النواب…مخاوف- :
         ( في هذا المنفى ..
          ما كنت أصدق ان الأفعى تبتلع رمانة يدوية لو لا الجوع..
         ما كنت اصدق ان يمام الحضرة يُقتل في صحن الأمام ..
         ما كنت اصدق ان الشعراء وأنا منهم يجترون حبل الكلام..
        ما كنت اصدق أن سماء ثامنة تحرثها القنابر وتصبح حقل رماد..)
 ومن الملاحظ هنا ان لغة الشاعر وهي تعالج مفردات الواقع ستقع بين حدين متقاطعين، فالوضوح وهو الحد الأول يبدو سمة من سماتها وهذا ما يجعلها تواجه مأزق الانزلاق المحتمل في المباشرة.. لكن الحد الثاني المتـمثل بالجرأة والمغايرة سيتألق بها ويدفع عنها خطر الهبوط الى حافة المتماثل.
     ثالثاً: استلهام الطقوس الدينية.
 يتمتع حسن النواب بحافظة ألمعية متفردة، لها قدرة خـزن ربما تتفوق على غيرها بكثير.. فأتاحت له التنقل من إرث الأجداد الملكي.. إلى وقائع الحرب والحياة.. إلى مطارحة الطقوس الدينية بين حين وآخر وبثّها في متون شعرية على شكل ومضات خاطفة لكنها عميقة مؤثرة وتمتلك صفة الثبات والحضور الدائم.
ففي عدد من قصائد شريعة النواب يستلهم الشاعر رموزاً مستمدة من واقعة الطف فثمة ( السبايا/ والكفوف المقطوعة/ والعطش/ والدم/ والجثث/ والتشابيه.. وغيرها الكثير) كلهـا مفردات ووقـائع تاريخية لها أشكـالها الطقسية التي حُفرت في الذاكرة  عالجـها الشاعر بلغته الـتي لا يقيدها – عرف لغوي – ولا تتحكم بها طبيعة الموضوع المعالَج ولا يفرض عليها الشكل الشعري نمطاً معيناً أو مستهلكاً من الكلمات.. إنها اللغة ( النوّابية ) إذا جاز القول التي ستظل تومئ إليه حصراً ومع ذلك فهو يصرح للآخرين بجرأته المتفق عليها /خلافاً لما ذهبتُ إليه أنا/ ولعلنا نكتشف ذلك من دون عناء حين تسحبنا شريعة النواب إلى متونها فنقرأ في قصيدة – تشابيه – (لا لغة عندي، لا حيلة، لا خديعة، لا دسائس، لا نفائس، لا لسان ) ثم يضيف ( وأعوذ بحورية مسبية من غلواء الشعر وغوايته/ وأصلي لربّة أو تربة بلا فساد). والملاحَظ هنا إن الشاعر يروم الابتعاد عن النبرة السائدة في بناء القصيدة الخاصة بتناول الطقوس الدينية فيقول في القصيدة نفسها ( هالات البرق تدفقت من كوة ديجور بأقصى الغيم/ واهتز خصر الأرض من دم الجوع طرباً / المسبية تقف أمام القصور وتذكِّر ساكنيها.. اخشوشنوا… فإن الترف يزيل النعم). وفي قصيدة طقسية أخرى عنوانها- الجثث – يقول (سبحان الذي نـزَّل جنداً بلون المـاس من زرقة عالية/ يتقدمهم سبع بسبعين جناحاً/ وامرأة.. خدرها يختصر عفاف مملكلة النساء، ودليل عليل …الخ ).
 مما تقدم، حاول حسن النواب بلغة وتجربة خاصتين أن يستنطق التاريخ الشخصي له وربما حاول بذلك أيضا أن يغطي أو يخفف من هفوة الأجداد ويدحر مصدّات الواقع اليومي المـزري الذي عاشه بصفة شاعر حقيقية وبصفة إنسان معذَّب بواقعه اللاّشخصي المجدب وتأريخ الأجداد الملكي الشخصي الذي لم يرث منه سوى كنوز من الهواء لكن إرثـه الحقيقي الذي بدا واضحاً للعيان هو الشعر والشعر فقط ، فبهِ وحسب تمكن النواب من استدراج الكلام إلى عمق الكلام ثم إلى حافة الصمت وكما يقول في إحدى قصائده ( نجسٌ هو الكلام ما لم يشطف بماء الصمت ) ذلك الصمت الذي هو أبلغ وأجلُّ من كل كلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
       هامش:
      * حوار شعري جمع الشعراء حسن النواب وعقيل علي وماجد عدام وكاتب السطور.
      ** قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا /سوزان بيرنار/ترجمة د زهير مجيد/ دار المأمون – بغداد – 1993.
     * من كتاب ضماد ميدان لذاكرة جريحة لحسن النواب.