مَدْخل : ( ها أنت تُراني أتَمَلّى هذي اللوحة في أيامي الجرداء وأُنادمها حين يغيب الندماء افرغ للوحةِ كأساً..أرجوك هذا إجمال القصة )  صلاح عبد الصبور

مَدْخل : ( ها أنت تُراني أتَمَلّى هذي اللوحة في أيامي الجرداء وأُنادمها حين يغيب الندماء افرغ للوحةِ كأساً..أرجوك هذا إجمال القصة )  صلاح عبد الصبور

طُرَّة وَ كِتَابة
مَدْخل :
( ها أنت تُراني
أتَمَلّى هذي اللوحة في أيامي الجرداء
وأُنادمها حين يغيب الندماء
افرغ للوحةِ كأساً..أرجوك
هذا إجمال القصة )  صلاح عبد الصبور

     يبدو الجو غائماً , تحتشد سحبٌ عظيمة بالسماء التي اكتست لوناً
داكناً ...سرعان ما بدأ رذاذ المطر في التساقط ..تتسارع خطى المارّة بشكل متزايد  ورويداً رويداً تتحول إلى شيءٍ أشبه بالهرولة ...تُطلق بعض السيارات المندفعة أبواقها المزعجة وهي تتفادى المارّة مُسرعي الخطى وأُؤلئك المهرولين ...يتقافز المارة من أمام السيارات إلى الأرصفة التي أصابها البلل هروباً إلي فرندات المحال التجارية التي تنتشر على طول ذلك الشارع الأنيق...تتبادلان النظر وأنتما تسيران بذات الوقع من الخطوات ...غير عابئين بتساقط المطر ولا ٍتدافع المارّة وإصطدامهم بكما في أحايين كثيرة ....كنتما تستمتعان بهذا الجو البديع ....متعة ليست كتلك التي يشعر بها أغلب الناس .
       عندما إمتدت يده إلى جهة صدره تيقّنت بأنه قدّر أن الموقف يستدعي التدخين ...عادت اليد ممسكة بصندوق السجائر الرخيص محليّ الصنع...أخرج واحدة أشعلها بيدٍ مرتجفة بفعل البرد وبفعل شيئٍ آخر أنت تعلمه ...أخذ منها نَفَسَاً عميقاً ثم نفث الدخان في الأعلى مُكوِّراً فمه , لينطلق الدخان في الفضاء مختلطاً برذاذ المطر والهواء وأُولئك المهرولين ...عاد إلى وضعه الطبيعي وأخرج سيجارةً أخرى قدّمها إليك ....سِرتما على هذا الحال صامتين متمهلين بِطول ذلك الشارع الأنيق , تتأملان الوجوه وترصدان الحركات , وتندغمان في أصوات الضجيج الذي لا ينقطع. 
       يسير مشواركما الصباحيّ هذا كل يومٍ هكذا ...المكان الوحيد الذي كنتما تتوقفان عنده قبل نقطة النهاية هو محل الملبوسات الجاهزة بذلك الشارع الأنيق ...تقفان هناك أمام الزجاج الشفاف تُحدِّقان في الملبوسات الراقية وتعلمان أنكما لن تتمكنا يوماً من شراء أي واحدٍ منها بالنظر إلى بطاقات الأسعار المُثبتة على كل قطعة ,تمرّان بنظركما سريعاً على كل المعروض ثُمّ تُركّزان بِشِدّة على الدرج العالي الذي تجلس عليه البائعة الصّغيرة....صغيرة كأنها عصفورة, بِشعْرِها المقصوص على هيئةِ شَعْرِ غلام....تُثبّت على وجهها الصغير المستدير نظارّة طبية رقيقة تُعطي المجال لعينيها لِتبرُزا في كامل إتساعهما مع وضوح البياض والسّواد ...تنزل من على الدرج بخفةٍ واضحة ,  تتحرك نحو الأرفف العديدة ...يتبيّن قِصر تنورتها ورداءة الحذاء الذي تنتعله , هَمَسَ إليك بذلك ..تبتسم لقوله لإدراكك مقدرته العالية على تمييز الأشياء الجميلة مع عدم قدرته على إمتلاكها...نظر إليك ثُمّ أردف :
_ قَاتل الله الفقر.
تُرْسل ضحكة مكتومة ...ثُمّ تُخاطبه :
لولا الفقر لَكُنّا الآن بجوف سيارة أجرة ولَفَاتنا كل هذا الجمال , تضحكان سويّاً هذه المرّة ...يُشْعل سيجارته ويُقدّم إليك واحدة ثُمّ تنفلتان وسط الجموع المتقافزة والمهرولة ...وما زالت السماء مُلبدة بالغيوم وما زال المطر يتساقط ولكن بِوَتيرةٍ أقلْ.
     يختلف طريق العودة إلى السكن عن ذلك الشارع الأنيق . كان طريق العودة إختياراً مُهماً تَكْمُن مِنْ ورائه حكمة عميقة حدّثك عنها أول مرة تسلكان هذا الشارع ....كان شارعاً ضيّقاً قذراً تطلّ عليه بنايات قديمة متآكلة الجدران من ناحية ,  ومن الناحية الأخرى يمتدّ سور قديم هو الآخر , ويبدو أن ما وراء السور هو مخزن مكشوف تتكدس فيه مخلفات عديدة , تقوم أمامه العديد من الأكشاك الخشبية الصغيرة , يشغلها باعة الأسماك والدجاج الحي الذي يُذبح أمام عينيك ويتم تجهيزه , كما يشغل بعضها باعة الخضروات من نساء ورجال ....
   يزدحم الشارع بكتلٍ بشرية تغدو وتروح , نساء ورجال وصبيان تختلط أصواتهم بنداءات الباعة التي لا تنقطع , يصعب هنا سماع الأصوات المهموسة أو الضحكات المكتومة , أكثر ما يُميز هذا الشارع هو تلك الرائحة !! مزيج من روائح المعروض من الأشياء والمباني القديمة و مُخلفات المخزن , وأولئك الذين يروحون ويجيئون....ينظر إليك مبتسماً وأنتما تشقّان طريقكما بصعوبة وسط الكتل البشرية التي تروح وتجيء...لم يكنْ يضع يده على منخريه كما تفعل أنت ...يصرخ بإتجاهك :
ألَمْ أقُل لك ؟
تُرسل ضحكة مجلجلة وأنت تُركّز بصرك هناك ناحية كشك السمك باللون الأخضر , كان الرجل متوسط العمر في نفس موقعه اليوميّ...بملابسه القديمة والنظيفة ولحيته المُرسلة وشاربه الكث...
يجلس على ذلك الحجر المرتفع قرب الكشك , يبسط أمام ناظريه تلك الصحيفة القديمة , يتصفحها بيدين مرتعشتين وبسرعة غريبة , يبدأ بالصفحة الأخيرة وصولاً إلى الأولى ثمّ يعود إلى الأخيرة مُجَدداً..
يشعل سيجارة يمتصها امتصاصاً...يُلقيها , ثُمّ يُشعلُ أخرى , وتستمر أياديه المرتعشة في تقليب صفحات الصحيفة ...تقفان غير بعيدٍ عنه , كنتما تقضيان فترة طويلة وأنتما ترقبان هذا الرجل , كنت تُسائل نفسك ما الذي دفعه إلى هذا الحال ؟ ليتك كنت تعلم ما الذي يدور في دواخله !!! يأخذك عالمه هذا إلى رؤى وتصورات عديدة ...تُمسك بيد رفيقك وتتراجعان , ثُمّ تندفعان مع الكتل البشرية العديدة في طريق عودتكما إلى مسكنكما البعيد.
    عندما طَرَق على باب غرفتك في ذلك الصباح الخريفيّ البديع , كنت مستيقظاً غير أنك تعمدت التظاهر بالنوم ... طرقة أخري ثم تسمع صوت صرير أكرة الباب وهي تدور ... ترفع الغطاء متطلعاً ناحية الباب...  تراه واقفاً عند الباب المفتوح مرتدياً ملابسه...ترفع يدك مُلوّحاً ثُمّ تسحب الغطاء على وجهك وتعود إلى وضع النوم ...يعود صوت صرير أكرة الباب مرة أخرى , ويبين بعدها وَقْع خطواته المنتظمة وهي تقطع الصالة نحو الباب الخارجي.
    تقفز من سريرك بنشاط واضح عقب خروجه , تتجه ناحية خزانة الملابس , تُخرج ملابس قديمة ونظيفة ترتديها على عجلٍ ويحتويك الشارع ....لأول مرة تقوم بتغيير البرنامج اليومي , تترك طريق الذهاب لتتجه نحو طريق العودة, تدلف إلى شارع السمك من طرفه الآخر ...تقترب بتوجسٍ كبير من كشك السمك أخضر اللون, تفتش عيناك عن ذلك الركن وذلك الحجر ....كان الحجر خالياً ..تبتسم في داخلك ...تهرع ناحيته ...تجلس عليه ثم تُخرج من جيب بنطالك القديم والنظيف صحيفة قديمة تبسطها أمام عينيك , ومن الجيب الآخر تُخرج صندوق السجائر الرخيص محليّ الصنع ,تُشعل واحدةً ثُمّ تنْكبّ على الصحيفة تُقلبها بدءاً من الصفحة الأخيرة بسرعةٍ واضحة وبيدين مُرتعشتين.!!

                                        محمد صديق محمد أحمد
              الزقازيق صيف 1989 ...دنقلا ... 9 أبريل 2017