قراءة جمالية في رواية الربيع العاصف لعاطف الحاج سعيد

قراءة جمالية في رواية الربيع العاصف لعاطف الحاج سعيد أ.د. عبد الغفار الحسن محمد أستاذ الأدب والنقد بجامعة وادي النيل /كلية المعلمين               تعتبر رواية عاصف يا بحر لكاتبها الدكتور عاطف الحاج من الروايات التي لا تدع القارئ ينفك عنها إلا بعد الفراغ من قراءتها وهذه أولى ملامح جودة العمل الأدبي أيا كان نوعه، أن يأسر القارئ ولا يجعله يمل من قراءته.             وفي هذه العجالة لا نود استقصاء هذه الرواية تحليلا وتقويما بقدر ما نود أن نشير إليها من خلال بعض النقاط المتعلقة بالشكل الفني والرؤية السردية.

قراءة جمالية في رواية الربيع العاصف لعاطف الحاج سعيد

قراءة جمالية في رواية الربيع العاصف لعاطف الحاج سعيد
أ.د. عبد الغفار الحسن محمد أستاذ الأدب والنقد بجامعة وادي النيل /كلية المعلمين

 

 

 

 


              تعتبر رواية عاصف يا بحر لكاتبها الدكتور عاطف الحاج من الروايات التي لا تدع القارئ ينفك عنها إلا بعد الفراغ من قراءتها وهذه أولى ملامح جودة العمل الأدبي أيا كان نوعه، أن يأسر القارئ ولا يجعله يمل من قراءته.
            وفي هذه العجالة لا نود استقصاء هذه الرواية تحليلا وتقويما بقدر ما نود أن نشير إليها من خلال بعض النقاط المتعلقة بالشكل الفني والرؤية السردية.
ولنقف أولا عند العنوان باعتباره مفتاحا مهما للولج لعالم الرواية. هذا العنوان الذي يشير مباشرة إلى قسوة الطبيعة متمثلة في البحر المنادى بياء النداء التي تدل على البعيد لا القريب فالبحر لا صديق له. ووصفه بأنه عاصف، وما أقسى البحر عندما يكون عاصفا، وهي الحالة التي يتجلى فيها عجز الإنسان وضعفه وقلة حيلته وقد تكون من الحالات التي لا بد للإنسان فيها من أن يلجأ إلى الله لينقذه من قسوة هذا البحر الجبار، الكل يدعو الله على مختلف معتقداتهم وطوائفهم ومذاهبهم الدينية.

 

 

 


          ولعل كلمة عاصف نفسها من الكلمات التي وردت في النص القرآني في وصف البحر عندما يقسو على راكبيه وعندما تأتي الريح العاصف التي تحول هدوء البحر إلى جنون يفقد معه الإنسان الأمل في النجاة مجرد النجاة لبر الأمان أيا كان هذا البر قال تعالى: "حتى إذا ركبوا في الفلك وجرين بهم بريح طيبة جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا لنكونن من الشاكرين"
      ولعل الآيات القرآنية التي أشارت إلى البحر العاصف وضعف الإنسان وصدقه مع الله في تلك اللحظة التي تعصف الأمواج به داخل البحر، حيث يتعرى الإنسان من قوته ومن آماله وطموحاته ويأتيه اليقين في تلك اللحظات أن امر هذا الكون بيد الله وحده وهو الذي يصرفه كيف يشاء. ولكنه عندما ينجو ينسى ذلك كله ويرجع إلى ضلاله القديم.
       ويشير العنوان بصورة جليه من ناحية أخرى إلى روح المغامرة التي يتحلى بها الإنسان متمثلا في بطل الرواية (عاصف) هذا الإنسان إذا ضاقت عليه الحياة وشعر بالضيق فقرر الهرب. والإنسان لا يفكر في الهرب والمغامرة في مغادرة موطنه إن كان يحس في بلده بأنه عزيز موفور الكرامة والحرية، وان قهر الإنسان لأخيه الإنسان هو مدعاة لأن يهرب الإنسان ممنيا نفسه بحياة أفضل سمع بها خلف البحر.

 

 

 


  ثم إذا تجاوزنا العنوان والإهداء للعتبة النصية الأولى بعده فآننا نجدها نصا شعريا مترجما(ص7) يمثل استباقا يكشف عن قضية هذه الرواية وفلكها الذي تدور حوله وهي قصة الإنسان المقهور المطرود، فالإنسان لا يغادر وطنه إلا إن كان مجبرا على ذلك سياسيا أو اقتصاديا أو دينيا ولكنه لا يهجر بلده لمجرد النزهة والرفاهية. فهذه وإن كانت مما يحبه الإنسان إلا أنها ليست سببا كافيا للهجرة.
     لا أحد يرحل عن وطنه
     إلا إذا طرده الوطن للشاطئ
     إلا إذا طلب منك الوطن
     أن تسرع ساقيك
     أن تترك ملابسك وراءك
    أن تزحف عبر الصحراء
    تخوض المحيطات
    تغرق
    تسلم
    تكون جوعا
    توسّل
    انس الكرامة
   ما يهم هو أن تبقى حيا
              فدافع الهجرة إذن يكون صعوبة العيش بكرامة وحرية وأمان، داخل أسوار الوطن. فإذا فقد الإنسان أيا من هذه الثلاثة عوامل (الكرامة، الحرية، الأمن) يلجأ إلى الهرب بنية ان يعود مرة أخرى متى ما تغيرت الظروف وانتفت دوافع هجرته.
           إذن فقضية الهجرة غير الشرعية التي يلجا إليها الشباب الأفريقي من السودان وأريتريا ومالي...إلخ، وبعض من الشعوب العربية التي تعاني من ويلات الحروب الأهلية كالشعب السوري، فهؤلاء كلهم عندما يفكرون في الهجرة يفكرون من منطلق النجاة بأنفسهم من جحيم واقعهم في أوطانهم، وليس هدفهم الأصيل البحث عن رفاهية ومتعة متوهمة في الحياة بوطن بديل في أوربا.
الرؤية السردية:
          استطاع الكاتب عبر استخدام ضمير المتكلم (السرد الشخصي) أن يترك بطل القصة عاصف لعبر عن كل الحكاية وما تتضمنه من آراء، ولا نلحظ أي تدخل من قبل الكاتب فالراوي يعبر بمعرفة عن كل شيء بضمير المتكلم او بالضمير (نا) أو قد يحكي قصة شخصية ما بضمير الغائب ومن ثم فالرؤية السردية يتحكم فيها الراوي الذي يتساوى في هذا النص من الكاتب أو المؤلف الذي لم يطل علينا أبدا من خلال هذا النص حتى نهايته.
         فهذا الراوي الذي يحكي بضمير المتكلم وضمير الجمع في بعض الأحيان هو كلي المعرفة ولا يحتاج لتدخل الكاتب وهنا لا بد للإشارة إلى ضرورة الانتباه للتفريق بين الراوي والكاتب. ولعل استخدام ضمير المتكلم من قبل الراوي قلل من تعدد الأصوات في هذه الرواية. وضمير المتكلم هو الأنسب في السير الذاتية حيث يفسح الكاتب المجال للراوي ويعطيه كامل الحرية في رواية قصته ومغامرته، وهنا قد تكون معرفة الراوي تساوي معرفة الكاتب إذ ان الراوي يتحدث عن أحداث شاهدها هو، أو مواقف اتخذها هو بنفسه. 
            ومن ثم فالراوي يعبر عن رؤيته التي هي بالضرورة تمثل وجهة نظر الكاتب في نهاية الأمر فالراوي هنا يحكي لنا قصته ومعه آخرون حاولوا الهجرة عن اوطانهم بعد ان اضطروا اضطرا لمغادرتها وبعد ان تنازلوا عن أشياء عزيزة لديهم، فـ"عاصف" يتنازل عن كليته لتجار الأعضاء البشرية ليوفر ثم الرحلة. وحميدو الاريتري يتنازل عن مبادئه الدينية ويمارس العمل الفاضح من اجل ان يصل بسلام لوجهته، وباسل الرجل العجوز يرضى أن يعمل حارسا في أحد أوكار المهربين للبشر من أجل أن ينجو هو ذات يوم. والمرأة السورية تفقد شرفها وتغتصب عنوة كل ليلة وهي في انتظار الرحلة.
          وهكذا فالكل مقهور مجبور وليس هناك من كانت ظروفه مستقرة ورائعة وآمنة، ولكنه يفضل الهجرة بهذا الأسلوب حبا في المغامرة، أو حبا في الغرب وحياة الرفاهية المرجوة، فالكل مكرهون لا أبطال.
           ثم إن الراوي عادة ما يعبر عن الجماعة بالضمير (نا) ليدل على أنه ليس وحده الذي لفظه وطنه، فهذا التنوع في جنسيات المهاجرين يدل على ازمة كبيرة تعاني منها اوطاننا الأفريقية وبعض العربية. وذلك تتنوع أسبابه أيضا ولكنها في اغلب الأحوال آما هربا من الدكتاتوريات الحاكمة أو بسبب الحروب الأهلية أو غير ذلك.

أما أهم التقنيات السردية البارزة في هذه الرواية فتتمثل في:
تقطيع السرد: 
               ومن التقنيات الحداثية الجديدة التي تدل على تحولات الخطاب الروائي في الرواية السودانية مواكبة للرواية العالمية في سماتها التقنية الجديدة. حيث يبدأ الراوي حكاية، ثم ينتقل إلى حكاية أخرى قاطعا للسرد حول الحكاية الأولى ثم يعود للحكاية الأولى ليستكمل جزءا منها ولكنه لا يلبث أن ينتقل لتكملة جزئية ثانية من الحكاية الثانية، وهكذا تتعاور السرد حكايتان أو أكثر، يسير السرد حولهما بطريقة متجاورة ومتوازية، حتى أنك لا تشعر من الوهلة الأولى بالرابط أو العلاقة بين هاتين الحكايتين، ولكن ما أن يتقدم السرد حتى تبدأ الحكايتان في التقاطع.
تكسير خطية الزمن: 
              يتبع تقطيع السرد وعدم ترتيب الحكايات سببيا عدم ترتيبها تاريخيا أيضا فهذه الرواية بدأت احداثها بهذه الحكاية "تسللنا عبر المنحدر الصخري، الظلام متكاثفا لدرجة أنك لا ترى أبعد من أرنبة أنفك..."(الرواية ص9) يصور رحلة القافلة التي يقودها المهربون نحو البحر لكي يهربوا عبره إلى أوربا. وهذا الحدث تاريخيا يمثل نهايات الرواية ولكنه سرديا تقدم على أحداث كثيرة متعلقة بسيرة البطل وحياته منذ الطفولة وحتى مرحلة اتخاذ قراره بالهجرة لأروبا.  
                  ولكن منذ هذه اللحظة لا تسير الاحداث بطريقة تصاعدية مرتبة ترتيبا تاريخيا وإنما يلغي الكاتب هذا الترتيب ليعود بنا عبر الراوي إلى حياته وهو يعمل صحفيا وتعرفه على صفاء التي جاءت متدربة بالصحيفة نفسها، ولعل صوتها استدعى عنده ذكريات قديمة منذ أيام الطفولة، فيسرد لنا حكايته مع جارتهم نعمات وعلاقته المبكرة بهذه المرأة والتي ارتبطت بذكريات جنسية في عمر الطفولة بالنسبة له والفضيحة التي تعرضت لها هذه المرأة بعد أن كشفتها جدة الراوي عاصف وكانت سببا في طردها من الحي وخروجها من حياته.
ولعل الصدفة وحدها من جعلت صفاء أن تكون هي بالذات ابنة هذه المرأة التي غازلته وداعبته وهو طفل لم يتجاوز العاشرة حينها. وهكذا تسير الرواية خارقة الزمن بصورة عكسية تجلت فيه الأحداث من الأحدث للأقدم، وقد يقفز ليذكر حدثا جديدا ثم يرتد ليفصل حكاية سبقته بعشرات السنين وهذه التقنية أيضا من مميزات الرواية الحديثة التي فارقت طرائق السرد المحكم التقليدي.
         لعل من التقنيات المهمة لتقطيع السرد وتكسير خطية الزمن استخدام تقنيتي الاستباق والاسترجاع وقد نجح الكاتب في توظيفهما بشكل جيد.
حول شخصية البطل الراوي:
                يبدو لي أن سيرة الراوي عاصف سيرة عادية يشترك فيها شباب كثيرون يدرسون ثم يبحثون عن وظيفة  ويعملون ...وهكذا تسير الحياة عند معظم الشباب وقد يكون سيرها دون الطموح ، ولكن التعقيدات التي صاحبت حياة عاصف المهنية في معظمها ليست تعقيدات عامة يشاركه فيها الكثيرون كالتي ترتبط بالفكر أو السياسة او الدين او الطائفة او العرق، بقدر ما هي مشكلات نتجت عن انحرافات في سلوكه وسلوك صفاء بلغت ذروتها عند إقامتهما علاقة جنسية خارج إطار مؤسسة الزواج وفي مكان عام يضج بالصحافة والكاميرات والترقب في يوم مشهود يقف فيه الجميع على اطراف اناملهم ليسمعوا ماذا سيقول الزعيم ليخرج بالوطن من وهدته السياسية والاقتصادية.
              وكان نتاج هذه العلاقة العرضية أن حبلت صفاء مما دفعه لأن يسعي للزواج منها ومن ثم الذهاب لأسرتها لطلب يدها بصورة شرعية، وعندما ذهب تكون المفاجأة ان والدة صفاء ما هي إلا نعمات تلك المرأة التي غازلته وهو طفل، فترفضه بشدة وتقلق الباب أمامه لتتحول صفاء بعد ذلك على امرأة جريئة وعاهر تتحدى بجرأتها الجميع وتتجاوز "عاصف" وتفعل ما يستفزه مما جعل حياته جحيما. 
             وكانت حادثته مع صفاء سببا في عدم قدرته على مواجهة جهاز الأمن الذي استدعاه بسبب تقرير أو تحقيق صحفي أعده حول الاتجار بالبشر بطريقة لم يقبلها الجهاز واعتبرها تؤثر على الأمن القومي. وكان لعاصف أن يدافع عن نفسه بالمستندات التي يملكها، والتي بموجبها كتب تقريره الصحفي، ولكن ضابط الأمن استطاع أن يبتزه ويساومه؛ بسبب تلك الفضيحة، وانه إن لم يتعاون معه سيفضحه بتلك الفعلة في حمامات القاعة الفخمة مع صفاء في ذلك اليوم المشهود.
           وكون البطل عاصف يوافق ان أن يصبح مصدرا لجهاز الأمن يشي بزملائه فهذا فوق احتماله وعليه ان يهرب عن هذا البلد قبل ان يصبح ضحية لابتزاز هذا الضابط، فكان ذلك سببا مباشرا لهجرته.
         ولعل الراوي بإدخاله لحادثة التحقيق معه من قبل جهاز الأمن ليكون ذلك دافعا سياسيا لهجرته مشيرا إلى رؤيته الخاصة حول حالة الإحباط التي اصابته بعد خطاب الزعيم في إشارة لخطاب الوثبة الشهير للرئيس السابق عمر البشير، وحالة الانسداد التي شعر بها الشباب وكانت سببا لهجرة الكثيرين.
على العموم أعتقد أن دوافع الهجرة عند رفاق عاصف كلها مبررة بشكل قوي ومرتبطة بحالات إنسانية أو سياسية شديدة التعقيد، أما عاصف فلم يستطع أن يبرر لنا خطوة أن يبيع كليته لكي يوفر ثم مغامرته هذه.

اللغة والأسلوب: 
أما من حيث اللغة والأسلوب فقد اتكأ الكاتب على لغة سردية بسيطة ولكنها فصيحو وسليمة في مجملها لا تخلو من بعض الأخطاء النحوية والإملائية البسيطة والتي لا تقلل من شأنها، كما أنها لغة وصفية استطاعت توصيف الشخصيات وأحوالها ووصف الأمكنة بصورة تخلو من الاستطراد والحشو والوقفات المشهدية المطولة. مما يجعلها لغة فنية مناسبة لهذه الرواية المكثفة والتي حافظ فيها الكاتب على الفصحى وقل فيها استخدام العامية كما قل فيها استخدام جمل بلغات أخرى غير العربية.
خاتمة: 
          نستطيع أن نقول في خاتمة حديثنا عن هذه الرواية التي جاءت كباكورة لإنتاج الكاتب الدكتور عاطف الحاج دالة على وعيه النقدي ومتابعته لتطور النظرية السردية؛ لتجي هذه الرواية متسقة مع القيم الفنية للرواية الجديدة. لعل جودة الأداء والأسلوب الفني في كتابة الرواية هو جوهر تقييمها الفني، إذ أن جودة الحكاية نفسها أو قيمتها لا تعني شيئا إلا إذا كان الأداء الفني والجمالي جيدا، وهذا ما جعل هذه التجربة تلفت أنظار القراء والنقاد لها، وتكتسب مكانتها، التي دفعت بالكاتب للمواصلة في مشروعه السردي في روايته الثانية "ربيع وشتاء" ونتمنى للكاتب كل التوفيق والنجاح في مشروعه السردي الحداثي.