السجين

السجين قصة قصيرة الفاتح ميكا ........................ (إني أوجس خيفة من ثلاث جرائد أكثر مما أوجس من مائة مقاتل..)

السجين

السجين
قصة قصيرة
الفاتح ميكا

........................

 

 


(إني أوجس خيفة من ثلاث جرائد أكثر مما أوجس من مائة مقاتل..)
نابليون
من كثرة ما اعتقلوه أصبحت تفتقده القضبان...
ويسأل عنه قدامى المساجين بلهفة.. فوجوده خارج السجن يعد طارئا استثنائيا يثير الدهشة....!
يقف على عتبة الحرية الهشة......
طالت سنوات سجنه واورثته المرض.. والوهن.. والهرم.. ولكنها لم تجسر على تفتيت عزيمته التي تتجدد خلاياها بصورة تثير الرعب في قلوب من حوله.. إ
رطوبة السجن استهلكت عمره.. ماتت أمه وهو داخل السجن.. مات ابوه وهو يساق بالركلات والهراوات للسجن.. ومات الاعزاء وكان يبكيهم وحده في وحشة وغربة سوداء قاحلة... ومن شدة ما تعرض للظلم والإهانة والضرب فقد جسده النحيل الاحساس بالعذاب والألم... مما يجعل عقابه مضاعفا.....
لا شيء يجعل السجان أكثر شراسة   وضراوة من الصمت والصمود.......
لا بد للجسد العنيد أن يتوجع.. ويئن.. وتكسوه الجراح حتى تنطلق الصرخات بكل لغات الجحيم والقهر والامتهان.... وحتى تشرق الشمس السادية في وجه السجان المتحفز دائماً كالنسر الجائع للانقضاض.. وحتى ينال رضاء من زجوه في السجن...
___
عندما تزامنت صرخات الكتاب من داخل وخارج الوطن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان قذفوا في وجهه بحغنة من الحرية الصغيرة الشاحبة...
خرج لتوه من السجن ومازالت عتمة السجن في عينيه......
وكان النهار بلون الغبار......
وهو يمشي متعثرا ويحمل حفنة حرية متغضنة محدود الصلاحية........
أيام عجاف مرت عليه وهو يفشل في التأقلم على ما أصاب المدينة من تناقض.. لقد تغيرت ملامحها.. وهويتها...زلزال التناقض ضرب جذور المدينة.. تحول الأغنياء إلى فقراء... والفقراء إلى أغنياء.... وحغاة وعراة الأمس يتطاولون في البنيان...... والكثير من أصحاب المبادئ تم تدجينهم والقليلون القابضون على الجمر منهم من قضى نحبه منفيا ومنهم من يحتضر. وتناثر المواطنون في مختلف دول العالم...
الدهشة تتسع في حدقتيه المتورمتين وهو يقرأ تاريخ المدينة الجديد..........
كان يجاهر بالسؤال.. هل تم استيراد مدينة جديدة وفقا لمعايير الحداثة.. والعولمة.. والأنظمة القمعية............
عيناه الشاحبتان تختلجان.......
يمد بصره إلى الشوارع والمحلات التجارية التي حملت أسماء مدن أصحابها الوافدين....
انه الانفتاح........
كان الضجيج من حوله يعلو وكان في وسط المدينة أشبه بفأر وحيد في غابة شاسعة من القطط الجائعة....
حاصره التعب والم في رئتيه.. شفتاه مزرقتان من كثرة امتصاص السجائر الرخيص.. تسمع شخيره وهو مطبق الشفتين زائغ البصر.. يسعل بصوت متحشرج والسخط يتدافر إلى وجهه.......
وقع بصره على احد معارفه القدامى وكان أكثرهم سذاجه وغيبوبة
وصاح عند رؤيته متهلالا..
اين كنت...........؟!
هل كنت مغتربا؟
وعندما جف صخب السؤال الساذج... رد موجرا
لا...... كنت في السجن....
وانفض سريعا من حوله كأنه مجذوم!!!!!
تدفقت عليه الحرارة من السماء وراح يقلب شفتيه هلعا... وفي اللحظة التقط بصره شحاذا على ناصية الشارع يستجدي الماره...... فغر فاه وهو ينظر للشحاد الذي أكله الزمن وبلغ به العمر ارزله.. هذا الوجه المنحوت من الحزن يعرفه.....!!. اجل يعرفه...! تهدجت ذاكرته المتعبة... وتبعثرت الايام يسرة ويَمنه... انه صديقه الشاعر الكبير...................!!!!!
لقد أصبح هريلا وتحول إلى مرثيه تجوب الطرقات من أجل لقمة خبز. !!
وبرغم شحوبه واندثار وسامته بدأت قسماته تفيض بجذوة الشعر الاصيل.......
وعندما تلاقت نظراتهما...............
وعرف كل منهما الآخر..
حجبت عنه الرؤية فتاة ذات جسد عارم وله رنين! جسد يتوثب للانصهار وتحيط بتقاطيع وجهها المساحيق حتى فقد لونه الحقيقي..! متبرجة تبرج الجاهليه الأولى..... ولا يدري تحديدا هل هي بيضاء ام سوداء؟!
نظر في داخل عينيها فوجد فيهما سغورا تجاريا..... وكانتا تلمعان بسطوة النساء الفاجرات....!!!
قذفت بنظراتها المجانة إليه.......
أطالت التحديق الملتهب...
وارسلت شفرة النداء المتهتك......
ووقفت أمامه لبرهة تتفرسه...........
وعندما عجزت عن اختراقه.......... انصرفت محملة بالخيبة باحثة عن هلاكها في مكان آخر...!
وكان الشاعر الكبير قد اختفى في زحمة الشارع...!!!
انتابه الوجد القديم للفتاة الوحيدة التي أحبها في حياته..........
نعمات محمود.......... مازال وجهها الجميل محغورا في ذاكرته. وشعرها الطويل جدا على كتفيها ( حوريه)..هاجت في أعماقه رغبة إنسانية وظلت تتقد. وتتقد. حتى أكلت بعضها وتحولت إلى رماد......!
هكذا شأن الحياة تتبدد في حلقات متواصله
اللحظة الراهنة حاضر يتدحرج للماضي..........
لا أحد يستطيع أن يوقف جريان الزمن...
نعمات.............. تزوجها رجل آخر وظلت ماضيا وحاضرا متيبسا في عقله كلما يهيج به الوجد تبرز صوتها وحدها أمامه...........
لم يتح له الاعتقال المستمر فرصة ان يسترد أنفاسه كإنسان ويكمل نصف دينه....! اغمض عينيه حتى لا تفضحه دموعه وهو يتنقل في المدينة.. وأدرك انه صار هرما لا يقوى على جلب امرأة تشاطره ذبوله..... ولا يقوى على تلبية النداء الإنساني..!
لقد دمروا شبابه.. ونضارته.. واحلامه.. وذكرياته.. وقذفوا به في خضم الحياه كعلبة فارغة.!!
____
كان المساء غائما......
والزمن بدأ يغرق تدريجيا في نعومة الليل.. قادته قدماه المنهكتان بلا وعي إلى النهر وتداعي على الرصيف.. وادهشه اضمحلال النهر..!  أين ذهب النهر..؟؟. لقد انحسر حتى أوشك أن يكون مجرد مجرى.!!
جلس على الرصيف مذهولا........
اخرج ورقة وقلما من جيبه.....
ولم ينتبه لوقع الأقدام الثقيلة وهي تقترب منه... رفع عينيه الذابلتين.... عرفهم......!!!!!!!
أبتسم......!!!!!
وتحت حراسة مشددة اقتادوه من جديد الى مقره الدائم وكان أشبه ما يكون بلعبة في يد طفل نزق يمارس تحطيمها ضاحكا................!
لم يدهش من اعتقاله..
بقدر ما كانت دهشته بأن الورقة التي كانت أمامه وتمت مصادرتها بغلطة.............
كانت بيضاء من غير سوء.........!!
فأطلق ضحكة مجلجلة.....
وكان الليل منهمكا في هبوطه على المدينة ببطء.. والقمر على وشك البزوغ
الفاتح ميكا.. السودان
من مجموعني القصصية.. امرأه مثيرة للشفقة