نجوى و الذئب..
نجوى و الذئب.. اسيا رحاحلية.. الجزائر مشهد أوّل... الطبيبة صديقة عزيزة لخالتي. كانتا معا في الجامعة.
نجوى و الذئب..
اسيا رحاحلية.. الجزائر
مشهد أوّل...
الطبيبة صديقة عزيزة لخالتي. كانتا معا في الجامعة.
اتّصلتُ بها بالهاتف. أخبرتها بما حصل، من بين أنفاسي المتلاحقة ودموعي التي لم أستطع كبحها. على نجوى أن تخضع للفحص، حالاً. يجب التأكّد من حجم الكارثة أولا..ثم نفكّر فيما يمكن فعله. هدّأت الطبيبة من روعي. سألتني لمّ لم نتقدّم بشكوى. في الواقع، لم نفكّر في ذلك ثم كيف يمكن التعرّف على ذئب بين قطيع من الذئاب ؟
كلّهم نفس الصورة..ربطات عنق حريرية و أحذية ملمّعة و ابتسامات بريئة..
العيادة على بعد أميال من الحيّ الجامعي. ولجنا من الباب الخلفي كما طلبت منا.
لم تسمح الطبيبة لي بالدخول. أشارت بيدها أن أبقى مكانك. لكنها تبسّمت متعاطفة قبل أن تتّجه إلى غرفة الفحص وهي تمسك بذراع نجوى التي كأنّما لم تكن تمشي بل تزحف ببطء مثل حيوان جريح.
أُغلق الباب في وجهي فتخطّفني الظنون، وفي رأسي تقافزت ألف علامة استفهام.
انتبذت كرسيا قرب النافذة وتقوقعت أنتظر..الانتظار أبشع وجهٍ للموت. يا الهي. لا. أرجوك. لا تسمح بذلك! احتضنت جسدي بذراعي المرتجفتين. شعرت بالصقيع يسري في عروقي. لم تكن الغرفة باردة. هي برودة الخوف. أكيد. قدمي اليمنى تضرب الأرض بحركات لا إرادية، سريعة، متواصلة.
ماذا لو..؟ أخبّئ رأسي بين كفّي ثم أرفعه وأشيح بوجهي نحو اللاشيء..
لا.. لا..مستحيل..يا الهي. نجوى لا تستحق. ليست من ذلك النوع. ستموت لو..ستنتحر...أرفض التفكير في ذلك.
أحملق في الشارع من خلف النافذة... لماذا هي الحياة بهذه البشاعة؟ لماذا يصرّ البشر على جعلها صعبة ومرّة وقذرة؟
لماذا يصرّ الذئاب على جعلنا نكفر بوجود الأيائل والأرانب والفَراش؟
أدقّق في زحام المارة..من بعيد.. ترى من منهم الذئب لو تسقط الآن كل الأقنعة ؟ من يترصّد ذات الرّداء الأحمر ويتحيّن الفرصة لتصيّد البراءة..؟
ما عدت أومن البراءة.. كرهتها.. للبراءة مرادفٌ واحدٌ فقط. هو البَلَه !.
يا الهي.. ما أقسى أن يذبحك إيمانك وتصبح الثقة سكّينا يحزّ رقبة عمرك. ليس هناك حماقة أكبر من الثقة، وهي خطيئة في حق نفسك أن تتوقّع الخير والجمال في عالم تسكنه الغيلان وتجوس في أزقّته العقارب والثعابين..
الحياة لا تحمي المغفّلين يا نجوى يا صديقتي..
هل تذكرين حديثنا؟ حاولت دائما إقناعك بأن تتوقّعي الشّر قبل الخير، في كل البشر..و دائما. كنت تقولين.. لا..الشر دخيل، ليس أصلا في الإنسان، الخير فهو الفطرة فينا..
تفلسفٌ فارغ..لا أدري بمَ نفعك الآن !
نظرت في ساعتي. وقفت. جلست. وقفت مرّة أخرى. ذرعتُ الغرفة الضيّقة جيئة وذهابا. يا رب..اعمل على أن ينتهي هذا الكابوس. نجوى.. لم فعلتِ ذلك؟ كيف اندفعتِ؟ لم يحصل أن تصرّفت إحدانا بطيش. أين كان عقلك حين خطوت داخل شقّته؟ ثلاث سنوات انقضت ونحن هنا في هذه المدينة المجنونة، المدينة الصاخبة القاسية التي لا تمدّ يدها لمن يسقط، بل ما أن تتعثّر حتى تدوسك بأقدامها ليتعفّر رأسك في الطين. لم يبق سوى فصلين دراسيين ونغادر، إلى قريتنا الهادئة وأهالينا الطيبين. وها أنت ترين... خطوة صغيرة في الاتجاه الخطأ ويكون الانزلاق.
وحين ننزلق علينا أن نتوقّع السقوط!
فتحتُ النافذة. سرت في أوصالي رعشة خفيفة. هناك في آخر الشارع محطة للحافلات.
تقزّزت وانتابتني رغبة في التقيؤ.
كم كرهت المحطّات! لم تكن أمي توصيني حين أغادر إلى الجامعة سوى بالحذر من ذئاب المحطة..
"كوني يقظة.. افتحي عينيك جيّدا حين تصلين المحطة "..تقول لي.
عالم غريب حقا هي المحطة.. نقطة البدايات أو النهايات.. ومجسّمٌ صغير للدنيا الكبيرة..فيه من كل الأصناف.. المجانين. المدمنون. اللّصوص. الشحّاذين. المحترمون. المتشردون. الفارّون من دنيا ما. القاصدون دنيا ما. أصحاب السّوابق أو اللواحق. السعداء. البؤساء. رجل غاضب. امرأة تعرض مفاتنها. صبية يتصيّدون الجيوب.
والملفت للنظر أنّ الكل يحمل شيئا..كلّهم.. جريدة. سيجارة. حقيبة. قفّة. حقدا دفينا. سرّا رهيبا. همّا تنوء به الجبال. خطّة شيطانية لجريمة ما.
المحطة.. مرفأ الانتظار... مجمع الأقدام والأقدار وملتقى الأحلام و... الكوابيس.
مر دهرٌ من القلق قبل أن يُفتح باب الغرفة. ظهرت الطبيبة أولا ومن خلفها نجوى.
ربّاه..هل الطبيبة مبتسمة أم أنّي واهمة؟
على وجه نجوى تمدّدت معاني الخلاص.
ردّد صوت في صدري.. شكرا لك يا الله !
تركنا العيادة. في الخارج، أمسكت بيد نجوى. ضغطت عليها برفق. ثم نظرت إلى السماء. تنفّست عميقا و ملأت رئتي بالهواء.
ما قبل الأوّل....
توقّف بمحاذاتها تماما.
- تفضّلي آنسة. سوف أوصلك حيث تريدين.
ليس شابا مستهترا من الذين يستعرضون مركباتهم وقمصانهم المستوردة المفتوحة على صدورهم المشعّرة، بل رجلا محترم المظهر، في العقد الخامس من العمر، يضع نظّارات طبية، أنيق لدرجة تلفت الأنظار..بذلة سوداء وربطة عنق من حرير، وبياض الوقار منتشر على صدغيه.
نبرته رزينة، وعلى وجهه أمارات النبل.
رأت من اللباقة أن ترد عليه، لم يكن يعاكس بتلك العبارات التي تلاحقها في كل مكان..
- لا. شكرا. سأنتظر سيارة أجرة.
- سيارات الأجرة في إضراب آنستي. ولو كانت وجهتك الجامعة فأنا معيد في كلية الحقوق وعندي اجتماع هناك بعد لحظات.
ما العمل الآن؟ تقلّب نظرها يمنة ويسرة. تتمكّن منها الحيرة..
تبا لهؤلاء السائقين! تبّا لبلد لا يتقن سوى لغة الإضرابات.
لا يمكن أن تنتظر أكثر. موعد المحاضرة بعد دقائق. المحطة شبه خالية هذا الصباح، على غير العادة.
تغلق باب السيارة في حذر وتجلس، متردّدة، خجلة، ولكنّه غاية في اللطف.. في الطريق يحدّثها عن متاعب التدريس ومشاكل الطلبة.. يستفسر منها عن دراستها ومشاريعها ثم قبل أن ينحرف إلى طريق الجامعة يستسمحها المرور ببيته ليأخذ ملفّا مهما نسيه هناك..ويصطحبان أخته التي تدرس في نفس كلّيتها.
-لا يمكن أن تبقي في السيارة آنستي. تعالي أعرّفك بأختي وتساعداني في حمل بعض الكتب إلى الكلية.
نعم. و ماذا في ذلك..يا الله ! كم هو لطيف و مؤدّب !
يدلفان إلى الشقّة..مرتّبة وجميلة..رواقٌ طويلٌ واسع يؤدي إلى غرفة ذات باب عريض..
بقيت واقفة في انتظار أن تظهر أخته ولكنها وحدها... معه. لا أثر لأحد.
جرت نحو الباب، وقد انتبهت إلى المصيدة التي وقعت فيها.
الباب موصد..بإحكام.
-تعالي هنا... لن أؤذيك. لا تخافي. سنقضي وقتا ممتعا معا ثم أوصلك إلى الجامعة..
يشدّها من ذراعها.. يجذبها داخل الغرفة.. تحدّق في سحنته..و قد تسابقت الدموع إلى عينيها..لا أثر لذلك الرجل المحترم الذي كأنه منذ لحظات.. وجهه محتقن، عيناه تلمعان بوميض غريب، مخيف، العروق في ظاهر يديه متصلّبة كأنّ الدّماء ستتفجّر منها.
تكاد نجوى أن تفقد صوابها من الخوف...تقلّب عينيها في الشقّة..تتوسّل إليه أن يرحمها و يتركها تمضي.
"أين أنا ؟ أين العالم؟ أين الناس؟ لماذا لا يطرق أحدهم الباب الآن أو تفتح النوافذ؟..نعم. النافذة. سأفتحها وأصرخ، بـأعلى صوتي، لا تهم الفضيحة، المهم أن أنقذ نفسي... الآن."
تجري نحو النافذة، لكنه أسرع منها. لفّها من الخلف.. بقوّة.. مدّ ذراعيه الطويلتين وأحكم إغلاق النافذة ثم أدارها إليه وكتم صراخها بشفتيه قبل أن يلقيها أرضا..
نجوى تبكي و تصرخ و تتخبّط تحت ثقل جسده مثل سمكة في شبكة صياد. تحاول التملّص من ذراعيه، لكن قوّتها تنهار أمام قوّته، تدريجيا. قبضة يمناه تمسك بكتفيها، بشدّة، مثل كمّاشة..ووجهه كلفح النار يغوص في جيدها وصدرها.. بينما يده اليسرى ترفع عنها ثوبها...
يتمطّى الوقت حين يغرقنا الخوف، وفي عمر الفزع تطول الدقائق لتصبح شهورا، وتتمدّد الثواني فلا ندري متى تنتهي..وكان الفزع قد ملك على نجوى كل حواسها، وكان جسدها قد تخدّر تماما، وتصلّب كقطعة صفيح باردة..
و...
بعد دهر ونيف، حين وصلها الإحساس بأن لهيب أنفاسه خفتَ وحركات جسده فوق جسدها توقّفت. انتبهت. دفعته عنها بكل قوّتها. بما تبقّى لها من قوّة... وقامت وهي بين الصحو والغثيان...تحاول استرجاع وعيها بما حدث. تتلفّت حولها في الغرفة. تدور في الشقة... الحمام.. المطبخ..الثلاجة..تفحتها... بقايا أكل، بيض وجبن، وبضع قارورات خضراء...كانت تبحث عن شيء معيّن. نعم. وجدته. فتحت بأنامل مرتعشة القارورة ودلقت نصفها في جوفها، بسرعة ودون تفكير. أحسّت بطعم الحموضة في حلقها وأنفها وأحداقها.. في جزء من الثانية صوّر لها خوفها كل شيء..فتذكّرت الخلّ.... موضوع قرأته في مجلّة. لا تذكر تفاصيله.. عن الخل و الحمل أو منع الحمل..شيء من هذا القبيل.
.
.
.
دقّات محمومة على باب غرفة في إقامة جامعية للبنات. يُفتح الباب.. يُطلّ وجهٌ أكله الفزع. تضرب الفتاة صدرها بكفّها لفظاعة المنظر، بينما نجوى، نصف ميتة، تتهالك بين ذراعي صديقتها.
الأخير....
رحلة الإيّاب. شابّتان تجلسان في المقاعد الأخيرة في حافلة متخمة تطوي إسفلت الطريق. في حقيبة كل منهما شهادة جامعية وصرّة من الذكريات. أغمضت نجوى عينيها وألقت برأسها إلى الخلف. سرحت في العمر القصير الطويل الذي خلّفته وراءها.
وداعا أيتها المدينة التي لا ترحم.
من نافذة الحافلة تبدو الأشجار والبيوت القريبة والحقول والعصافير مسرعة كأنّها هاربة من قدر ما، ومن نوافذ الذاكرة تتراقص أمام نجوى صورٌ وأماكن وملامح ومواقف، فلاشات من حزن وفرح، وعلى زجاجٍ شفّافٍ صقيلٍ لإحدى النوافذ ترتسم خدوش سوداء في شكل ذئب بربطة عنق.