قراءة في نصوص عزاز حسان متناهية القصر
قراءة في نصوص عزاز حسان متناهية القصر أو (الاستعصاء على التجنيس) صلاح محمد الحسن القويضي ٢٧ يوليو ٢٠٢٠م تستعصي نصوص الكاتبة السودانية عزاز حسان (زرقاء الكتابة) على التصنيف وتعاند كل محاولات ادراجها تحت جنس ادبي معروف مهما حاول القارئ المهتم مثلي تغيير وتبديل معاييره ومقاييسه التي يستخدمها في ذلك التصنيف. حتى ليبدو الناقد الذي يحاول ذلك كمن يحاول قصقصة القدم ليناسب حذاءً ذا مقاس مختلف.
قراءة في نصوص عزاز حسان متناهية القصر
أو (الاستعصاء على التجنيس)
صلاح محمد الحسن القويضي
٢٧ يوليو ٢٠٢٠م
تستعصي نصوص الكاتبة السودانية عزاز حسان (زرقاء الكتابة) على التصنيف وتعاند كل محاولات ادراجها تحت جنس ادبي معروف مهما حاول القارئ المهتم مثلي تغيير وتبديل معاييره ومقاييسه التي يستخدمها في ذلك التصنيف. حتى ليبدو الناقد الذي يحاول ذلك كمن يحاول قصقصة القدم ليناسب حذاءً ذا مقاس مختلف.
والحقيقة أن قراءتي لنصوص (زرقاء الكتابة)ومن بعد ترجمتي لعدد منها للغتين الفرنسية والانجليزية قد أثارت شهيتي لإعادة طرح سؤال (التجنيس الادبي) الذي جرت مياه كثيرة تحت جسوره بدون الوصول لإجابة حاسمة للتساؤل حول ضرورة او إمكانية ادراج العمل الإبداعي تحت هذا الصنف الادبي او ذاك.
وتلك النصوص المتناهية القصر تحقق الشروط الأربع للعمل الإبداعي الناجح والتي كنت أسست لها نظريا في مقالتي النقدية المطولة عن رواية (ذكرى حروب قادمة) للروائي عثمان شنقر وهي (الجاذبية / الإدهاش / ملامسة عوالم المتلقي / الامتاع). لكنها تطرح تساؤل الجنس الادبي في حده الاشمل والاوسع (الشعر / النثر) وفي حدوده الفرعية (قصيدة / قصة قصيرة جداً).
وحتى في داخل حدود الجنس الابي الواحد تنطرح أسئلة مشروعة جدا حول مدى احقية نص من اقل من عشرين كلمة في ان يوصف بأنه قصيدة او نص من بضع كلمات في أن يسمى قصة قصيرة جدا. غير أن لهذه التساؤلات فائدة جانبية في حث الناقد قبل كل شيء في البحث حول احقية كثل ذلك النص في أن يوصف بأنه عمل إبداعي.
وقد واجهت أعمال التشكيليين السورياليين مثل ذلك التحدي عندما رأى كثير من النقاد في اعمال سلفادور دالي وحتى بعض اعمال بيكاسو بانها مجرد (شخبطات عبثية) لا تستحق أن تسمى (لوحات تشكيلية). لكن حركة التاريخ انتصرت للفن في مواجهة (النقد) فصارت ذات تلك الاعمال التي وصفها النقاد بانها (شخبطات عبثية) (لوحات تشكيلية) تتصدر صالات أشهر المتاحف العالمية وتباع بملايين الدولارات في المزادات الفنية المتخصصة.
بل اكاد أجزم بأن ذلك هو ما واجهته كل حركة تجديد أدبي أو فني حاولت التمرد على المقاييس السائدة في العصر الذي تحاول (تحديثه). وها هو الامر يقودنا رغما عنا لطرق أبواب إشكاليات (الحداثات) عبر مسرة الابداع البشري. وهو أمر نأمل في أن يفتح هذا المقال آفاق الولوج اليه.
يهدف هذا المقال في اجزائه الأربعة القادمة لقراءة بعض نصوص (زرقاء الكتابة) التي ترجمتها للفرنسية على ضوء معياري الرباعي المذكور لتحديد مدى استجابتها لاشتراطات العمل الإبداعي الناجح ثم لمحاولة النظر في إمكانية (تجنيس) هذه النصوص وبالعدم البحث عن مخرج من إشكالية التجنيس من خلال رؤى سابقة تطرق اليها نقاد سودانيون وأجانب من قبلنا. أم ترى أن البحث سيقودنا الى ضرورة أن نعدل مقاسات الحذاء بما يجعلها أقل تعسفاً وأكثر مرونة وقابلية للتطبيق عوضاً عن قصقصة الاقدام لنحشرها في أحذية النقد المعدة مسبقاً؟
ومن خلال استعراض نماذج من نصوصها سأتناول مدى تحقق شرطي (الجاذبية والإدهاش) في نصوص عزاز حسان أو (زرقاء الكتابة) كما تسمي نفسها على مدونتها.
بعض عناصر الجاذبية: في نصوص عزاز حسان:
1. التكثيف:
من وجهة نظري كقارئ فإن جاذبية نصوص عزاز حسان تتحقق من خلال تركيبة من الصفات والخصائص المميزة لكتابتها الإبداعية. فالنص يجذب القارئ ويثير اهتمامه بذلك القصر البالغ والذي يجعله يتساءل إن كانت (بضع كلمات) قادرة على (حمل) مدلول جدير بالنظر. لننظر لهذا النص
{نوستالجيا الغابة....
ثورة الشجرة التي انتصبت باباً
يقاوم ملل الكرسي ونعاس الأسرة}
اثنتا عشر كلمة لا غير. لكن ما تقوله كثير. فكلمة الغابة تستدعي كل ذلك الفضاء الأخضر وعوالمه الغنية بالجمال أما اقترانها بالنوستالجيا (الحنين) فهو تسجيل لموقف ودعوة لمشاركته. (ثورة الشجرة) بعد اجتثاثها يتمثل في حركية الباب (الحركة الدائمة – الأمل – الخروج – الدخول – الانفتاح – السد أو الاقفال – الصرير – الماوراء) مقابل سكونية الكرسي والسرير (السكون – الملل - النوم - الثبات). رغم أن الكرسي والسرير والباب من ذات الشجرة. ترى هل أرادت زرقاء الكتابة أن تقول (أن الشجرة عالم من المتناقضات في كل واحد مركب وان اجتثاثها يعيد هذه المتناقضات "كل لأصله"). أم أرادت أن تقول بأن اجتثاث الشجرة لا يعني موتها وإنما يعني أن تتواصل حياتها (بشكل مختلف)؟ ربما لم ترد أن تقول لا هذا ولا ذاك. ولكن نصها قاله لي. وذات النص قد يقول أشياء أخرى لغيري. وتلك واحدة من نقاط الجذب في نصوص عزاز حسان. فالنص عندها بكثافته اللغوية وسرديته العالية ومجازيته ينفتح على تفسيرات ربما تكون بعدد القراء.
2. السردية العالية المتميزة:
تتميز عزاز حسان بمقدرتها العالية على (تشبيع) النص بحركة سردية مكثفة. لا تعتمد تلك السردية على (تعدد) الأحداث وإنما على (كثافتها) وتعدد دلالاتها وتحميلها بكم من (المجازات) والمدلولات من خلال (هندسة النص) سواء باختيار اللحظة / الحدث أو بمنحه مدلولا مجازيا أو باختيار المفردان والعناصر اللغوية وتجاورها في (الجملة النصية). وتبدو سرديات نصوص عزاز حسان أقرب ما تكون (للقطات السينمائية). تقول في أحد نصوصها:
{كُلّما حَاولَ الدخول..
ارتطم بالزجاج
فالشَّجرةُ التي أغْلقتِ النَّافِذة
نَسِيَت المَشْهدَ مفتوحًا
في ذَاكِرة العُصفُور......}
أكاد أجزم ان النص (تسجيل) لحالة حقيقية شهدتها (الشاعرة). فقد شهدت شخصيا مثل ذلك المشهد الذي يشبه صور الـ (GIF) حيث كان (عصفور) يحاول باستماتة الدخول من خلال النافذة الزجاجية (المغلقة). لكن (الهندسة النصية) لعزاز أعطته أبعاداً مدهشة. فالشجرة تصبح عنصراً (فاعلاً) في المشهد بإغلاقها للنافذة. عندها ينفتح النص على أسئلة تتعدد بعدد متلقيه. (العصافير/ البشر) (الغرفة / الدنيا) (الشجرة/ القدر) (محاولة الدخول/ سعي البشر). وهل سيزيف هو العصفور؟
3. الإدهاش:
تنطلق بذرة الإدهاش في نصوص عزاز حسان من (الفكرة). فكل نص عندها ينطوي على فكرة عميقة تنتهي بالمتلقي بالتساؤل (بالله!). تقول عزاز حسان في أحد نصوصها المتناهية القصر.
{الفكرةُ المنيرةْ
تمنعُ الحرف النومَ على الورقْ...}
وذلك قول ينطبق تماما على كتابتها – شأن كل كتابة إبداعية حقيقية – فلا يكاد قارئ نصها يفرغ من القراءة حتى يعود ليستكشف مدلولات أخرى في النص. فالنص المحتشد بالفكرة المنيرة (اقرأ المدهشة) يظل ساهراً متجدداً - بأفكاره المفارقة للمألوف - عند كل قارئ. بل عند كل قراءة لذات القارئ. النص عند عزاز لا يساهر هو فقط لكنه (يساهر) بالمتلقي ويعصمه من (الخدر) البليد الذي يبعثه النص (الخاوي).
تأمل قولها:
{خيطٌ من ماءٍ وخيطان من تُرابْ
هكذا يُغْزَلُ الطينُ على نَوْلِ
الجَسد}
و(تفكر) في (كم) (الأفكار) المحتشدة في هذه (الكليمات) التي تقيم (أود) الإحساس بما فيها من (فكرة) مجسدة في (صور). فكرة الخلق (الغزل) وصورة المكونات (الماء والتراب) ونول (الجسد) مؤطرة بديمومة (التخلق). ربما لم ترد عزاز حسان القول بأن الإنسان لا يخلق مرة واحدة وإنما (يتخلق) من المهد الى اللحد من خلال الاصطراع بين مكونيه (الماء والطين). لكن نصها قال لي ذلك. ولا شك أنه قال غير ذلك لغيري من قرائه.
عناصر الإدهاش في نصوص عزاز حسان كثيرة ومتنوعة بحيث يكاد كل نص عندها يحتاج لمقال منفرد لاستقصاء ما فيه من (مدهشات).
أختم بهذا النص:
{داخِل النّفقِ يتنهَّد الضوءُ
ويُصابُ الطريقُ بالسُّعال
يُسَمَّى هذا مجازًا
بالقلقْ.....}
والذي يشير لمنبع آخر من منابع الإدهاش في نصوص عزاز حسان ألا وهو المقدرة على (التخييل) وصياغة / رسم (الصور) وتحميلها مدلولات مكثفة والاستخدام المجازي للمفردات (الضوء يتنهد) (الطريق يسعل) وكل ذلك (داخل النفق) لنخلص لصورة (مجسمة) (للقلق). هل أرادت عزاز أن تقول إن (الحياة) (طريق) وأن الحب هو(الضوء) وأن النفق هو (الغياب) و(السعال) قلق الوجود؟ ربما أرادت وربما لم ترد لكن نصها قال لي ذلك كما قال الكثير غيره لغيري بالتأكيد...