فى ذكرى ثورة اكتوبر المجيدة
فى ذكرى ثورة اكتوبر المجيدة بين العاملين في المكاتب والعاملين في المصانع محمد علي خوجلى.. قدم اتحاد نقابات عمال السودان، تحت قيادة الشهيد الشفيع، الكتاب الثاني في سلسلة "دراسات نقابية" في العام 1966 ومن بينها الدراسة عن مظاهر التقارب بين العمال والموظفين ووقوف دعوة التلاحم بينهما على أرض صلبة. ونربط في تقديمنا للدراسة بين النتائج والخطوات العملية بالتعديلات الجوهرية على قانون العمل و
فى ذكرى ثورة اكتوبر المجيدة
بين العاملين في المكاتب والعاملين في المصانع
محمد علي خوجلى..
قدم اتحاد نقابات عمال السودان، تحت قيادة الشهيد الشفيع، الكتاب الثاني في سلسلة "دراسات نقابية" في العام 1966 ومن بينها الدراسة عن مظاهر التقارب بين العمال والموظفين ووقوف دعوة التلاحم بينهما على أرض صلبة. ونربط في تقديمنا للدراسة بين النتائج والخطوات العملية بالتعديلات الجوهرية على قانون العمل والعمال للعام 1949 في الأعوام 66/67 و1968 وواقع الساحة النقابية في العام 2020. فالى نص الدراسة :
"لعله من أبرز السمات التي ميزت الحركة النقابية في الفترة التي أعقبت ثورة الحادي والعشرين من اكتوبر، ذلك التقارب الشديد بين نقابات الموظفين ونقابات العمال والمحاولات الجادة للتنسيق وتنظيم كفاح هاتين الفئتين اللتين تمثلان ركيزتين اساسيتين في عملية الانتاج، وقد دشن الاضراب السياسي الذي اكتمل بتوقف هاتين الفئتين عن العمل شالين بذلك دولاب الحياة الاقتصادية في بلادنا في وجه الحكم العسكري. دشن هذا الاضراب الفريد عهداً جديداً في العمل بين منظمات العمال ومنظمات الموظفين. فقد نبه الأذهان الى القوى الكامنة في تضامن هاتين الفئتين. فما كان للموظفين وحدهم ان يحدثوا تلك النتائج العظيمة كما لم يكن في مقدور العمال وحدهم استكمال الصورة التي نفذ بها الاضراب.
وكان لابد لهذا الشعار الجديد الذي ولدته الثورة: شعار التضامن بين العاملين في المكاتب والعاملين في المصانع من أن يجد لنفسه تعبيرات اخرى تتلاءم والوضع الجديد الذي أعقب انتصار الثورة، فحافظ في البداية على شكله السياسي الذي بدأ به في الحياة التي مارستها جبهة الهيئات والحكومة الثورية الاولى. وبرز بعد ذلك في شكل العمل المشترك بين اتحادات الموظفين واتحاد نقابات عمال السودان لرفع عبء الأزمة الاقتصادية التي تزداد ثقلاً على كامل العاملين ولرد الهجوم الرجعي من قبل الحكومة ضد الحريات والحقوق النقابية.
ومظاهر التقارب لا تقتصر فقط على ذلك التنسيق بين اتحاد الموظفين العام والاتحاد العام لنقابات عمال السودان، ولكنها تمتد الى قاعدتيهما وتشمل النقابات -ففي كل مؤسسة معينة برز اتجاه قوي لتنظيم العمل بين النقابة التي تضم العمال والنقابة التي تضم الموظفين في تلك المؤسسة- وتدور مناقشات جادة، وتتخذ بعض الخطوات العملية أحياناً لتوحيد التنظيم أو ايجاد أشكال للتعاون لا من الناحية العملية فقط ولكن حتى من الناحية التنظيمية وهي حجر الزواوية في اي عمل نقابي. وتضمن أكثر من نقابة دستورها بنداً صريحاً ينص على التضامن والتعاون بين العمال والموظفين لتحقيق الأهداف المشتركة.
فما هو منشأ تلك الظاهرة؟ وهل هي نتيجة لرغبات خاصة تغلفها بعض الاتجاهات السياسية دون الاستناد على الواقع ام أن هناك عوامل وظروف موضوعية تحتم هذا اللقاء وتجعله ممكناً بل وضرورياً؟
هذا ما سنحاول الاجابة عليه في هذه السطور:
- نشأت الحركة النقابية في بلادنا أول ما نشأت وسط العمال بعد كفاح طويل اكتسبوا فيه حقين اساسيين هما حق التنظيم وحق التوقف عن العمل (ومنها أصبح حق التنظيم حقاً عاماً لكل فئات الشعب، ونشطت حركة التنظيم بتكوين النقابات والجمعيات والاتحادات).
-وكانت الحركة النقابية العمالية أنشط تلك الحركات في التصدي لقيادة الكفاح المطلبي لرفع مستوى المعيشة وتحسين شروط العمل.
-ولما كانت الحكومة في بلادنا تمثل اكبر المخدمين فقد وجدت الحركة النقابية نفسها في صدام مباشر ومواجهة مكشوفة ضد الدولة والتي كانت آنذاك في يد المستعمرين الأجانب -وبهذا أصبحت الحركة جزءاً هاماً وفعالاً من القوات الوطنية المكافحة ضد الاستعمار الأجنبي- ووجدت الحركة النقابية نفسها تقود كفاحاً يومياً ومتصلاً ضد الاستعمار البريطاني- بل أوجدت في داخلها تنظيمات أكثر مقدرة من النقابة على المواجهة السياسية واستطاع الاتحاد العام لنقابات عمال السودان، مستنداً على الأجهزة النقابية، ان يلعب دوراً بارزاً في النشاط السياسي الوطني العام عندما وضع شعاري الجلاء وحق تقرير المصير، وأصبح كفاح العمال يسير في اتجاهين يمكن ان نسميهما اتجاه نقابي يعنى بالكفاح المطلبي اليومي، واتجاه عمالي عام يحتضن الكفاح المطلبي وينظمه والاتجاه السياسي الوطني.
وكانت تلك آفاق رحبة ومنافذ عظيمة فتحتها الحركة النقابية في بلادنا -وكانت تمثل خطراً عظيماً على الاستعمار الذي فطن اليها وعمل على مقاومتها. ولكنه وقد عجز عن حرمان العمال من حقوقهم الأولية في التنظيم والتوقف عن العمل لجأ الى الحد من توسع الحركة بحرمان الموظفين من حق الاضراب وبتقديم امتيازات لا يجد العمال مثلها، مدركاً الآفاق الرحبة الواسعة التي ستفتح أمام كل القوى الشعبية بتلاحم صفوف العمال والموظفين.
هذه هي الدوافع الاساسية التي حدت بالمستعمرين لخلق هذه الفواق بين فئتي العمال والموظفين وهي كما نرى دوافع سياسية أملاها حرص المستعمرين على عدم توسيع القاعدة التي تعمل ضد بقائه بثورية ونشاط.
هل هناك أسس موضوعية اخرى لهذا التفريق:
نعتقد انه لا يوجد أساس موضوعي لهذه التفرقة ففئة العاملين في المكاتب وفئة العاملين في المصانع فئتان تؤديان عملاً مختلفاً في نوعيته ولكنه في النهاية يمثل جزئين من عملية واحدة هي عملية انتاج خيرات المجتمع المادية -ولن يخرج انتاج ويستقيم بعمل فئة واحدة من هاتين الفئتين وحدهما. العمال يعملون في جانب خلق تلك الخيرات من الناحية العملية والموظفون ينظمون عملية الانتاج -وهذا وضع لا يصدق على المؤسسة الواحدة فقط ولكنه يصدق بقدر أكبر على عملية الانتاج على نطاق المجتمع بأسره.
وفي بعض المؤسسات يكون التفريق شكلي لا يمت الى الاختلاف من ناحية وضع كل فئة ومكانتها في عملية الانتاج. وأصدق مثال لذلك ما يحدث كثيراً في مصلحة السكة الحديد إذ تبدأ فئة معينة كالسواقين أو الكمسارية مثلاً كعمال ثم تعطى لهم درجات تدخلهم تلقائياً ودون أن يحدث اي تغيير في طبيعة العمل في نطاق الموظفين. وقد ابتكروا اسم داخل الهيئة وخارج الهيئة تسمية لهذه التفرقة.
وبعد ذلك وغيره فالاسس التي تربط وتوحد بين هاتين الفئتين عديدة لا من ناحية الشكل فقط ولكن من ناحية الجوهر -وهو في نظرنا نيل الجزاء العادل المقنع عن العمل المعين الذي يؤديه الشخص- واذا نظرنا الى المسألة من هذه الزاوية فسنجد الأرض الصلبة التي تقف عليها الدعوة الجديدة النامية للتلاحم بين العاملين في المكاتب والعاملين في المصانع ويمكن تلخيص تلك الأسس في الآتي:
أهداف التنظيمات النقابية:
التنظيم النقابي، تنظيم لتحسين مستوى معيشة الأفراد المنتمين إليه بالعمل على زيادة أجورهم وتحسين شروط خدماتهم، سواء بالكفاح العملي ضد المخدمين وانتزاع الحقوق منهم أو بالعمل بوسائل اخرى كالجمعيات التعاونية والصناديق الخيرية وغيرها من المؤسسات الجماعية التي تعمل على تسهيل الحياة وتقديم المساعدات مادية كانت أو معنوية لأفراد التنظيم.
ولا نستطيع ان نجد في هذا المجال أدنى اختلاف فكل دساتير النقابات سواءاً تلك التي تضم العاملين في المكاتب او العاملين في المصانع تتفق في تحديد تلك الغايات كما تتفق في تحديد الوسائل التي لا تخرج عن امرين: الضغط على المخدمين سواءاً عن طريق التوقف عن العمل أو التفاوض والاقناع او عن طريق المجهود الجماعي الخاص في نطاق التنظيم النقابي كالجمعيات التعاونية وغيرها..
ويحدد دستور الاتحاد العام لنقابات عمال السودان أهدافه في البنود التالية:
1-العمل على رفع مستوى العمال اقتصادياً واجتماعياً.
2-تحسين الأجور وتخفيض تكاليف المعيشة وتبديل شروط الخدمة وتأمين فوائد ما بعد الخدمة والعمل على تطبيق مشاريع الضمان الاجتماعي والاعتناء بصحة العمال في المصانع والورش وتوفير العلاج لهم ولابنائهم.
3-تعليم العمال وابنائهم وفتح مدارس محو الأمية والمدارس النقابية وتوسيع فرص التدريب الفني واقامة صناديق الإدخار والجمعيات التعاونية.
4-ضمان حق التفاوض والالتزام بالاتفاقيات المبرمة والعمل على تأمين وتوسيع الحقوق النقابية.
5-انشاء والعمل على طبع جريدة خاصة او نشرات داخلية يكون الغرض منها تثقيف الاعضاء وتنمية مصالح العمل النقابي.
6-يتعاون الاتحاد مع جميع الاتحادات المهنية والنقابية والمنظمات التي تشابه اغراضها واهدافها مع اغراضه واهدافه.
فهل هناك فرق بين ما يرسمه اتحاد العمال واتحاد الموظفين من أهداف؟
وما ينطبق على الاتحادات ينسحب بصورة مباشرة على النقابات. فالقضايا التي تواجه العمال هي نفس القضايا التي تواجه الموظفين، مما يجعل التقسيم الحالي تقسيماً غير أصيل.
وعدم اصالة ذلك التقسيم تبدو بجلاء أكثر اذا نظرنا الى كل مؤسسة فلن تجد مؤسسة واحدة في بلادنا يديرها الموظفون فقط او مؤسسة يديرها العمال فقط وذلك سواء في القطاع العام أو الخاص.
وفي كل الحالات يتعذر سير العمل في المؤسسة اذا توقف اي من قسميها -بمعنى انه اذا دخل عمال المؤسسة المعنية في اضراب ما فلن يجد الموظفون ما يفعلونه والعكس صحيح. وهذه تجربة اثبتتها العديد من الاضرابات التي دخل فيها العمال او الموظفون.. وفي هذا توضيح لما ذهبنا اليه من ان الفئتين يعملان عملاً واحداً. ومن هذا نبعت الدعوة المبدئية للوحدة بين عمال المؤسسة الواحدة وموظفيها -فبجانب انهم يؤدون عملاً مشتركاً ويرتبطون بمشاكل مشتركة فهم يواجهون مخدماً مشتركاً.
في الماضي كان الفارق الاساسي من الناحية الشكلية بين العمال والموظفين يتمثل في المصدر الذي يتم منه تعيين كلاً من العمال والموظفين فالموظفون من الفئة التي اصابت حظاً من التعليم ابتداءاً من التعليم الاوسط وقد تغيرت هذه الصورة واساساً في السنوات العشر الاخيرة وبقيام العديد من المدارس الصناعية والمهنية التي تقذف بالعشرات من العمال الذين يجمعون بين الخبرة العملية والنظرية. هذا زيادة على التطور الذي حدث وسط الفئات العليا من العمال بتطور الآلات وبازدياد مستوى الخبرة الفنية كما ان التوسع الذي حدث في التعليم في مرافقه العليا اي الثانونيات والجامعات والمعاهد العليا قد قلل من فرص الذين لم يصيبوا حظاً عالياً من التعليم في الانخراط في سلك الموظفين فاتجهت أعداد كبيرة منهم الى الانخراط في صفوف العمال.
هذه التغيرات جميعها قد احدثت تطوراً معيناً في تركيب الطبقة العاملة ومن الناحية الثانية أدى ازدياد التعليم العالي الى قفل الابواب امام الفئات المتوسطة من الموظفين في ان تصعد الى الدرجات العليا.
كل هذا اذا وضعنا في اعتبارنا الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يقع الموظفون والعمال فريسة لها الامر الذي يقرب الشقة ويمحو الفوارق."
ووجدت دراسة اتحاد نقابات عمال السودان (1966) بشأن العمال والموظفين فرصتها في الممارسة بالتعديلات الجوهرية في قانون العمل والعمال 1949 المتسقة مع رغبات العمال والموظفين. فاجازت للعمال والموظفين في اي مؤسسة انشاء نقابة واحدة بقرار من كل جمعية عمومية. على ان تقوم الجمعية العمومية الجديدة (المشتركة) باتخاذ قرار انضمامها لاي من اتحادي العمال او الموظفين.
ونصت م/29 من قانون 1949 تعديل 1968 (الاندماج) بالنص: "يجوز لاي نقابتين او اكثر بموافقة ما لا يقل عن ثلثي العدد الكلي لاعضاء كل او اي من تلك النقابات ان تندمج لتكون نقابة واحدة بتوزيع او بدون توزيع لاموال تلك النقابات او اي منها او تقسيمها بحيث لا يؤثر اي اندماج على اي حق لدائن لكل او اية نقابة تكون طرفاً فيه.
(وهذا نموذج حي للوحدة العمالية الطوعية بالحريات النقابية)
ومن بعد ثورة ديسمبر المجيدة، اتجه العاملون في المكاتب والعاملون في المصاننع بقوة لتكوين النقابات بجهود مشتركة وعمل دؤوب. ويؤكد واقع الساحة النقابية في العام 2020 على تمسك الشباب بذات الإرث النقابي الذي صاغه الآباء المؤسسون واحترام المباديء والمفاهيم التي ارساها المشروع النقابي الوطني بالتلاحم القوي بين العمال والموظفين والفنيين في كثير من المواقع وهو من المسائل التي نُلاحظها في معظم دول العالم وبالذات في المنطقتين العربية والافريقية.