خارج المتاهة / محمد عتيق هل لخطاب البرهان قيمة ؟
خارج المتاهة / محمد عتيق
هل لخطاب البرهان قيمة ؟
————————————
لماذا لا نُسمِّي الأشياء بأسمائها الحقيقية المباشرة؟ نقف خلفها ونذهب في تحليل الوقائع والأحداث - صحيح أننا نريدها موضوعيةً تُلامس الحقائق - ولكنها تقوم على الأمواج لا على البحر ، على الظلال لا على الشيء ..
ألقى الفريق البرهان خطاباً يوم ٤ يوليو ٢٠٢٢ فانطلقنا في السودان نحلل ذلك الخطاب ، نستنتج مبرراته ومراميه ، ونقرأ له النتائج المرتقبة والمفترضة …الخ.. لم يسكت أحد ، ولم يسأل سائل بوضوح : ومن هو هذا البرهان ؟ من أين أتي ؟ وما علاقته أساساً بالثورة ومستقبلها ليقرر موقفها ويحدد رؤاها ويتحدث باسمها ؟ ، ففي استحضار الإجابة على هذه التساؤلات استغناءٌ عن كل تحليل ، وتوفيرٌ للجهود المبذولة في ذلك ..
قضى الفريق البرهان عمره في القوات المسلحة ضابطاً حتى الآن إلى أن نال رتبة الفريق أول فيها ؛ فهل عُرِفَ عنه موقف منحاز لوطنه أو شعبه طوال تلك المسيرة ؟، هل ساهم - ولو بالتأييد - في حركة عسكرية مناوئة لنظام الإخوان المسلمين "الإنقاذ" ؟ فقد كان عمر نظامهم (٣٠ عاماً) هي سنوات عمره في الجيش السوداني .. واجه الشعب السوداني نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩ مواجهات دامية عديدة أثناء مقاومته البطولية الممتدة ، شعبية وطلابية ؛ فهل كان لضابط إسمه عبد الفتاح البرهان موقف معارض لإجراءات القمع التي واجهت بها أجهزة النظام لتلك الانتفاضات ؟ ، ناهيك عن مناصرتها وتأييدها
، هل عارض - ولو صامتاً - الإجراءات العنيفة في مواجهتها ؟
أم على العكس من كل ذلك ، كان ضابطاً مشاركاً ثم قائداً لجبهات القتال القبلية والأهلية التي خاضها النظام الساقط في دارفور بغرب البلاد وفي جنوب السودان ومناطق متفرقة أخرى ؟ .. الجميع يعرف أن النظام الساقط كان قد أحال الآلاف من ضباط وجنود القوات المسلحة ، بعضهم غير مؤيد للإخوان المسلمين وانقلابهم في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ ، وأغلبهم يتسم بالكفاءة والاستقامة والسيرة الحسنة (تحت مصطلح الصالح العام) وأصبحت الترقيات للمراتب العليا إما بسبب الدعم والتأييد والقيام بأدوار في كل خطط النظام وإجراءاته ، أو بسبب التملُّق والتحالف الاقتصادي الطبقي مع حزب التجار الحاكم ، وبالتالي فإن القيادات العسكرية التي برزت في ثورة ديسمبر ٢٠١٨ بإسم الانحياز للشعب وعزل رأس النظام هي نفسها التي عليها - فعليَّاً - الحفاظ على النظام الساقط برموزٍ وشعاراتٍ أخرى برَّاقة ، والبرهان ، أحد أهمهم ، فهو الذي عمل طويلاً في قيادة "حرس الحدود" بدارفور مُكَلَّفاً بإدارة حروب الإبادة في دارفور ، أحد مؤسسي قوات الجنجويد والمشرف عليها وعلى إمدادها بالسلاح وبالنمر العسكرية.. كلَّفه البشير وجهاز أمنه بملف الترقيات في صفوف الجنجويد …..إلى آخر سيرته الدموية في دارفور وإعلانه لنفسه بأنه (رب الفور) ، ثم بدأه علاقةً وثيقةً مع محمد حمدان دقلو قائد مليشيا الجنجويد الذي اعتمده رأس النظام لأمنه وأمن سلطته عندما فقد الثقة في جهاز الأمن والتنظيم السياسي ..
المهم ، هذا هو البرهان باختصار شديد ، فما الذي يجعله على رأس سلطة الثورة ويجعل قوى الثورة تقرأ وتحلل ما يقوله ، وتختلف - تفاؤلاً وتشاؤماً - في رسم الخطوات التالية ؟ لماذا دائماً يكون هو - وغيره من الدخلاء على الثورة - هم الفعل وقوى الثورة هي رد الفعل ؟ ..
"اللجنة الأمنية" للنظام الساقط تريد أن تستكمل دورها في الحفاظ على النظام بإعادة إنتاجه معتمدةً على :
- عناصر ووجوه جديدة من بين صفوفه .
- شعارات ومواقف جديدة بعيداً عن الدعوات واللافتات الدينية التي كان يختبئ خلفها
- أعوان ورموز من حلفائه حتى لحظة السقوط : رموز وأحزاب حليفة زائداً بعض الإدارات الأهلية والطرق الصوفية الدنيوية المتحالفة مع كل نظام لا يهمها سوى تأمين مصالحها الخاصة وزيادة مواردها ..
- إجراء انتخابات عامة مبكرة تحت دعاوى تسليم السلطة لمن يختاره الشعب ، (وهذا شعارٌ بَرَّاقٌ خدَعَ حتى بعض المحسوبين على الثورة ، فالانتخابات العامة النزيهة من علامات التحول الديمقراطي والممارسة الشعبية الحرة .. هذا الشعار، شعار "إجراء الانتخابات العامة المبكرة لتسليم السلطة لمن يختاره الشعب" هو شعار يحتاج لشرحٍ ومواجهة لكي لا يكون خداعاً لشعبنا ودغدغةً لمشاعره :
مجتمعنا لا زال مجتمعاً رعوياً بسيطاً ، تسود فيه وتحكمه الولاءات العشائرية والطائفية والجهوية المتخلفة والبدائية أحياناً ..
ثورة ديسمبر ٢٠١٨ - وكما نُردِّد دائماً- هي ثورة جذرية عميقة ، عندما تستهدف تفكيك مقابض النظام الساقط في الخدمة المدنية والعسكرية والعدلية إنما تستهدف ضمناً مواجهة تلك الشبكة من الولاءات المتخلفة في مجتمعنا ورفع نسبة الوعي الشعبي لإدراك مكامن مصالحه ومستقبل أبنائه ولامتلاك رؤية إنسانية متحررة من كافة القيود تساعده على الاختيار الصحيح لممثليه عبر البرامج وليس عبر الأشخاص والارتباطات الطائفية أو العشائرية/القبلية ، وهذا لا يكون إلّا بتأسيس فترة انتقالية ذات برنامج محدد وواضح في كافة الجبهات العدلية والتعليمية والأمنية والمعاشية والاقتصادية … الخ..الخ ، وذلك هو التفكيك التاريخي المتكامل ..
وهذا يعني أن الثورة هي الشرعية الوحيدة التي تحكم واقعنا واتجاهات مستقبلنا ، وهي التي أسقطت النظام الذي كان الآخرون في خدمته وتثبيته ، انتصرت بعد عُزلةٍ دامت ثلاثون عاماً لتقتص للشعب الصبور الكادح المعلم ، وهي التي ستنفذ برنامجاً متكاملاً للانتقال من عهد لعهد ، برنامج يتسم بإصلاحات في البنية العدلية والعسكرية والمدنية والتعليمية والاقتصادية للبلاد ، وهي التي فوَّضَت نفسها لإنجاز تلك المهام ثم تختم الفترة بمؤتمرٍ دستوريّ يؤسس للسودان الذي نريد ويصيغ قانوناً للانتخابات تجري وفقاً له على أنقاض القوانين التي تُسهِّل للبرهان وشيعته أن يأتوا حكاماً مسنودين بسادة الطوائف وقوى الدجل والمصالح الخاصة التي احتفلت بكلمته في معابدها ودُورها ..
ومع ذلك ، يلاحظ المراقب أن قوى الثورة لا زالت تتخندق في مواقعها وتعلن عن استعدادها بل وسعيها لخلق المركز الموحَّد الذي يقود الشارع الثائر ويستثمر تضحيات شبابنا الغَض الفَتِيّ، أحاديث أشبه ب(رفع العتب) عن نفسها ..
* الذي يشعر بدقة الموقف داخلياً وخطورة المخططات الاقليمية والدولية الجارية بخصوص السودان ، تهدد وحدته وسلامة أراضيه ، لا يملك إلّا أن يتساءل : ألا يوجد حزب سياسي واحد من قوى الثورة يذهب إلى الحزب الآخر ويعلن تقديره للموقف والظروف التي تجبره على تجميد كل خلافٍ وتنافس ؟؟، فإذا كانت القوى السياسية والعسكرية والطلابية قد أسست لهذه الثورة بالمواجهات المتنوعة وبالصمود في معتقلاته وأمام آلات التعذيب والقتل ، فإن الجيل الجديد بلجان مقاومته وعنفوانه هو القائد المنفِّذ وهو القوة الأساسية الرافضة لكل سلبيات الماضي من معتقداتٍ وارتباطات ، وهو الضامن لاستمرارية الثورة وصعودها إلى مرافئ "الحرية والسلام والعدالة" ..
10.07.2022