"حمد الريَّح".. صَفَحاتٌ في كتاب الكِبار. 

"حمد الريَّح".. صَفَحاتٌ في كتاب الكِبار.  مهدي يوسف إبراهيم... جدة  ................... (الموت) بيهدم كل (شتلة) على الجروف فك الشراع ..فك الشراع ................... قبل أيام، باغتني حنين عارم لسماع إلياذة "الساقية". هي عادتي، أن أستأنس بصحبة أغنية ما، كلما قرَّرت الذهاب إلى أطراف "جدة".

"حمد الريَّح".. صَفَحاتٌ في كتاب الكِبار. 
 
مهدي يوسف إبراهيم... جدة 
...................

 

 

 


(الموت) بيهدم كل (شتلة) على الجروف
فك الشراع ..فك الشراع
...................
قبل أيام، باغتني حنين عارم لسماع إلياذة "الساقية". هي عادتي، أن أستأنس بصحبة أغنية ما، كلما قرَّرت الذهاب إلى أطراف "جدة".

 

 

 


( لعله حنيني الدائم لهزيمة المسافات، ولعلها محاولة للهرب ولو على صهوة أغنية).
أن تمتزج موسيقى "ناجي القدسي" العبقرية بصوت "حمد الريح" الدفيق الوسامة وكلمات "الدوش" الموجعة الجمال.. تلك بحق "صلوات في هيكل الحب"...
همست لنفسي "ناجي" قام في حياته بتأليف أكثر من مائة وعشرين عملاً موسيقياً وخرج منها للنور عشرون فقط، فأين البقية؟! ولماذا نتعامل مع عباقرتنا بهذه الدروشة الغريبة؟ ثم هززت رأسي متأسيّاً بعبارة "محيميد الشهيرة: (لكنْ، تلك قصةٌ أخرى) 

 

 

 


وقبل يومين باغتني صديقي "عارف حمدان" برسالة قصيرة تقول: "البقاء لله.. توفِّي الفنان العظيم حمد الريّح".
هكذا يتساقط النخيل في بلادي نخلة فنخلة، وهكذا تموت الخيول يوماً بعد يوم ...!!
من تبقَّى منهم؟ لله درّهم! ثلة ظلت تخفِّف عنّـا عناءَ بلادي ( وما أعظمه!)، ويُصلِح عطَّار أغنياتها ما يُفسِده الساسة ال......!
ثلّة وقف "حمد الريّح" في منتصفها لنصف قرن من الزمان. كما تقف الشجرة المباركة في وسط الحقل.
ما كان للرَّجل الذي وُلد  في "توتي" بهذا الاخضرار الهائل في الروح، ما كان له ولروحه إلا أن تتوفَّر على هدهدة الموج لخاصرة تلك الجزيرة الفاتنة. ومثلما ارتبطت "دبلن" بجيمس جويس، والقاهرة بمحفوظ، وكرمكول بالطيب صالح، وكسلا بالحلنقي، ارتبطت توتي في ذاكرتنا بحمد الريّح.

 

 

 


أثّرت بيئة " توتي" في أغنيات "حمد الريّح" كثيراً، فتجدها مليئة بذكر الأشجار والعصافير والغيوم والنيل والتراب والجروف؛ حتى أنك لتخرج من سماع أغنية لحمد وفي قدميك شيء من غبار الجروف.
ارتاد "حمد" الكُتَّاب في صباه. وحفظ القرآن الكريم وتدبّره؛ ولذلك تلاحظ حرصه الهائل علي سلامة النطق حتى في الأعمال العامِّية. تلك ميزة تفرّدت بها تلك الأجيال الذهبية  (حتى الراطنون منهم)؛ بينما أهملها صِبيَةٌ يحسبون أنَّ الغناء هو مَضْغٌ الكلام وصَبْغٌ الحواجب!. 
كما أنَّ ذلك التعليم الديني أورث الرجل تماسكاً في الشخصية؛ فكان صريحاً، واضحاً، لم تؤثِّر فيه النجومية. ولم تسلبه بساطة وفروسية رجل الريف.

 

 

 


وفضلاً عن تلقِّيه تعليماً أكاديميَّاً معافًى تلك الأيام، قام "حمد الريح" بتثقيف نفسه بنفسه. واستفاد من سنوات عمله في مكتبة جامعة الخرطوم؛ فعاصر قاماتٍ علميَّةً سامقة في الجامعة، وقرأ أمهات الكتب ، واطَّلع على جياد القصائد، وهو أول فنَّان عربي يتغنّى للشَّابِّي بقصيدة (الصباح الجديد): 
في فؤادي الرحيب.... معبـــــــدٌ للجمـــــــالْ
شـــــــيَّدتْه الحيـــــــاهْ...... بــــــالرُّؤى والخيــــــالْ
فتلـــــــوْتُ الصــــــلاهْ.... فــــي خشـــوع الظـــلالْ
وحــــــرقت البخـــــور... وأضــــــأتُ الشـــــموعْ
 كما تغنَّى لنزار قباني برائعة "حبيبتي": 
صغيرتي: إنْ عاتبوك يوماً
كيف قصصتِ شَعرك الحريرا
وكيف حطمت إناء طيب
من بعدما ربَّيته شهورا
وكان مثل الصيف في بلادي
يوزِّع الظلال والعبيرا
قولي لهم  أنا قصصت شعري
لأنَّ من أُحبُّه يُحبُّه قصيرا"
وتغنَّى "حمد" بواحدة من إلياذات الشُّعر العربي الحديث، وهي رائعة "مريّا" للكبير "صلاح أحمد إبراهيم": 
ﻳﺎ ﻣﺮﻳﺎ
ﻟﻴﺖ ﻟﻲ ﺍﺯْﻣﻴﻞ ﻓﺪﻳﺎﺱَ ﻭﺭﻭﺣﺎً
ﻋﺒﻘﺮﻳا 
ﻭﺃﻣﺎﻣﻰ ﺗﻞُّ ﻣﺮﻣﺮ
ﻟﻨﺤﺖُ ﺍﻟﻔﺘﻨﺔ ﺍﻟﻬﻮﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﻧﻔﺲ
ﻣﻘﺎﻳﻴﺴﻚ ﺗﻤﺜﺎﻻً ﻣُﻜﺒَّﺮ
ﻭﺟﻌﻠﺖ ﺍﻟﺸَّﻌﺮ ﻛﺎﻟﺸَّﻼﻝ  ﺑﻌﺾُُ
ﻳﻠﺰﻡ ﺍﻟﻜﺘﻒ ﻭﺑﻌﺾ ﻳﺘﺒﻌﺜﺮ.
وتغنَّى للشاعر "عبدالواحد عبدالله" برائعة "أحبابُنا أهلُ الهوى":
بِيض الوجوه كأنَّهم ....رُضِعوا على صدر القمر 
سُود العيون كأنَّها شربت ينابيعَ السحر. 
كما تغنَّى بنصوص عامية رصينة نَظَمها له شعراءُ كُثر أذكر منهم: عبدالرحمن مكاوي والحلنقي وعثمان خالد وإسماعيل حسن وغيرهم.
تعامل "حمد الريّح" مع ملحُّنِينَ كُثر؛ لعلَّ أبرزهم العبقري "ناجي القدسي". كما لحّن "حمد"  لنفسه أيضاً.
ثقّف الرَّاحل نفسه موسيقياً، فتلقَّى تعليماً قّيِّماً في معهد الموسيقى و المسرح، وكان عضواً في الدفعة الثانية فيه، وزامل هناك "عبدالقادر سالم" و"وردي" و"الطيب عبدالله"  وغيرهم. وبموهبته الكبيرة وتعامله المسؤول مع الغناء كرسالة جادة، بلغ "حمد الريّح" كل طبقات المجتمع السوداني. 

اشتهر الرَّاحل بصراحته وآرائه المصادمة، وعمل نقيباً للفنَّانين السودانيِّين لثلاث دورات. وكان غيوراً على سلامة الأغنية السودانية. يهاجم الغثَّ ويقف ضدَّ القبح. كما كان سفيراً لها في الكثير من الدول العربية والإفريقية  والأوربية، وبلغ تأثيره دولاً مثل الصين و كوريا.
لم ألتقِ بالأستاذ "حمد" سوى مرة واحدة. كان ذلك أثناء حفلة نظَّمها الطلاب في دار مجاورة لمعهد "سلتي"؛ حيث كنتُ أعمل. صافحته بصعوبة وسط الجموع؛ لكن كانت دوماً تشدُّني فيه بساطته وتلقائيَّته وابتسامته الطُّفوليَّة العذبة. 
رحل "حمد الريّح"؛ لكنه أضاف صفحات خالدات في كتاب الغناء في بلادي. وضمِن لنفسه مقعداً مريحاً في ذاكرات وأفئدة عشَّاق الغناء النظيف.
عاطر العزاء لكلِّ قبيلة المبدعين في بلادي، ثم لأهله وصحابه في جزيرة توتي؛ وأخصُّ منهم صديقي وأستاذي الدكتور  الصديق عمر الصديق والأخ "عمر صلاح الدين" و"البلبل" إبراهيم خوجلي  
و العزاء موصول لكلِّ معجبي الرَّاحل المقيم؛
والحمد لله ربِّ العالمين. 
....
 جدَّة 
 نوفمبر للعام 2020