تحت زخات الخطر
تحت زخات الخطر لمياء شمت لطالما تزينت الشوارع، المائرة الحاضرة بجلال عند ميقات ثورتها، بالحشود وهي تهدر لترفع رايات ومشاعل ثورتها العاتية التي يتعذر اختزالها إلى محض فعل سياسي عكسي، أو رد فعل معيشي لاقتصاد تقشفي منهار. فقد علت موجات الهبة المهيبة هذه المرة وتوهجت وقائعها الحية بروافع اجتماعية شابة واعية وفاعلة ومبدعة، أدركت قيمة أن تخصب حقلها الثوري بعصف متجدد لاقح بعد أن حرثته الجموع بإصرارها وعزقت تربته وشقت جداوله. ومع كل لحظة تمر يتبين أكثر أن الأمر ليس بأية حال بتقليدية الصورة التي اختزنتها الحافظة الجمعية لما سبق من هبات شعبية راعدة، فالمشهد الراهن يسترفد من كل ذلك المدد ولكن على طريقته الخاصة. فهو يضطرم بفعل ثوري نوعي ترفده طاقات اجتماعية وإبداعية تفاعلية ناهضة وواعية وملهمة، وجموع خاشعة للنداء وقائمة إلى فرض ثورتها، ومستيقنة بصلابة إرادتها الجماعية، ومستوعبة لمفردات هبتها المختلفة بسعة ممكناتها وتنوع تكتيكاتها، وهي تتقدم لتمد يدها العزلاء المقتدرة لتقطف ثمار الحرية العزيزة من ذلك الدغل الخطير بحسكه المسموم، وأشواكه الحادة وزواحفه الغادرة الضارية.
تحت زخات الخطر
لمياء شمت
لطالما تزينت الشوارع، المائرة الحاضرة بجلال عند ميقات ثورتها، بالحشود وهي تهدر لترفع رايات ومشاعل ثورتها العاتية التي يتعذر اختزالها إلى محض فعل سياسي عكسي، أو رد فعل معيشي لاقتصاد تقشفي منهار.
فقد علت موجات الهبة المهيبة هذه المرة وتوهجت وقائعها الحية بروافع اجتماعية شابة واعية وفاعلة ومبدعة، أدركت قيمة أن تخصب حقلها الثوري بعصف متجدد لاقح بعد أن حرثته الجموع بإصرارها وعزقت تربته وشقت جداوله.
ومع كل لحظة تمر يتبين أكثر أن الأمر ليس بأية حال بتقليدية الصورة التي اختزنتها الحافظة الجمعية لما سبق من هبات شعبية راعدة، فالمشهد الراهن يسترفد من كل ذلك المدد ولكن على طريقته الخاصة. فهو يضطرم بفعل ثوري نوعي ترفده طاقات اجتماعية وإبداعية تفاعلية ناهضة وواعية وملهمة، وجموع خاشعة للنداء وقائمة إلى فرض ثورتها، ومستيقنة بصلابة إرادتها الجماعية، ومستوعبة لمفردات هبتها المختلفة بسعة ممكناتها وتنوع تكتيكاتها، وهي تتقدم لتمد يدها العزلاء المقتدرة لتقطف ثمار الحرية العزيزة من ذلك الدغل الخطير بحسكه المسموم، وأشواكه الحادة وزواحفه الغادرة الضارية.
وهكذا فقد تابعت الأنظار تحول النزوع الفطري العارم للحرية إلى حراك حثيث واع بصير وموزون الخطواتٍ، وتصعيد واثق وئيد للمضمون الثوري، وإنهاض متصل لشعاراته بروافع اجتماعية وإبداعية متنوعة عملت على تعرية الواقع الزري، وكشف الأغطية عن مستور الفساد السلطوي بدخيلته المتحللة المنتنة.
فلم يملك العالم إزاء ذلك إلا أن يستدير دهشاً وهو يشهد هذا المد الثوري الجياش، والفيض الإنساني الثجاج بتعبيره العفوي الفصيح الحصيف المواكب لجملة التحولات المتسارعة في مشهد متقد مضطرب استطاعت فيه الحشود أن تبتدع ألف طريقة وطريقة لتعلن بأن الإمبراطور عارٍ ودميم، لئيم زنيم، ومعزول ومهزول.
وتحت زخات إبداع ارتجالي فوري متجدد، استطاع أن ينفض يده عن القديم المستهلك لينتج شعاراته ولوحاته ويبتكر هتافاته المختلفة، ظلت الحشود تزحف لتدك المتاريس وتهشم الأسوار، وتكسر رتاج الأبواب العالية، فتحول الشوارع والساحات من أمكنة اضطرارية خطرة إلى ورش إبداعية حية وزاخرة تتلاقى فيها أوردة الدم والحبر واللون، والنغمة والصوت لتعشب ذلك الحيز الثوري المقدس بمستطاعات جمالية وأياقين فنية عامرة بالمعاني والرؤى، ليُترجم ذلك العنفوان النضالي إلى لافتات احتجاجية كثيفة ومبتكرة، ورسوم ساخرة، ونكات لماحة ذكية، وأشعار لا ينقص مضمونها التعبوي اللاهب من عذوبة قراحها المستطاب، ومواويل وأهازيج وغناء ملحمي مهيب، وأقواس وحلقات رقص تراثي وأداء جماعي متسق شارك فيها حتى اليفع الصغار، وهو يفيض سلاسة وعفوية بإرزام الخطوات الموقعة وحركة الأجساد النظيمة التي تهدر بها أمواج بشرية نسيقة تتكاتف متواشجة كبنيان مرصوص سامك وهيط الساس، ليتحول ذات النفث الغلياني في لحظاته المتوهجة إلى نفح إنساني وانتشاء جمالي، ونتاج إبداعي شديد التجاوب والتعبير عن لحظته الثورية الخاصة.
وهكذا فقد تحولت الشوارع والساحات والمنصات الإسفيرية سواء بسواء إلى مواكب ومراسم ومعارض تشكيلية وفوتوغرافية مفتوحة، وأركان للشعر والخطابة والتصوير والإخراج، امتد فيضها المبدع ليطال أهازيج ولهو الصغار، وزينة البيوت ونقوش الحناء، ليتحول كل ذلك وبشكل تلقائي إلى لوحات مناهضة فطنة التعبير.
ويمضي الفعل الثوري الرزين ليراكم دلالات باهرة للوعي بأهمية التسجيل والتوثيق ورصد أدق تفاصيل المشهد، وأرخنة ملامح هذه الغضبة الفتية ليس فقط في الذاكرة القومية، بل على امتداد الأفق الإنساني الكوني. فقد ساهم شيوع التقانات والمنصات المرقمنة في إتاحة تواصل شبكي دؤوب برزت معه للوجود ظاهرة المواطن الصحفي الرصاد الحريص على توثيق وتدوين اللحظة المعاشة بكل تشابكاتها واعتمالاتها وتفاصيلها. مع الحدب على مراقبة المشهد عبر عدسات التسجيل التصويري والصوتي، وبالقلم واللون وضربات الفرشاة، وبمفاتيح اللوحة الرقمية وحدقة العدسة التي ظلت تجوس قلب الحدث الميداني بزواياه المتعددة لتنقل أكثر المشاهد صدقا وتأثيراً دون الحاجة لإخضاعها لأي مؤثرات فنية أو عمليات مونتاج تجميلية ملفقة.
وقد ظلت تلك السلطة المؤثرة المتنقلة في الشوارع تمارس مهامها وتعلن عن وجودها المركزي المهم الذي خضعت لصدقيته الفضائيات العتيدة فلم تجد إلا أن تشرع بواباتها الإلكترونية أمام مده التوثيقي الراصد، في حركة عكسية تتزود فيها وكالات الأنباء ذات الزهو والصيت بالخبر الطازج من يد المواطن المتسلح بوعيه، وبمراقبته المسؤولة اليقظة لما يجري من حوله. لينتج ذلك بدوره ثورة أخرى على مستوى إنتاج وتلقي الخبر جعلت المتلقي عبر العالم يبدو شديد الزهد في مراوغات الصحف ذات الاشتراطات والأجندات الخفية، وغيرها من الأبواق الدعائية الطافحة برغو الكذب الأصفر الخبيث، ميمماً وجهه بدلا عن كل ذلك تجاه قبلة الإعلام الجديد، وهو ينقل للعالم لحظة انقصام ظهر الاصطبار المديد بهبة مزلزلة رازمة أنتجت فعلها ولغتها ونكهتها ومزاجها ومعناها الخاص، وظلت حشودها تترى وتتواتر لتكرف عبقها وتهزج بعديلة نضالها السلمي اللحوح، وتكحل رؤاها وتشكل أحلامها بروح ثورة خضراء فارعة وراسخة الجذر، عرفت كيف توثق عرى النسب القومي الجليل، والإخاء الإنساني النبيل المحتدم برغبة الانعتاق واسترداد حق الحياة..