بهنس.. هزائم الجيل الثالث
بهنس.. هزائم الجيل الثالث _1) عماد البليك تمت استعارة مصطلح الجيل الثالث من الكاتب والمفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد (1942 -2004)، الذي قسّم الأجيال السودانية في الفترة الحديثة منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، إلى ثلاثة أجيال
بهنس.. هزائم الجيل الثالث _1)
عماد البليك
تمت استعارة مصطلح الجيل الثالث من الكاتب والمفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد (1942 -2004)، الذي قسّم الأجيال السودانية في الفترة الحديثة منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، إلى ثلاثة أجيال، حيث يشير الجيل الأول إلى صناع الاستقلال إلى حقبة الستينات ومن ثم جيل السبعينات فالثمانيات، فالجيل الثالث الذي يُحل أثره منذ التسعينات في القرن العشرين، وهم في الغالب اليوم أعمارهم إذا أخذنا بمسألة السن فوق الأربعين إلى الخمسين.
هذا التقسيم الزمني أو الكرونولوجي (علم التسلسل الزمني) قد لا يكون دقيقا لأن تعريف العطاء والمعرفة الإنسانية قد لا يتم بهذا الشكل، غير أن حاج حمد كان يقصد به معنى تثويريا، عندما جاء إلى السودان بعد غياب طويل نهاية التسعينات بهدف تأسيس حركة اجتماعية ذات بعد سياسي اطلق عليها اسم "الحركة السودانية المركزية" (حسم) سرعان ما حُلت لأنها لم تجد المناخ مناسبا للعمل السياسي والاجتماعي في البلاد. وقد كان رهان حاج حمد على من اسماهم "الجيل الثالث" الذي كانت أعمارهم وقتها في حدود الخامسة والعشرين إلى الثلاثين، كان يرى فيهم إمكانية صياغة مستقبل جديد للوطن والخروج به من "المأزق التاريخي" وهو جزء مستل من عنوان كتابه الشهير "السودان المأزق التاريخ وآفاق المستقبل".
ينتمي بهنس، أو محمد حسين بهنس (1972 -2013) إلى هذا الجيل الثالث الذي سوف نكتشف أن له سماتًا معينة وخصائص تختلف عن الجيلين السابقين له، فقد بدأت في عهده فكرة التثوير والانفتاح حيث أنه أو جيل يعاني ويلات محاولة "أسلمة" المجتمع السوداني بناء على أسلوب الأخوان ومدرسة الترابي، فقد شب وعيه مع بزوغ ما يعرف بـ "الإنقاذ" التي استمر أثرها لثلاثين سنة، قبل أن تزاح بواسطة "الجيل الرابع"، إذا ما تمسكنا بفكرة الأجيال والاستمرار في تعضيدها بناء على الخط الزمني الذي ابتكره حاج حمد.
قبل أن ندخل في تحليل خصائص هذا الجيل باستفاضة، يجب أن نوضح المناخ العام لبنية الوعي السوداني التي جعلت مسألة الأجيال ضرورية لفهم الأطر الثقافية والعطاء المعرفي والإبداعي.. مع الملاحظة العامة بأن قضية المناكفة والصراع بين بنية الوعي القديم والحديث ظلت قائمة في تيار الوعي العام للمجتمع، وقد برز ذلك في شخصيات معروفة كالتيجاني يوسف بشير (1912 -1937م) وقضيته الشهيرة مع المعهد العلمي التي انتهت بفصله ومن ثم خرج لنا بديوانه الرائع "إشراقة" الذي شكل "إنجيلا" لوعي بمبكر في فهم الطبقات الخفية للصوفية السودانية والإسلام السمح الذي كان ينبغي أن يسود لولا انتصار سلطة الإسلام السياسي والمادية الجامدة التي حذفت الروح عن السلوك والمعرفة.
أيضا سوف نلمح هذا الصراع قائما في تجربة معاوية محمد نور (1909 – 1941) الذي يمثل صورة للمثقف الجدلي والعارف الذي أتخذ طريقا مُعلمنًا (من علمانية) بخلاف التيجاني ذو البعد الصوفي والديني، بيد أنه في نهاية المطاف لم يستطع أن ينتصر قصاد المعوقات الاجتماعية يضاف لها سلطة الحداثة التي وقفت ضده هي الأخرى. إلى أن نصل إدريس محمد جماع (1922 – 1980) الذي امتلك الحس الشاعري والجمالي وهو يمزج بين المعني الإنساني والصوفي والمادي، في تركيبة يصعب فك طلاسمها بسهولة، كانت لها أبعاد مستلة من صميم التجربة الحياتية والتجربة التاريخية للعائلة، الخ.. من هذه المقومات التي تتطلب المزيد من التفكيك والوعي بها لفهم هذا العقل، الذي انتهى بمأساة معروفة.
في مثال آخر سوف نقف مع عبد الرحيم أبو ذكرى (1943 – 1989)، الذي جاءت نهايته في موسكو عندما قفز من نافذة غرفته في الطابق الثالث عشر من مبنى الأكاديمية الروسية للعلوم، ليقع على الرصيف في الشارع، ويروى بأنه أحرق بعض من مؤلفاته قبل وفاته، على طريقة الفيلسوف العربي أبوحيان التوحيدي، وهي أيضا رواية تتطلب التعمق، تلك الحكاية التي سرد جزءا من تفاصيلها روائي وشاعر تونسي هو يوسف رزوقة، في روايته "مسمار تشيخوف" الصادرة في أبريل 2014، ويقف فيها على سيرة أبو ذكرى الذي عرفه عن قرب في روسيا والذي يرد اسمه في النص باسم "ذاكر" المأخوذة من الاسم أبو ذكرى.
تتوالى هذه النماذج التي يصعب أن نحصرها، بحيث تبقى علامات منها، تروي عن تلك المعاناة وقصة الهزائم المستمرة للمثقف السوداني.. ومفهوم "الهزائم" غير مفهوم "الفشل" الذي جاء به الدكتور الراحل منصور خالد، حيث أن الفشل مرتبط بـ "النخبة" التي تعني عند منصور خالد طبقة معينة من صناع القرار السياسي في المقام الأول بالإضافة إلى بعض من المساهمين في تشكيل الذهن الفكري، الذي له انعكاس على الأداء السياسي.
فالنخبة هنا ليست تلك الطبقة المثقفة أو المبدعة التي طالما تم أبعادها أو استثناءها في سيرة السياسة السودانية برغم حدوث تقاطعات ما بين المثقف والسياسي، كما في تجربة محمد أحمد محجوب وآخرين، لكن يجب التذكير بأن العقل السياسي، حاول احتواء فكرة الإبداع وتجييرها لصالحه بحيث يكون للمبدع تعريفا محددا وفق الأدوات السياسية يمينا أو يسارا، وكانت في الغالب تميل لكفة اليسار التي تعني التحرر والانتباه والانفكاك، وهو تفسير غير دقيق، جعل كثيرا من العقول الوقادة والمبدعة تبعد عن دائرة الضوء. وهذه واحدة من أزمات السودان.
في مقابل الفشل كانت "الهزيمة" أو "الهزائم" في إشارة للتكرار، والمحاولات المستمرة لصناعة المعنى من خلال وعي الذات، وهي مفاهيمية تشير إلى أن الجيل الثالث كان له هذه الخاصية بخلاف صناع "الفشل"، ففي الهزيمة تتضافر مجموعة من العوامل الدينية والسياسية والاجتماعية والأطر الثقافية والمعرفية، في حين يكون الفشل لجدليات مرتبطة بالأنا وعجزها في التماهي مع فكرة العطاء والإنتاج والإضافة للمجتمع كما في رؤية منصور خالد.
في جدليات أبو القاسم حاج حمد كانت ثمة محاولة لربط العقل السياسي والثقافي وفق نموذج جديد، حاول اصطحابه منذ عصور قديمة في الثقافات المؤسسة للسودان الشمالي في حضارات النوبة منذ الفترات الوثنية مرورا بالمسيحية، في حين يكاد العقل قد تعطل بعد ذلك ليصل إلى ما عرف بالتيار الصوفي المهيمن على الوعي الجمعي، الذي تحول في نهاية الأمر إلى مادية متكلسة وخسر رهان التقدم والقدرة على تطوير النسيج الاجتماعي لصالح الحداثة.
يأتي نموذج بهنس امتدادا لتلك التقاطعات ما بعد التجارب المذكورة، وفي قصته التي تشبه رواية مؤلمة تجسيد لألم ووجع جيل كامل، كما سوف يتضح من خلال هذه القراءة والتحليل للسيرة والمسيرة وصولا إلى النهاية الحزينة، التي تشابه النماذج السابقة، ولكن بدراما مختلفة غاية في الأسى والتعذيب، نموذجا يضاهي الأساطير والملهاة الإنسانية وبؤس المبدع وهو يبحث عن معنى لذاته في هذا العالم وهو يحاول أن يكتشف الطريق في مجتمعات غاية في التعقيد من حيث بنى الوعي الخرافي في مقابل سيطرة الثقافة المادية التي تبدو من وهلة أولى مضادا للخرافة، لكن الكشف المتأني سوف يدلل على أن هذا ليس صحيحا، فالوثنية في عبادة العجل والذهب هي نفسها الخرافة التي جعلت من شعوب وأمم لا تؤمن بغير الغيب الوثني وليس المتعالي، ذلك الإحساس الخالص بالله وجمالية المطلق.
- يتبع -