الــشــــلال جمال بو ثلجة... الجزائر 

الــشــــلال جمال بو ثلجة... الجزائر  الجدار الأول  .. وتجرجر الذاكرة أعطافها .. حدثني عن القرية بصفاء سمائها ، ونقاء هوائها ، وأكواخها ذات السقوف المتهدلة  والمغطاة بالهشيم ، وكيف أن معظم سكانها كانوا من أبناء العمومة ، وحدثني كيف كان مجتهدا في فلاحة أرضهم ، وكيف تزوج من أمي ، لقد باعها أبوها في السوق ، واشتراها أبوه منه ، وضحك كاشفا عن صف من الأسنان الذهبية..

الــشــــلال جمال بو ثلجة... الجزائر 

الــشــــلال

جمال بو ثلجة... الجزائر 

الجدار الأول 
.. وتجرجر الذاكرة أعطافها ..
حدثني عن القرية بصفاء سمائها ، ونقاء هوائها ، وأكواخها ذات السقوف المتهدلة  والمغطاة بالهشيم ، وكيف أن معظم سكانها كانوا من أبناء العمومة ، وحدثني كيف كان مجتهدا في فلاحة أرضهم ، وكيف تزوج من أمي ، لقد باعها أبوها في السوق ، واشتراها أبوه منه ، وضحك كاشفا عن صف من الأسنان الذهبية..
حدثني كيف رفضت الزواج منه لأنها كانت تحب إنسانا آخر هو ابن عمه ، حينها تملكه الغضب في غمرة الغيرة الطاغية ، لأنها ستصبح زوجته ، لذلك قرر التخلص منه ، ولكن حين هدأت ثائرته ، قرر عدم تنفيذ ما صمم عليه ، إذ لا يجوز أن يتخلص من ابن عمه من أجل بقرة !!وضحك ثانية برنة صافية ، ثم صمت ، ولم يخبرن عن آخر لقاء له بحبيبته ، وكيف أقنعها بالزواج من غيرها وقال لها : " إن طاعة الوالدين من طاعة الله عز وجل " ..
حدثني عن يوم زواجه ، وعن الوليمة الضخمة التي لم تشهد لها القرية مثيلا وصمت ولم يخبرن عن بقية الليلة ، وكيف قفزت العروس إلى سطح  الكوخ  وجلست هناك تندب حظها ، وكيف أرغمها والدها على النزول بالبندقية ..حدثني كيف أنجبا طفلا ذات يوم ، لا بحكم الرغبة الممتدة على مساحة الحلم ، ولكن بحكم .. بحكم .. صمت ثم ربت على كتفي وقال : " وكنت أنت يا عيسى" أمك وحدها كانت تخبرك بكل شيء ، حدثتك وحدثتك ، لأنها كانت تريدك أن ترى الأشياء على حقيقتها وأن تصنع قرارا .
الجدار الثاني 
ـ هل كان ذلك ممتعا ؟ 
وجلجلت ضحكتها تعصف بشراع الصمت ..
لم أكن أدري بما سأجيبها أو ما سأفعله اتجاهها ، تمنيت لو أستطيع أن أطبق بيدي على رقبتها ، أن أنسف بقبضتي ما تبقى من أسنانها ، لكنني أشحت بوجهي عنها باتجاه النافذة ، ورحت أتأمل شرائط الفجر وهي تشرح جثة الليل ، معلنة عن رغبتها في التمدد وسط هذا الفراغ .
الساعة تنهش الصمت بدقاتها المنتظمة ، كل شيء كان يبدو متراكما أمام عيناي وفي رحم أفكاري ، الغرفة الضيقة ، الصور الممتطية لجياد الرغبة ، وهذا الوجه المشوه لمعالم الزمن . صفقت الباب بشدة ، وجرجرت أقدامي في تعثر الأفكار الطريق بلا وجوه ولا ذاكرة غير تنهدات الفجر الباردة ، التي راحت تستفز الدموع من عيني ، أحسست بشيء ينحدر من أنفي ، لم أكن أستطيع أن أخرج يدي المتجمدتين من جيبي المعطف ، رفعت رأسي متحديا ، ورحت أخطو في أعماق هذا الشارع المزدان بهذا الضوء الأغبش بعد أن انطفأت أضواء المصابيح كآبات الليل ما تزال تدفع بأفكاري إلى هوة الصخب .. لماذا أحاول دائما أن أشوه ذاكرتي بأعقاب الماضي ؟ لماذا تبقى صورتها دائمة العبث بأعماقي تستبيح حرمة الأفكار ..
الغربان تنعق ، الشلالات المترامية تهوي في بحيرة الذاكرة لتولد الصخب ..
ماذا لو طرقت بابي الآن ، وأخبرتني بقرارها الأخير واعتذرت  ، وأنها كانت ضحية توهج حلم زائف ، ألا يستحق هذا القرار لحظة أخرى من الأمل ؟ 
وتهزني صرخة مدوية في أوتار حنجرتي :
" كلا .. كلا ،الذي مضى لن يعود ، إلا كصيف سابح في غلائل الحر ، هي التي فكرت ، هي التي قررت ، وهي التي أخاطت وعاء للذاكرة ."
ما زلت أتذكر ذلك المساء المطارد بالغيوم ، عندما انتشلني صوتها المضطرب من التجاويف المظلمة :
ـ كم الساعة ؟
وعادة ما يكون السؤال بداية لحوار آخر ، ودون أن أحول نظري عنها قلت لها :
ـ السادسة مساء 
تململت في وقفتها ، وبدت علامات القلق على وجهها ، حاولت أن أجرفها إلى شلال التساؤلات ، ولكنني اكتفيت بالنظر إليها في صمت شارد .. توقفت الحافلة تزاحمت الأجساد  سمعت امرأة تصرخ :
ـ ابنتي ، ابنتي ، قليلا من الهواء .
ضغطت بجسدي على الباب ، خطفت الطفلة لأرفعها عاليا ، واستسلمت لهذا الشلال البشري الذي راح يقودني إلى مبتغاي ..
وبعد أن استقر بي المقام ، راحت عيناي تنقبان  عنها ، حاولت  جاهدا أن أتقدم ولو خطوة واحدة ، دون جدوى ، وفي كل مرة تراودني فكرة النزول ويوقفني الخوف من النزول ، وفي المحطة الأخيرة قفزت إلى الأرض ورحت أتصفح وجوه النازلين ، لقد نزلت في محطة ما .
في مساء الغد ، وجدتني أسارع الخطى نحو المحطة تسبقني دقات قلبي المنتفضة اعتذرت كم مرة من المارة دون سبب ،وابتسمت في غمرة نشوتي وعيناي تقتنصانها من بعيد ، وسط هذه التكتلات  البشرية ، يولد الحلم بلا انتظار ، يترعرع بلا انتظام ، ليذوب الصمت في توهج الكلمات ..
ـ كم الساعة ؟ 
انتزعتها من شرودها ، نظرت إلي بعينين دافئتين .. لسعتني ابتسامتها ، شدت إليها حافظة أدواتها ، غمر شعرها وجهها بعد أن خفضت رأسها وتماوج جسدها النحيف في سكينة ..
ما لهذه الذكريات تطوقني تدفعني وكأنني جثة بلا أقدام ..
الغربان تنعق .. الشلالات تهوي في بحيرة الذاكرة لتولد الصخب .
قالت لي ذات مرة :
"في كل بحر يتصارع الموج ليولد الخوف من  المغامرة وموجك يولد في الخوف من ألا أغامر " .
مددت يدي محاولا أن أطوقها في غمرة نشوتي ، لكنها دفعتني بلطف ، وراحت تسارع الخطى متعثرة بأفكارها ..
وظل المساء يجمعنا يرسم على شفقه آخر صيحة في عالم الأحلام ، تقول لي :
"لكي أعرف حقيقتي يتوسدك خيالي ، ينتشر صوتك في كل ذرة من كياني ، فيلعلع صوت الأمل ".
وأقول لها :
" في عينيك يكبر موج الأحلام ، أرفع شراعي نحو الأمل ، ثم يولد موج آخر أسافر به نحو أمل آخر" .
الغربان تنعق .. الشلالات المترامية تهوي في بحيرة الذاكرة ليولد هذا الصخب 
الجدار الثالث
وظل أبي يحدثني عن الهدايا التي حملها إلينا ، وصمت ولم يحدثن أن الجبهة هي التي أرغمته على العودة إلى الدار ، وهي التي دبرت أمرالهدايا ، ثم حدثني كيف احتضنني في حنو وعانق زوجته في حرارة ، وصمت ، ولم يخبرن كيف تسلل من الدار في هزيع الليل الأخير .. ثم حدثني انه كان مسئولا عن المؤونة وصمت ، ولم يخبرن أنه كان مسئولا عن النساء أيضا اللواتي يلتحقن بالثورة  .. ثم حدثني كيف حكم عليه العدو بالإعدام لمرتين، وصمت ، ولم يخبرن كيف قتل ابن عمه بتهمة الوشاية به ، ثم حدثني كيف انفصل عن أبيه ، وصمت ، ولم يخبرن كيف ترك عائلته تحت سقف متهدم وانصرف إلى عبثه ، وكيف كان يضرب أمي عندما يعود في آخر الليل سكرانا ، ويطلب منها تفاصيل مخجلة عن علاقتها بابن عمها وظل يحملها كوارث الدنيا .. 
هو لم ينس أبدا رغم تراكم السنوات .. هو لم ينس أبدا .
أحس بأنفاسه تلفح وجهي ، جسده يلتصق بجسدي وبيده تهزني من كتفي ، يوقظني ، ليبدأ الحديث الصامت . 
ذات صباح أيقظتنا أمي على غير عادتها ، وأخبرتنا بأنه رحل ، ولن يعود ، ثم نفضت غبارا وهميا عن يديها وانصرفت ، مقاومة دموعا تزاحمت على حافة جفنيها ..
" هو لم ينس أبدا "
الجدار الرابع
أفرغت ما تبقى من الزجاجة في جوفي ، كنت أجلس على الأرض وأمامي صورته .. كنت أخاطبها بعد كل جرعة بهمهمات فارغة المعنى ، كانت مستلقية على السرير تنظر إلي برهبة ، هي الآن تنتظر مني أول شيء لتفعل كل شيء اخترقت ضحكتي هذه الجدران الجوفاء ، ثم انطلقت أبكي في حرارة ، جثت على ركبتيها ، أمسكت برأسي بين يديها ثم ضمته إلى صدرها في حنو ، بينما انطلق صوتي المخمور يملأ تجاويف الصمت .. 
حدثتها عن قريتي .. عن إخوتي وعن يوم سفري ، وصمت ، ولم أخبرها كيف ظلت أمي صامتة وغشاوة من الدموع تغطي عينيها  ، وكيف ابتسمت في ذبول .
حدثتها كيف تسللت من الدار باكرا دون أن أوقظ أحدا ، لأنني لا أحب لحظات الوداع ، وصمت ، ولم أخبرها كيف تسللت إلى حجرة والدتي  واستوليت على مجوهراتها لأبيعها فور وصولي ، ثم حدثتها عن أول كأس وأول امرأة ، وصمت ولم أخبرها كيف سرقت مني جميع نقودي ، وتسللت في غفوتي.
حدثتها عن ذلك المساء الذي التقيت فيه  بها في المحطة ، وعن الأحلام الجميلة والحب السرمدي ، وصمت ، ولم أخبرها كيف وجدتها ذات صباح داخل سيارة تحجز نصف الطريق ، وعن وجنتيه الحليقتين وضحكتها التي تكاد تخترق زجاج السيارة ، وكيف رحت أختبئ وراء أفكاري لعلها تمحق الصور التي اقتحمتني  وكيف رحت أعدو والدموع تفيض من عيني ، ونعيق الغربان يمتد ويمتد  والشلالات تهوي في بحيرة الصخب ..
 الحلم يولد بلا انتظار ، يترعرع بلا انتظام ، ليموت بلا حقيقة ..
هي لن تعرف الحقيقة ، وحدي أحمل أتعاب كل هذه الذكريات ، وحدي أقاتل صمتي المتعب ، ليت أنفاسي تلفح وجه أبي ، ليت يده تمتد إلى كتفي لتوقظني من تعبي وأخبره دون صمت ، لأنني أعرف بأنها الفرصة الأولى والأخيرة ..
ظللت أحدثها وأصمت ، ضممتها إلى صدري بكل قواي ، أحسست بشفتيها المتهدلتين تداعبان رقبتي ، أنفاسها تصم أذني ، بعد لحظات ستسألني :
" هل كان ذلك ممتعا ؟" 
أصفعها ، أقذفها إلى الأرض  عندما تحاول أن تتعلق برقبتي ، وأخرج إلى الشارع ككل فجر لأرسم بغبشه صورتان على وجه الفراغ .