فن الاستماع الذكي في أغنية عثمان حسين ( قصتنا )
فن الاستماع الذكي في أغنية عثمان حسين ( قصتنا ) روعة اللحن , وجمال الصوت , وعذوبة الشعر عزالدين ميرغني قرأت الكتاب التوثيقي الذي أصدره الصحفي والناقد الفني طارق شريف قبل سنوات , عن الفنان الكبير الراحل عثمان حسين
فن الاستماع الذكي في أغنية عثمان حسين ( قصتنا )
روعة اللحن , وجمال الصوت , وعذوبة الشعر
عزالدين ميرغني
قرأت الكتاب التوثيقي الذي أصدره الصحفي والناقد الفني طارق شريف قبل سنوات , عن الفنان الكبير الراحل عثمان حسين . وهو عمل مقدر يضيف للمكتبة السودانية سفراً توثيقياً جديداً , في دنيا الفن والغناء والطرب , لفنان دخل وجدان الشعب السوداني , وغنّي وراءه الكل كما يقول الأستاذ طارق الشريف , في مقدمته للكتاب الذي أطلق عليه الفراش الحائر . والذي يهديه للشعب السوداني كله فيقول : ( إلي السودان , الحضن الكبير , الذي احتضن موهبة عثمان حسين وزمرة المبدعين من الشعراء والموسيقيين , حتى تفجّر إبداعهم كالشلال الهادر . لقد اتخذ طارق شريف منهج التبسيط في الكتابة عن الفنان الرائع عثمان حسين . وهو يروي تاريخ هذا الفنان من بداية الميلاد والمنشأ , وحتى اكتمال الموهبة وانطلاقها . والتوثيق لم يحتكر صفحات الكتاب كلها , وإنما قام بتقسيم الكتاب إلي أربعة أقسام . في القسم الأول , وبحسه الصحفي الإعلامي , كتب بحثاً عن حياة الفنان , ونشأته , وتطور حياته الفنية . وفي القسم الثاني , قدّم نماذج مختلفة للشعراء الكبار الذين تغنّى عثمان حسين بأشعارهم . وفي القسم الثاني استقطب نقاداً ومتخصصين في الموسيقي والغناء والشعر , ليكتبوا عن تجربة الفنان عثمان حسين الغنائية. وفي القسم الرابع , لجأ للتوثيق بالصورة لمختلف مراحل حياة الفنان . وفي الختام وكمنهج بحثي حديث , أورد المراجع المختلفة التي رجع إليها . وبهذا يكون بحثه وتوثيقه عن هذا الفنان قد اكتمل تماماً , من كل جوانبه . وهو عمل فني توثيقي ناجح , فليس بالضرورة أن يكون الصحفي الفني , ملماً بكل ضروب الفن المختلفة ومتخصصاً فيها , ولكن في الإلمام بمبادئها العامة , وتوسيع معارفه وعلاقاته العامة , ومن ثم استنطاق المتخصصين منهم في كتاباته وتوثيقه , وتظهر مقدرته الصحفية في غربلتها وجمعها وتنقيحها وإخضاعها للتقنية الصحفية , حتى تصل للقارئ العادي شيقة وسهلة . وفي هذا فقد أفلح الكتاب كثيراً , خاصة ونحن نفتقد أصحاب النقد الفني المتخصص في مسيرتنا الفنية منذ الاستقلال , وحتى الآن , ما عدا بعض القليل .
لقد كان أسلوب الكاتب رومانسياً في بداية الكتاب , والذي يكتب في صفحة 25 منه فيقول : ( الفنان هو طائر البشارة الذي يشقشق خارج القفص , لأن الفن الذي يبقى أسير الحيطان الأربعة , هو فن لا يملك بوصلة التواصل الايجابي ) .
لقد أثار في كتاب الأستاذ طارق الشريف , ذكريات عالقة في الذهن , وخاصة فأنا من الذين يعشقون أغاني الفنان الكبير عثمان حسين , وأكثر أغانيه التي تعجبني هي أغنية ( قصتنا ) . وهي من كلمات الشاعر الكبير ( حسين با زرعة ) , خاصة الجانب السردي فيها , من ما يجعلها تدخل في تقنية الشعر السردي بجدارة . وهذه الأغنية بلحنها وكلماتها , قد دخلت تاريخ الأغنية السودانية من أوسع أبوابه . رغم أن كل أو أغلب أغاني هذا الفنان الخالد هي من الأغاني الخالدة والمميزة .
في مقدمة كلمات هذه الأغنية يقول الشاعر حسين بازرعة , (( بالمعزة , بالمودة البينا بأقوى الصلات )) . ويبتدئ الفنان عثمان حسين غناء هذا المقطع الأول لهذه الأغنية بترديد كلماته واحدة وراء أخرى , بهدوء وروقة , كأنما فعلاً يريد أن يحكي لنا قصة ملحنة . والموسيقي تتابعه هادئة وليست صاخبة , فالأذن تتطلب سماع الكلمة قبل الموسيقى . وهذا الاستفتاح الموسيقي واللحني الهادئ تتطلبه الأغاني الطويلة ذات المقاطع الشعرية المختلفة . وهو موجود عند المغنين الكبار في العالم العربي , وخاصة الفنان عبد الحليم حافظ , وأم كلثوم وفيروز . والقصد من هذا الاستفتاح الهادئ , تهيئة أذن المستمع , لسماع كلمات عميقة , وموسيقي جميلة , ولحن راقي . بعيداً عن التهريج الصوتي المزعج الراقص . فالاستماع لأغاني عثمان حسين , ومنها هذه الأغنية هو ما أطلق عليه الموسيقار الدكتور أنس العاقب , الاستماع الإدراكي ( music appreciation and analysis) . وفي هذا تنبيه للأذن المثقفة والذواقة. وهنا يستنطق الفنان عثمان حسين الجملة الشعرية عند حسين بازرعة حتى تسمعها الحبيبة المخاطبة , وهو يستحلفها ويترجاها مكرراً , (( بالمعزة , بالمودة )) , كأنما صوت الفنان واللحن وسيطاً بين الشاعر وحبيبته . واللحن الجميل والصوت الشجي , هو الذي يجسد دائماً دلالة الكلمة ومقصد الشاعر . بعد ذلك يبدأ صوت الفنان عثمان في التصاعد , سارداً وقاصاً , في حكاية أقرب للحكاية الشفهية , فيقول : (( بالهوى العشناه , باعصابنا , خمسة سنين ومات )) . وهنا لا تزال الموسيقي هادئة هدوء صوت عثمان حسين , وهدوء مقام المعنى الذي يتطلب ذلك , بحيث يهيئ ذهن المستمع , لاستباق النهاية , والتي ما كشفتها البداية . وهذا هو قمة التشويق السردي في القصة . ( قصة الحب ) . والذي له مغزاه , كان تحفيزه هو القفلة والسكتة التي لجأ لها الفنان عثمان حسين , بصوت حزين حيث يتطلب المعنى ذلك الحزن الصوتي . وهو يستبق نهاية القصة في بدايتها . ( تقنية الاستباق ) .
بعد ذلك يبدأ المقطع الموسيقي في التصاعد . ويبدأ معه صوت الفنان يرتفع متدرجاً أيضاً مع الموسيقي واللحن , دون زعيق موسيقي أو لحني صوتي . فقصة الحب الحزينة التي استمرت ( خمسة سنوات ) ثم ماتت , لا تتطلب الإزعاج الصوتي أو الموسيقي . وزمن القصيدة في الستينات يتطلب كتمان الحب وعدم التصريح به , فقد كان لا يسمح بعلاقة زوجية خارج مؤسسة الزواج , والتي يعبر عنها الشاعر أبلغ تعبير في القصة بقوله (( بالعذاب الشفته , والسر الكتمته )) , وتلك الجملة الشعرية يقولها عثمان حسين بصوت متأوه حزين . وتحس كأنها قصته , وهكذا هم أهل الفن الكبار يتقمصون شخصية الشعراء , فتخرج حارة وصادقة . وهو ما يمكن أن نطلق عليه ( الصدق الغنائي ) . وقد كان صوته وهو يستحلف الحبيب ليترك سبيله في قمة الانكسار العاطف النبيل . ويأتي هذا الاستحلاف بتمديد صوتي وموسيقي مصاحب لكلمة (( أستحلفك )) , وقد فصلها من باقي الجملة الشعرية , وجعلها مستقلة لوحدها . ثم يواكب صوت عثمان حسين , انكسار الشاعر العاطفي , وهو يشرح سبب الاستحلاف ويبرر الانكسار , وقد بذل الفنان في هذا المقطع مجهودا صوتياً جباراً , ليجمع بين كلمات جملة شعرية ذات قافية وموسيقي واحدة لاهثة ومتتابعة , بميلودرامية واضحة , ( سيبني وحدي , أقاسي وأبكي , مر الذكريات ) . لقد استطاع صوت عثمان حسين ذو الطبقات المتعددة أن يستوعب ذلك المقطع الشعري الصعب , دون إدغام , أو سرعة صوتية مخلة تلتهم نهاية القافية أو الرّويْ , ومعروف صعوبة نطق القافية التي تنتهي بالياء المجرورة مع كلمات كثيرة مترادفة ومتتابعة . بعدها يتصاعد صوت عثمان حسين , حزيناً , سارداً لقصة حسين بازرعة , بحيث نعود معه إلي عصور التروبادور التي كان الشاعر هو المغني والراوي والمؤلف , فيواصل سرد القصة , وهو يقول : (( أنا بحناني خصيتك , وحبيتك بكل جوارحي )) , وتظهر في هذا المقطع بحة صوتية محببة في صوت عثمان حسين , وهي نعمة صوتية موجودة عند بعض المغنين ولكنهم لا يوظفونها توظيفاً جيداً . وهذا الصعود والنزول والإيقاع الهادئ في صوت عثمان حسين , يبرز دور الصوت الجميل المنسق في إبراز المعنى والمضمون في القصيدة المغناة , بعدها يأتي أجمل الأبيات في تاريخ الشعر الغنائي السوداني (( أنا شلت من أجلك هموم الدنيا )) , وكلمة << شلت >> في العامية السودانية من الكلمات الرقيقة والتي تعني الأخذ برضا واختيار برغبة وحرية . فالشاعر إذاً كان مخيراً ومنقاداً لعاطفته بكامل حريته , وقد كان صوت الفنان حاضراَ وهو يجاري الصدق العاطفي للشاعر بازرعة , الذي يعترف كأنه أمام كاهن , ويرتاح صوت الفنان متخففاً من هموم الدنيا الثقيلة (( قاسيت من همومها ومن جراحها )) , وهذه الجملة الشعرية تنطبق علي الكل , ومن هنا يأتي دور الفن في تخفيف عذابات المستمع لفن الغناء الراقي . ثم تصل القصة إلي مقطع شعري ومعنى آخر , والذي يبلغ فيه صوت الفنان ذروته , قائلاً : (( كل طائر مرتحل , عبر البحر , قاصد الأهل , حملته أشواقي الدفيقة )) وهنا يسرد قمة معاناته , في الاغتراب والبعد عن الأهل والوطن . تلك المعاناة جسدها الصوت واللحن , لتصبح قصة كل مسافر وبعيد عن الوطن . الذي يتذكرون (( ترابه وشطآنه , والثري الوريفة )) . ومن مزايا هذه القصيدة الخالدة , أن الشاعر بازرعة يزاوج بين الفصحى والعامية زواجاً فيه مودة ورحمة . ( فالثري وريقة ) , ( والمسير مضني) ( والغيرة لها ضباب ) , ( والحقيقة مزيفة ) , ( والخطى ذليلة ) . هذه المزاوجة الرائعة بين الفصحى والعامية , هي حفظت للأغنية السودانية احترامها , بعد أغاني الحقيبة , وأغنية قصتنا لم تزاوج بين العامية والفصحى فقط , وإنما تناغم المعنى مع اللحن والموسيقي , من ما جعلها من الأغاني الخالدة في وجدان الشعب السوداني . ويقول أهل النقد الفني بأنها من الأغاني النادرة التي يعرف شاعرها . وهي في رأي الكثيرون هي سيدة الأغنية السودانية . ففيها التعدد اللحني والطبقات الصوتية المختلفة . ويختم الشاعر قصته بكلمة عتاب مستخدماً تقنية الرجوع في السرد القصصي , (( لكن حنانك لي أو حتى مشاعرك نحوي ما كانت حقيقة )) , وهذه المبشرة محببة في الشعر الغنائي , ويبلغ صوت الفنان قمة هدوئه , وحاولا تبرير يأسه فيقول : (( ما بأيدي لو ضباب الغيرة أعماني . زيّف للحقيقة )) , ويعود الأمل مرتفعاً مع صوت الفنان الخالد بفرح طفولي , ويعود التوازن والفرح , قائلاً : (( أنت نبع حناني , انت كياني , انت الدنيا )) . وهذا الفرح يظهر فجائياً (( انت الدنيا )) , ولكن هذه المرة عادت نفسه بدون شك وغيرة , وعادت الدنيا دون هموم . عادت ببهجتها وشروقها . وقد كانت نهاية القصيدة رائعة ليس فيها نهاية للقصة وإنما استمرارية لها , لأنهم عاشوها (( نحن عشناها بدموعنا , بالضنى , في كل دقيقة )) , وهي تنتهي بالجمع (( قصتنا قصة حب أقوى من الحقيقة )) .
إن الفنان عثمان حسين , فنان يعلمك فن الاستماع العميق والانجذاب الصوتي واللحني , والموسيقي , دون أن يطغى أحدهم على الآخر . وكما قال عنه الدكتور أنس العاقب إنه مؤلف موسيقي , لأن عملية التلحين في أصلها هي تأليف موسيقي , ( music composition ) , فهو فعلاً كذلك , لأنه من جيل الكبار الذي يلحن , ويوزع ويغني بنفسه , وهي ثلاثية نادرة , ثم قبل كل ذلك الذوق السليم في اختيار القصيدة الراقية ذات الكلمات الصادقة والمعبرة , كيف لا !! , وحسين بازرعة في هذه القصيدة قد ( انكسر , واستحلف , وأقسم , وسرد , وناح , وبكى , واشتاق وقدم واعترف , ثم اعتذر , وعشم )) . وفي هذه الأغنية قدم عثمان حسين درساً للأجيال القادمة من الفنانين , بأن بان العامية السودانية قمة ان اخترنا لها اللحن والموسيقي الجيدة وان الأغنية الجميلة هي التي تبقي لكل الأجيال ما بقيت الأذن السودانية مثقفة وواعية .