ديوان "فوانيس كفيفة" لفراس فرزت القطان
ديوان "فوانيس كفيفة" لفراس فرزت القطان رومانتيكية الخطاب والمغامرة الشعرية عامر محمد أحمد حسين القاريء لديوان "فوانيس كفيفة" للشاعر السوري "فراس فرزت القطان" تستوقفه المقدمة العميقة والمختصرة للشاعر السوداني الراحل محمد محي الدين اذ تقف المقدمة على تقسيم الخطاب وفق قراءة وافية كافية
ديوان "فوانيس كفيفة" لفراس فرزت القطان
رومانتيكية الخطاب والمغامرة الشعرية
عامر محمد أحمد حسين
القاريء لديوان "فوانيس كفيفة" للشاعر السوري "فراس فرزت القطان" تستوقفه المقدمة العميقة والمختصرة للشاعر السوداني الراحل محمد محي الدين اذ تقف المقدمة على تقسيم الخطاب وفق قراءة وافية كافية، وملتزمة بضوابط قراءة نقدية ابتعدت مع الاختصار عن الإبتسار. ويرى محي الدين أن صاحب الديوان التزم الاخلاص للموروث الشعري العربي وللمغامرة الحداثية وتميزت هذه القصائد التي بين يدي القاريء باهتمامها بموسيقى الشعر بصورة قربتها من قصائد الرومانتيكيين العرب" الرومانتيكية حسب تعريف المفكر البريطاني الراحل من الأصول الروسية "إيزايا برلين 1907-1998م" وهو قد عرف كمنظر سياسي، ومؤرخ بالدرجة الأولى، واشتهر بدفاعه عن التعددية وهجومه على التعصب الفكري. يرى "أزايا برلين" في كتابه "جذور الرومانتيكية" أن الرومانتيكيةتمثل احتجاجاً على قيم عصر التنوير, بعقلانيته وتوازنه وإصراره على قابلية جميع الأسئلة للاجابة اذا استطاع الانسان الوصول الى المنهج الملائم, وان الرومانتيكية يعتبرها "أزايا برلين" التحول الأعظم في الوعي الغربي منذ عصر التنوير ويشمل التأثيرات الايجابية والسلبية. وحركة الرومانتيكية مثلها مثل عصر التنوير كانت ذات تأثير عالمي"(1) وتأثيرها على العالم العربي كان كبيراً وان أشار الكتاب الى أن تأثير الرومانتيكية على تحولات الوعي في العالم العربي وان كان يراها مختصرة على الآثار الفنية والأدبية لدارسيها العرب مع إحالات ثابتة وغير مساءلة.
وقد يرى القاريء العجب في ربط الرومانيكية كمدرسة أدبية لها اشاراتها المعرفة لغويا ومصطلحات، باشارات قراءة ديوان "فوانيس كفيفة" إلا أن الخط العام الذي يشير للديوان يراه يستوحي الخيط الناظم للرومانتيكية في مناجاة الطبيعة ببشرها وحجرها وشجرها، لقراءة داخلية لمأساة انسانية تشير لها الأيادي بمأساة سوريا. ويقول "أزايا برلين" "لقد خلقت مجالات الأخلاق والسياسة فوضى استثنائية، كان من الواضح تماماً في ذلك العصر التنويري. كما هو الآن أن الناس لم يعرفوا الاجوبة على أسئلة العصر. كيف ينبغي لنا أن نحيا؟ هل الجمهوريات أفضل من الملكيات هل من الصواب السعي وراء المتعة أو أن يقوم المرء بواجباته؟ أو هل يمكن التوفيق بين تلك التعارضات؟ هل من الصواب أن نبقى زهاداً أو أن نكون شهوانيين؟ هل من المناسب أن نطيع نخبة يعرفون الحقيقة"(2) ان ديوان "فوانيس كفيفة" تنوع في خطابه بين الاحتجاج على عصرنا الحديث, الألفية الثالثة وما يراه زمناً كله أسى، وحسرات، دون أن يستطيع الشاعر تغيير ما حوله من نفوس تعيش، في متاهة، وتعاسة، وشقاء, ولعل مالم يصرح به الديوان "فوانيس كفيفة" تمثل في هذا التضاد المبهر والباهر بين الفانوس ورمزية النور، والرؤية والرائي والعمى وخروج البصر والتبصر عن دائرة التأثير لوجود الظلم. هذه الثنائية الظلام والنور يوازيها الشر، والخير.، والمفارقة أن العنوان في استراتيجيته لم يبتعد عن الرومانطيقة من اعتماد الخيال والعاطفة منطلقاً للرؤية الفنية وهذا يناسب تماماً رؤية الشاعر، واعتماده حوار الطبيعة في ظل صراع الانسان مع، واقعه ومع السلطة المجتمعية والسياسية. ويؤكد نقاد في دراسات مختلفة أن العنوان لا ينفصل عن مكونات النص ومراتبه القولية وان اختياره لا يخلو عن مضمونه وأنه مفتاح تأويلي" على قول المفكر الفرنسي الراحل " جيرار جينت ".
مضمون الخطاب
ويرى الدكتور عصام حفظ الله واصل في" كتابه تحليل الخطاب الشعري – دراسات سيميائية "أن الجمل البدئية تمثل مفاتيح العتبات النصية، التي تسهل عملية تلقيه وقد تسهم في تفكيك شفراته"(3) والمثال في ديوان "فوانيس كفيفة" هو نص "هتلر الرسام" في هذه القصيدة تستمر الروح الرومانتيكية في استنطاق التاريخ وكلنا يعلم أن الفوهرر "ادولف هتلر" كان رساماً فاشلاً لم يجد الشهرة في الفن، فأتجه الى المجتمع من أجل تحميله ثمن هذا الفشل والعمى في الألوان "لو أن هتلر ظل رساماً يحاصرنا بألوان من الأزهار، تنكر كذبة الأمجاد, لا تاريخ يكتبه سوى بالسيف من ساسوا من ألف جوكندا وتاريخ يخلد كل دافنشي. على مرأى من الانقاض تسخر من وصايا الحرب, تزهر ألف بيكاسو..
هتلر الرسام هذا لو أنه بقى في محاولة الرسم، ومكابدة الفشل، لما دفعت المانيا ثمن هذا الفشل. , تسخر من وصايا الحرب, تزهر ألف "بيكاسو" ثنائية الجمال والقبح, النجاح والفشل "هتلر – بيكاسو" مع تلازم الجيوكندا مع دافنشي إلا أن اتحد الأدنى انسانية بحدث عن تاريخ لم يكتبه، سوى السيف وأمجاد كاذبة. في مفتتح القصيدة نقرأ.
"لا زال في دمنا كليب
كلما هز الوصايا العشر فينا
اشعلتنا شهوة الثأر المرابط
في حنايا زيرنا المشتاق للحرب الفناء
ولما لبى الوصايا
عاد بشرعها مدى الطوفان جساس
وفي ختام القصيدة:
في الليل فينا هتلر الرسام
يرسم صورة الطفل اليتيم مدللاً
ما بين أحضان الطبيعة والتسكع
بين أرصفة المنافي"
ثم يصحو في الصباح لكي يزاول مهنة أخرى
ويكبر طفلنا
في الماء.. صورتنا كليب واضح
وعلى مرايا الماء – جساس انعكاس.
لعل في اكتمال الصورة، في تجليات دائرية النص في مزج صورة هتلر, بالزير, جساس, بالثأر باللوحة, ما أراه صورة احتجاج على دائرة العنف المرئي واللا مرئي اذ أن الاقتداء بصورة البطولة عند الرسام أو الزير, أو جساس هو القيد في توصيف منظومة الرموز داخل العقل الجمعي والدعوة هنا لتأسيس رؤية مختلفة، عن ماهو محقق داخل مواثيق التراث، اذ كان تاريخ الحرب العالمية أو تاريخ حرب البسوس، ما بين روح الرسام العنيفة، والفارس، والشاعر الباحث عن الثأر.
الوعي بالمأساة
قصيدة "من أبجدية الحرب" ينطبق عليها الصرخة ضد جوهر الحرب وتكاليفها وكلفتها الباهظة في اخراج حرية الفرد والجماعة من الاستقرار النفسي، والاجتماعي، والجسدي، الى متاهة المأساة واللا استقرار. ومقام الابجدية دائماً السلم والتصالح إلا أن الشاعر "فراس فرزت" يسعى لتأسيس التضاد وفق، رؤية شعرية تأخذ من روح الفلسفة الاصرار على قراءة الوعي الداخلي، وتصويره في دائرة الضمير، وفقاً لرسالة وروح الفنان الرافضة للعنف، والمحفزة على الحب والكرامة والعزة والحرية الكاملة..
غاب القناص ثلاثة أيام
عن موعده الرسمي
وضج الناس
امرأة قالت:
بغيابه غير روتين الوجع الواحد فينا
غاب الناس عن الاحساس،
الاستثناء ليس حضور "القناص" وما يسببه، من مأساة، وقتل عبثي، ولكنه غيابه, وهذا يوضح صورة الحرب في أبجديتها السورية, وسابقاً اللبنانية والعراقية والفلسطينية, هذا القناص هو أداة من أدوات القهر النفسي، والقتل الجسدي، وتقييد العقل، والوجدان, بحبال الخوف، والترقب والتوجع، وصورة الصياد الانسان لم تترك للحيوانية ابجدية تتكيء عليها.
طفال "قال"
"غداً لن ينقص تلميذ آخر في الدرس
والطفلة قالت:
والبائع سوف يبيع الحلوى
والشعراء على الأطلال بكوا
كان المشهد فوق العادة شعرياً
فمشوا في جنازته ثم رثوه
وضعوا إكليلاً من آس
"والطير على الأنقاض تغرد هازئة
فالأرض يباس
والعرافة تقرأ في الفنجان المقلوب
سوف يؤوب
الجرح عليك هو المكتوب
يا وطني
ورفاق القنص وشت لهم
أحوال الحي، وما يروى
وبصوت لا يقبل لبس
قال الناس
لابد تنكر
وهو اليوم "يرافقنا"
تميز هذا النص بروح هازئة، رافضة، وساخرة، وهي ترى الموت "قنصاً" كل يوم والصورة تمثل النموذج الواضح للحرب وفتنة القتل والعبث بالأرواح, بالناس بالطفولة بالأمل, بتغييب العدالة كلياً بل قتلها وتحول الانسان الى وحش له بندقية, وروح صياد في غابة من الوحوش الضارية. سريالية الصورة تعكس صورة الغابة وليس الأرض الناس. هل يتجلى المكان الشعري في بحثه عن الخلاص، وأولوية رفض الحرب، ووقف القتل والعودة، بالانسان الصياد الى انسانيته.
بقايا حوار.
اشتمل الديوان على قصائد لم تخرج من طابعه الذي اختاره في كل القصائد السابقة من حيث الخطاب, الفكرة, الرؤية, وهذه القصائد على رأسها "أفعلتها" وهي قصيدة فيها الحزن المقيم عند الشاعر على "فقد" كبير مر به..
فلا فسحة في العمر عادت
لا.. ولا وقت بديل
قلبي.. فهامش عمرنا كذب
وهامشنا على الأنقاض أضغاث
كأني ما سمعت الليل ينهرني
صدى الأحباب مثل الزيت في القنديل ايقاع خجول وكذلك قصيدة "خارج ايقاع الألوان" وهي خفيفة الايقاع..
هو لون لا يهوى المدح
معنى لا يحتاج الشرح
هو ظل الألوان جميعاً
يصمت.. يصمت حد الفضح
وكذلك قصيدة "غفران" التي لم تخرج من ذات المنوال. إلا أن قصيدة غزل "ابنتي" وهي قصيدة مناجاة لطفلته..
يابرعم أحلامي الأجمل
يانخلة ظلي
شرنقتي
اغترف الشاعر من معين الشعر الرومانسي العربي جزالة اللفظ وقوة المعنى وارتضى أن يأتي بالنموذج القديم في استحضار المعنى من بين آلاف المعاني في كلمات بسيطة تخاطب الضمير والعقل والعاطفة لتواجه العصر الجديد ومآسيه، وحروب عديدة، , وتتشكل داخل هذه القصائد صراعات، الواقع والانفجار المضاد ضد الازدواجية في الهوية الانسانية، التي تعاني ما تعاني من ويلات العصر.
الذاكرة.
هناك قصائد عديدة ذات رؤية وروح متأملة منها قصيدتي وظالم العينين وأخرى متفلسفة مثل ديكارت وهي صوفية تأملية عن الشكوى والارتياب والخوف. في كتاب "الرومانسية" يقول "مارشال براون" "ان السيادة الشاملة للخيال في نظرية التحديث وكذلك تصدر المخيلة الشعريةو والنقدية الجديدة ولذا عند "بودلير" طريقة حياة كثيرة التطلب بكل ما فيها من قيود ومتاعب ومتع أيضاً ويضيف "سعى بودلير لفهم جوهر هذا التحديث كيف نعيشه وكيف نتخيله وكيف نكون أبطاله ورسله وفي خلال هذه العملية يظهر الوعي المتضمن أحياناً والصريح أحياناً أخرى في كل من الرمزية والسريالية"(4) والقاريء لديوان فوانيس كفيفة يرى في ثنايا النص روح الوعي المضمن كل ما يحيط بالشاعر من رمزية اللغة التي تعالج العنف بالكلمة والسخرية أحياناً وسريالية المشهد وما يتضمنه من وجود "قناص" يغيب فيفتقده الصغير والكبير وكان الأصوب أن يكون "معدوم المكان غائب عنه "ومستتر في عنفهم".
وتخلص الورقة الى الآتي:
1/ تميز الديوان بخطاب تراسلي واقعي ارتبط بروح شفافة في مخاطبة الكون مع درجات حضور صوفي, وبرهان على أن العصر الذي نعيشه يحتاج خطاباً رومانتيكياً في مناجاته مع رؤية عميقة للعصر عبر الكشف عن القيم العاطفية في مواجهة طغيان المادية.
2/ استلهم الشاعر روح الرائي المحايد، في كتابة بعض القصائد كأن لا صلة بينه وبين الواقع هذا ليعرضه على القاريء مع قصائد خاصة تتضح معالمها من حدود شخصيته والحياة التي يعيشها.
3/ لم يخرج الديوان من القالب الشعري المعتاد الذي نعرفه في القصيدة العربية الحديثة وتسعى للتجديد عبر الخطاب الشعري، في ايجاد مكانة رمزية، تحقق له التوسع في قراءة ما حوله غير، الشعرية المتدفقة.
4/ استند على التضاد في ايجاد الكلمة ونقيضها وهذا واضح من العنوان ودرجة الإبصار في رؤية غير بصرية يختفي فيها الوضوح ويظهر الغموض، والتجليات الباطنية، والنظر، بالقلب، والعقل مع ادراك أن الخيال، والحلم، والوهم، تساهم جميعها في تخفيف القراءة الكاملة للواقع.
5/ يعطي الديوان المثال على أن الشعر العربي، لا تزال موسيقاه الداخلية تلعب دوراً في بياناتها وتبين الشعرية من غيرها،وفي مخاطبة الجمهور، وأن الشعر الجيد يعيش وينتصر بغض النظر عن قالبه الذي يخاطب به العصر.
6/ الصورة الشعرية في الديوان على رغم ما صاحبها من رؤية باصرة، ومبصرة، للواقع إلا أن الفكرة قد طغت أحياناً على الصورة ولم يعطها الديوان ما تستحقه من مشهدية، ورمزية لقراءة الواقع ب، زيادة مساحة رقعة الخيال في تصور ما وراء الحروف، إلا أن الديوان في خطابه قد أشار أكثر الى أهمية اعلاء قيمة الفكرة مع شاعرية قوية الملامح.
المراجع.
1/ جذور الرومانتيكية – ايزايا برلين" – ترجمة "سعود السويدا" – جداول للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 2012م – بيروت لبنان – ص 16
2/ نفس المصدر السابق ص 63
3/ في تحليل الخطاب الشعري – دراسات سيميائية د. عصام حفظ الله واصل – دار التنوير الجزائر طبعة أولى 2013م
4/ كتاب الرومانسية - تحرير – مارشال براون – ترجمة ابراهيم فتحي – لميس النقاش – موسوعة كمبردج في النقد الأدبي – المجلد الخامس – الرومانسية – الطبعة الأولى 2016م
5/ ديوان – فوانيس كفيفة – الناشر الشركة السودانية للهاتف السيار "زين" الطبعة الأولى 2015م-مدارك للطباعة والنشر.