الكراسي.. المكرّسون.. ومرادفات الحضور
الكراسي.. المكرّسون.. ومرادفات الحضور سوزان ابراهيم في ديوان آسر يحمل عنوان (الكرسي) تناول الشاعر ( شيركو بيكه س) موضوعاً بطلُه مادةً جامدة ذات جذرٍ حيٍّ: الكرسي- الخشب المفطوم عن أمه الأشجار, فنسمع حوارية شعرية بين أفراد مجتمع الكراسي.
الكراسي.. المكرّسون.. ومرادفات الحضور
سوزان ابراهيم
في ديوان آسر يحمل عنوان (الكرسي) تناول الشاعر ( شيركو بيكه س) موضوعاً بطلُه مادةً جامدة ذات جذرٍ حيٍّ: الكرسي- الخشب المفطوم عن أمه الأشجار, فنسمع حوارية شعرية بين أفراد مجتمع الكراسي.
لم أملك تقييد خيالي عن التجول في الباحة الخلفية للموضوع: الكرسي وكيف يحتل عملياً واجهة الحياة على ساحتنا اليومية, وعلى كل الأصعدة! فما هو الكرسي؟ ما أهميته في الحياة؟! أهو مكان جلوس فقط؟ أهو مادة جامدة نحركها وفق إراداتنا ونشكلها وفق ديكورات وألوان أمزجتنا لتناسب معمار نفسيتنا؟ هل ترتبط بمصير ما؟ لماذا تحوّل الكرسي إلى رمز علوي وأيقونة مقدسة للسلطة؟ والسؤال الأهم كما يبدو لي: من يصنع من! هل نصنع الكرسي أم أنه من يصنعنا؟
بين أن تكون كرسي نفسك, وبين أن تكون كرسياً لآخرين ثمة بون شاسع, بين أن تكون نجار كرسيك, وأن تكون كرسياً أنجزه نجار آخر مسافة وجود وتحقق ذات! في الحالة الأولى أنت صانع مصيرك, في الحالة الأخرى مصيرك ما يصنعه لك الآخر, يقول "بيكه س": (ما تصيره مصيرك.. مصيرك ما يصنعونه منك!)
حين نتحدث عن الكرسي لن يغيب عن ذهننا ما كنا نفعله صغاراً في لعبة الكراسي حيث تنطلق الموسيقا ويبدأ الدوران حولها, فتصير هي المركز, ونحن الذرات التي تدور في فلكها. تصير هي (الكعبة) ونحن نطوِّف حولها. في لعبة الكراسي يخرج من المنافسة من لا يتمتع بالسرعة اللازمة للقنص, والانقضاض على مكان جلوس!
أي مكان هذا الذي عليك أن تخطفه, وأن تدوس الآخرين لتستمد كيانك من كيانه؟ إنه ليس أكثر من كرسي تفقده مع نهاية اللعب!
تتمتع الكراسي بعمر مديد, فلها كما قال الشاعر (شيركو بيكه س) عمر أطول من عمر إلهها النجار- الصانع: ( نحن قوم الكراسي عمرنا أطول من عمر إلهنا النجار) فهل ظن أحد من أعضاء اللعبة أنه مالكٌ كرسيَّه إلى ما لا نهاية؟! الجالسون متغيرون والكراسي ثابتة, الجالسون أحياء, والكراسي لاحياة فيها!
ولكن أي مفارقة هذه التي تتخلق ههنا: جماد الكراسي يهب الحياة للجالسين عليها, ويعجز الجالسون الأحياء عن نفخ ذرة حياة في موات الخشب- الكراسي؟! جماد الكراسي قد يهب الخلود للأحياء, رغم أن الخشب قابل للاحتراق والتحول إلى رماد, أما الأحياء فخالدون بخلود النوع, فكيف لحاضن الحياة أن تصنع مصيره كرسي؟! كيف يسمحُ لنجارٍ آخر أن يصنع مصيره؟!
في كتابها (أحاديث مع والدي أدونيس) الصادر عن دار الساقي, تحدثت "نينار إسبر" عن الكرسي من منظور آخر, يتمم ويكمل دائرة المعنى, تقول مخاطبة والدها أدونيس: " أنت أورثتني حبّ أشياء معينة, أولها الطاولة التي تتوسط غرفة الطعام. كنتما (وتقصد والديها) لا تبرحان جالسين أمامها كل يوم, ساعات طويلة على كرسيين, وفي يد كل منكما كتاب. كنت أراكما جالسين بلا حراك, ثم بعد لحظة لا أعود أراكما. كنت أرى طاولة وقنديلاً وكرسيين وكومة من الكتب. جسداكما منحلان في الكرسيين بلا فكاك, واليوم فإن الكرسي هو أحد العناصر التي أستخدمها في عملي" ثم تضيف: " كان الكرسيان هناك وليس أنتما, وخاصة أنت, الذي كنت تسافر كثيراً... ومثلما جعلتني الكتبُ أفكر فيك, كذلك فعل الكرسي, كنت أنت تسافر والكرسي يبقى, وحينذاك تعلّقت بالكرسي وبالأشياء"
لا أقصد الربط بين ما قاله شيركو بيكه س, وما قالته نينار, لكنني أودُّ ربط المعنى الذي أقصده عبر إيراد تلك الأقوال, وأسأل: لماذا أجلس الدين (الله) على كرسي العرش؟
هل يبرر هذا ما يعانيه العربي من فوبيا الكرسي, وما تتمتع به من سلطة مادية ومعنوية؟ كيف يمكن للجماد أن يحل محل الحي؟ كيف يمكن للكرسي أن يحل محل الأب؟ هل يمنح ذلك مبرر السعي والاقتتال والنفي والتدمير من أجل الجلوس على كرسي؟! هل تتماهى ههنا صورة الله في الجالس على كرسي!
أرى أيضاً أن الكرسي الإلهي بقي منفياً بعيداً في السماء غائباً أو مغيباً, وغير مرئي إلا من خلال تجسداته أو تجلياته, هكذا غدا الحاكم ممثل الله المفوض بصلاحياته على الأرض, ولهذا الحاكم بطبيعة الحال أسماء مختلفة ليس أولها الأب وليس آخرها الحاكم! تغيب الكرسي عن مدى الرؤية, ويغدو الجالس عليها بعيد المنال حتى بالنظر( ليجرب فرد عربي مقابلة رئيس الدولة أو ملك المملكة) سيزرعون قبل الكرسي عتبات وأبواباً وحجاباً وحراساً وسيوفاً, وهذا ما فعله الدين أيضاً. هكذا يغيب شاغلو الكراسي عن الملامسة والمواضعة, فيُلحَقون بالوهم أو بالخرافة أو بالغيب, هكذا تكثر التصورات والأقاويل والتفاسير, وحين يخلو الواقع من أولاء الشاغلين تتناسل مرادفات حضورهم بقوة, لتعوّضَ عن الغياب: تكثر النواهي والأوامر, والقوانين والأنظمة, تكثر الحواجز والمخافر والصافرات, وكلما توطّد الغياب, توطّدت الخطوط الحمراء أعمق, فقط لتقول: إن شاغلي الكراسي موجودون.
يغيب سكان الكراسي وتبقى مرادفاتهم بيننا على الأرض لتزرع وهمَ تحكّم الغائبين بكل مفاصل وجودنا, ولتغدو هذه المرادفات بديلاً فعلياً حاضراً يمارس سلطات الغائبين في تحويلنا إلى كراسٍ... مجرد كراسٍ قابلة للطي والتلوين والكسر والحرق والتلاشي.
هكذا نتحول إلى كراسٍ!