ما يشبه السيرة الذاتية

ما يشبه السيرة الذاتية اكيراكوروساوا.. العبقري الخرطوم – كليك تو برس- عامر محمد أحمد وضع المخرج الياباني الراحل اكيراكوروساوا بصمة سينمائية لا تخطئها العين, ورسم بريشته صورة ناصعة لحضارة شرقية لم يعترف بها الغرب يوماً كعادته. وفي مذكراته الموسومة ما يشبه السيرة, يخرج المخرج الراحل من داخل الصورة الحية ليتيح للقاريء التأمل في العبقريات وكيف يتم اكتشافها, وهو  فنان بطبعه يحمل معه الى مهنته عبقريته مع عدم اهتمام، وكذلك بعضاً من طيش "جميل" "من يعرف لماذا السنوات التي بدأت أذهب فيها الى دور حضانة الأطفال ليست واضحة مثل سنوات الشباب أذكر جيداً شيئاً واحداً كما لو أنه لا يزال ماثلاً أمام عيني, مكان الحدث تقاطع طريق تقطعه سكة

ما يشبه السيرة الذاتية

ما يشبه السيرة الذاتية

اكيراكوروساوا.. العبقري

الخرطوم – كليك تو برس- عامر محمد أحمد

وضع المخرج الياباني الراحل اكيراكوروساوا بصمة سينمائية لا تخطئها العين, ورسم بريشته صورة ناصعة لحضارة شرقية لم يعترف بها الغرب يوماً كعادته. وفي مذكراته الموسومة ما يشبه السيرة, يخرج المخرج الراحل من داخل الصورة الحية ليتيح للقاريء التأمل في العبقريات وكيف يتم اكتشافها, وهو  فنان بطبعه يحمل معه الى مهنته عبقريته مع عدم اهتمام، وكذلك بعضاً من طيش "جميل" "من يعرف لماذا السنوات التي بدأت أذهب فيها الى دور حضانة الأطفال ليست واضحة مثل سنوات الشباب أذكر جيداً شيئاً واحداً كما لو أنه لا يزال ماثلاً أمام عيني, مكان الحدث تقاطع طريق تقطعه سكة حديدية, أبي وأمي وأخوتي يقفون خلف الحاجز في الجهة المقابلة وأنا أقف في الجهة الأخرى وحيداً, كان يعدو بيننا كلبنا الأبيض سعيداً فرحاً ويهز بذيله, قطع السكة مرات عديدة وحدث أن اتجه نحوي مع ظهور القطار, أغمضت عيني وعندما فتحتهما كان القطار قد مر ولأرى الكلب مقطوعاً الى نصفين, رأيته يشبه سمكة حمراء كبيرة مهروسة, لا أعرف ما الذي حصل فيما بعد. تهاويت على الأرض واذكر انه في وقت متأخر أصبح بيتنا مكتظاً بالناس الذين جاءوا مع كلاب بيضاء يحملونها على أذرعهم, واضح أن أهلي أرادوا ان يعوضوني بكلب أبيض وحالما عرضوا علي أحدها حتى وقعت في هيستريا "لا أريده.. لا أريده" ألم يكن من الأفضل لو أنهم وجدوا لي كلباً أسود طالما الأبيض يثير عندي هذا الاحساس الفظيع"..

الصورة الأولى

للمرة الأولى رأيت سينما - المصورون المتنقلون" هكذا كانوا يسمونها الجزء الأكبر من الصالة لا توجد فيه كراسي فلذلك غالباً ماكنا نفترش الأرض العائلة كلها قضت وقتها ناعمة بهذا الامتياز, لا أعرف ماهي الأفلام التي شاهدتها ولكنها كانت في معظمها كوميديا. ولعي بسينما الكوميديان في ذلك الوقت لا علاقة لها بالمهنة التي اخترتها فيما بعد, ببساطة كان يعجبني في تلك الفترة أن أرى وجوهاً تتحرك على الشاشة وعندما أصبحت سنوات الطفولة بعيدة في الماضي, كنت جالساً في دار سينما "نيغيشكي" الفيلم يروي قصة بعض الأطفال المتخلفين عقلياً. الجميع في غرفة الصف يستمعون الى المدرس. طفل انزوى جانباً بعيداً عن بقية الأطفال وواضح انه لا يعير انتباهاً للمدرس ولا للدرس فشروده بليغ, أثقلني هذا المشهد, وفي نفس الوقت ايقظ بداخلي شعور غريب بأني رأيت في مكان ما هذا الطفل.. من كان يا ترى؟ تذكرت فجأة هذا الطفل هو أنا, نهضت بسرعة وخرجت الى الممرات حيث تمددت على كنبة واسترخيت خائر القوى.

لا اعتقد انني كنت متخلفاً عقلياً ولكنني نضجت ببطء. لم أكن أفهم شيئاً من شروحات المدرس. وكنت استسلم لخيالات وفانتازيا من كل نوع. وفي المحصلة وضعوني في مقعد لوحدي بعيداً عن الآخرين وأعدوا لي برنامجاً تدريسياً خاصاً. أما المدرس "المسكين" فقد اعتاد وهو يعطي دروسه أن ينظر الي  نظرات ذات مغزى ويقول "لا أعلم اذا كان "كوروساوا" سيفهم هذا.. لكن أو لنشرح مرة أخرى".. هذا غير مفهوم لكوروساوا على الاطلاق لكن. وعندئذ كان الأطفال يلتفتون الي بابتساماتهم العريضة, والأسوأ انه كلما كان هذا الأمر معذباً لي كلما احسست ان المعلم على حق.

حياة المدرسة كانت جحيماً واعتقد أنه من الخطيئة ارسال الأطفال وهم يعانون من نقص ما في النمو وفي القدرة على الاستيعاب لمجرد ان الأطفال الذين يتعدون سناً معيناً ينبغي لهم ان يكونوا في صف واحد. ثمة فوارق ينبغي مراعاتها من طفل الى طفل. فثمة أطفال في الخامسة من أعمارهم أقدر على الاستيعاب من أطفال السابعة والعكس. لا يمكن بقرار أن يحدد مستوى التطور الذي ينبغي أن يصل اليه الطفل في اطار سنه. ولكنني في عامي السابع أحسست المدرسة زنزانة وانني رغماً عني فيها. وهكذا جاء الوقت الذي انقشعت فيه غيمة الضباب عن وعيي كما لو ان ريحاً نفختها بعيداً وتفتحت عيناي على هذا العالم كأنني أطل عليه للمرة الأولى. حدث هذا عندما كنت في الصف الثاني ونقلوني الى منطقة "كويشكافا" ومنذ ذلك الوقت بدأت أرصد الأشياء بلغة سينمائية, واعتقد ان زملائي الجدد كانوا مندهشين من هيئتي, وتصوروا كيف يمكن أن يكون عليه الحال وسطهم, هم الذين تربوا على الطريقة اليابانية في أدق تفاصيلها. فجأة يظهر مخلوق صغير طويل وملابسه أوروبية بنطال حتى الركبة وجوارب حمراء قصيرة ووجه رقيق أشبه بوجه فتاة, كنت شيئاً مدهشاً آنئذ, وقد أصبحت أضحوكة لكل التلامذة, شدوا لي شعري, وخطفوا لي حقيبتي عن ظهري وانقضوا على بزتي الأنيقة يدعكونها بأيديهم, ودون هذه الأشياء أنا بكاء بطبعي, وهنا ربحت لقب برغوث للمرة الأولى في حياتي, وأصبح ملازماً لي لفترة طويلة وقد عثر عليه الأطفال في أغنية كنا نغنيها في تلك الأوقات..

برغوث جاء بيننا

ولا يفعل شيئاً سوى البكاء

يذرف الدموع بسخاء

الدموع الكبيرة مثل حب "البونبون"

بصراحة أقول أنني حتى يومي هذا لا أجد متعة في الاستماع الى أي أغنية عن "البونبون".

القدر

سبقني أخي عقلياً عشرات السنين رغم الفارق بيننا لم يتعد أربع سنوات. عندما أصبحت تلميذاً في الصف الثالث كان هو قد أصبح في الصف الأول, أخي كان تلميذاً قوياً ومجداً, في الصف الخامس احتل المرتبة الثالثة في المسابقة النهائية لعموم المدينة, في الصف السادس أصبح الأول على طوكيو كلها ولكنه في امتحانات القبول للمدرسة الحكومية تعذر عليه النجاح. كم يبدو ذلك غريباً الآن.. ولا أعرف كيف تمكن من تحمل هذه الصدمة وان كان يخيل لي أنه كان يتلوى ألماً خلف وجه لا تبدو عليه علائم الاكتراث. أخي لم يعتبرني رفيقاً له لا في اللعب ولا في سنوات الطفولة. لهذا فقد قضيت معظم وقتي باللعب مع شقيقتي الصغرى. كنت في الصف الرابع عندما ألم بها مرض عضال, كما لو أن الريح نفسها التي هبت عاصفة مفاجئة عند مدخل المدرسة يوماً فالتصقنا ببعضنا وحملتنا وألقت بنا بعيداً, هذه الريح هبت واقتلعتها من هذه الأرض الى الأبد.

اعتراف

عندما قررت أن أكتب اعترافاتي التقيت بـ "كينوسكي ويكوسا" لنتكلم ونستعيد ذكريات الماضي, وأصر هو في معرض حديثه ذات مرة على أنني عندما كنا في "كورودا" وبينما نحن نتمشى قلت له أنت "موراساكي شيكيو" وأنا "سي شو ناغون" لا أذكر مطلقاً هذه الممازحة. فمن غير المعقول أن نكون قرأنا في هذه السن "أخبار غندجي" ومذكرات تحت المخدة" مهما يكن فمن الحماقة أن نقارن أنفسنا بكاتبين عظيمين.

أصوات تايشو

الأصوات التي انبعثت من حولي أثناء الطفولة تختلف عن هذه الأصوات التي أسمعها الآن من قبل لم يكن هناك أصوات كهربائية حتى أجهزة الغراموفون عملت دون كهرباء كل الأصوات كانت طبيعية ولكن الكثير منها اليوم لا يمكن الاستماع له. بوم.. بوم صوت الرعد الذي يعلن الثانية عشرة ظهراً يطلق كل يوم في هذا الوقت في معسكرات الجيش. جرس سيارة الإطفاء, صوت الطبل وصوت الإطفائي, يعلن نشوب الحريق قرقعة أدوات الحطاب. بائع الأجراس. جرس مصلح الأحذية والذي يعمل على اصلاح الصنادل أيضاً. أجراس رهبان, زئير الأسد. طبل الحاوي الجوال مع قروده, طبول القداس الكبير بمناسبة 13 أكتوبر, تاجر "الناتو" وبائع البهارات, تاجر الأسماك, بائع المعكرونة المغلية الذي يعلن عن بضاعته كل مساء. بائع البطاطا الحلوة المشوية, بائع الحشرات الرنانة "الزيز" مثلاً أصوات الطيور الناعية في السماء. الشتائم أثناء لعب الكرة. أردت أن أقول أنني أروي بعض ذكريات طفولتي والتي ترتبط بالأصوات التي كانت تردد على مسامعي آنذاك, والآن عندما اجلس وأكتب عنها أسمع أصواتاً ولكنها مختلفة - , خرخرة التدفئة المركزية, نداء عبر مكبر صوت قادم من ميكروباص, يعلن عن استعداده لشراء جرائد قديمة, هذه كلها أصوات كهربائية ولا أعرف ما اذا كان لأطفال اليوم أن يفخروا بأصوات لا تمثل أي ذكريات..

المعلم "ياماسان"

كنت في الثالثة والعشرين من عمري عندما توفى أخي "هييغو" في السادسة والعشرين بدأت أعمل في السينما, خلال هذا الوقت لم يحدث معي شيئاً يثير الاهتمام - في الواقع حصل شيء آخر بعد انتحار أخي, جاءنا خبر وفاة أخينا الأكبر بعد مرض عضال. بقيت الابن الوحيد في العائلة وبدأت أحس بتعاظم المسؤولية. في تلك الأيام كان صعباً على الانسان أن يتقدم بوصفه فناناً وعندها تولدت لدي الشكوك بامكانياتي وقدراتي. كأن يحدث معي بعد تقليب صفحات البوم لسيزان ان تبدأ الأشجار والشوارع بالتحديق بي مثل لوحته تماماً, وحصل الشيء ذاته بعد مطالعتي البوماً يضم بين دفتيه لوحات "لفان غوغ" كنت أرى العالم من خلال عيونه. ولم تكن تكونت لدي نظرتي الخاصة لمحاكمة الأشياء والتعبير عنها. وعندما ادقق الآن يبدو لي هذا طبيعياً لكنني كنت مندفعاً وغياب هذه النظرة أقلقني, وحاولت أن أؤسس لنظرتي في أي معرض أذهب اليه. كنت اكتشف لدى الفنانين اليابانيين اسلوباً غامضاً في نزعاتهم الفردية وفي الرؤيا وهذا ما كان يثير حنقي أكثر. خلال عام 1936م بينما كنت اقلب صفحات جريدة جذب انتباهي اعلان شركة الانتاج السينمائي FHL, تعلن فيه عن حاجتها لمساعدين في الاخراج السينمائي, وحتى ذلك الحين لم يخطر على بالي اطلاقاً أن أتوجه الى السينما وما ان رأيت الاعلان حتى أثار حفيظتي وقررت الاهتمام. والامتحان الأول كان كتابياً والموضوع "النواقص الأساسية في السينما اليابانية" مثير للاهتمام - قلت لنفسي بهذا المزاج المازح جلست للكتابة عن الموضوع والآن لا أذكر بالضبط ماذا كتبت؟ لكنني أعطيت رأياً متعطشاً للنقد. اضافة الى نبذة عن سيرة الحياة وأرسلت الاجابة الى عنوان الشركة. بعد عدة شهور استلمت اشعاراً بضرورة المشاركة في الامتحان التالي. ذهبت في اليوم المحدد وأنا أشعر بدهشة كيف يمكن لكتابتي المازحة أن تمر هكذا. كنت أعرف الكثير من السينما اليابانية وفي الشركة التقيت أهم معلم في حياتي "ياماسان" عندما أصل بذكرياتي الى هنا, أرى أن محض مصادفات خالصة قادتني ويبدو لي ان كل شيء كان مبرمجاً منذ زمن. بعد شهر استلمت اشعاراً من الشركة بضرورة حضور الامتحان النهائي وهو عبارة عن لقاء مع المدير العام للشركة والمدير التنفيذي المدير العام للشركة "ايفاوموري" تنحنح كما لو انه يريد فض اشتباك, اعتقدت ان هذه هي نهايتي في الشركة ولكن استلمت بعد اسبوع اشعاراً يعلمني بقبولي.

مزاح

أشد ما كان يقلق "ياماسان" هو مزاحي العاصف في كل مرة كنت أذهب فيها لأعمل مع طاقم آخر, كان يناديني على أن أقسم أنني لن انفجر وان اهديء من روعي الشيء الوحيد الذي لم أرتح اليه هو انه ينهي كل شيء وحده ولا يدع مجالاً لمساعديه. بعد الانتهاء من تصوير فيلم "المهر" تحررت من التزامات المخرج المساعد وبدأت كتابة السيناريوهات ومن حين الى آخر كنت أذهب للتصوير الاحتياطي عند "ياماسان" كتبت سيناريو "300 ري" عن رواية "هوتار ياماناكا" السينما كانت في أوضاع صعبة ولم يكن بوسع أحد تبني فيلم مشاكس. بعد رفض سيناريو "300 ري" أحسست أن قواي بدأت تخور واصلت الكتابة بيأس لاحصل على مايسد الرمق.

الفيلم الأول

يسألونني كثيراً عن احساسي عندما صورت فيلمي الاول. كما اسلفت فان عملي يقدم لي السعادة فقط. كنت أنام مساء بانتظار مجيء اليوم التالي لأصور. ميزانية الفيلم ضئيلة ولكن عمال الديكور نجحوا بتشييد كل شيء أردته منهم. وما أن أبدأ فيلماً جديداً حتى أنسى السابقة وحوادث أبطالها التي عشتها بجوارحي, ولكن ماذا يحدث الآن عندما أعرج على الماضي. أبطال أفلامي الذين نسيتهم يتوالدون من جديد. يحتشدون في رأسي ويحدثون أنهم مثل أطفالي. أخرجت أكثر من ثلاثين فيلماً ومن الآن فصاعداً سيكون سهلاً أن أتتبع الأعوام من خلال عناوين أفلامي "سانشيرو وسوغاتا" على سبيل المثال رأى النور عام 1943م "الأحلى دائماً"  بدأت تصوير الأحلى بناء على رغبة وزارة الحربية, الوزارة كانت تريد فيلماً لاستنهاض الروح المعنوية للشعب الياباني.

راشومون

فيلم "راشومون" نال جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية, لن أبحث عن عمل آخر, ظهر اعلان الحارس مجدداً, مع انني لم أعلم بارساله. فيما بعد حصل الفيلم على جائزة افضل فيلم اجنبي من الاكاديمية الامريكية للفن السينمائي. الصحافة النقدية اليابانية اعتبرت ان أسباب منح الجائزتين تتعلق بطبيعة علاقة الشرق والغرب ولقد سبب لي هذا التفكير الاحساس بالمرارة. لماذا اليابانيون لا يقدرون ماهو ياباني, ولماذا ننحني أمام كل ماهو اجنبي.