قراءة نقدية في رواية الباترا مخاوي الطير للكاتب جمال الدين علي

قراءة نقدية في رواية الباترا مخاوي الطير للكاتب جمال الدين علي أ.د. عبد الغفار الحسن محمد رواية الباترا مخاوي الطير للمبدع السوداني الدكتور جمال الدين علي، تمثل نموذجا مميزا ومختلفا في الكتابة الروائية السودانية حيث تميزت الرواية بمعالجة قضية اجتماعية ماثلة في المجتمع السوداني

قراءة نقدية في رواية الباترا مخاوي الطير للكاتب جمال الدين علي

قراءة نقدية في رواية الباترا مخاوي الطير للكاتب جمال الدين علي
أ.د. عبد الغفار الحسن محمد
          

 

 

 


               رواية الباترا مخاوي الطير للمبدع السوداني الدكتور جمال الدين علي، تمثل نموذجا مميزا ومختلفا في الكتابة الروائية السودانية حيث تميزت الرواية بمعالجة قضية اجتماعية ماثلة في المجتمع السوداني ،كما ركزت على فئة اجتماعية ونظرت إليها بمنظار مختلف رفعها إلى دور البطولة والفرادة الإنسانية والتميز، بدلا عن التصنيف العام لهذه الفئة في قاع المجتمع(ذوي الاحتياجات الخاصة).كما عالجت الموضوع بطريقة سردية مختلفة جمعت بين جمال الأسلوب والوصف، والفانتازيا، أو العجائبية ،ولامست قضايا فلسفية وتاريخية وأيدولوجية متعددة ،كما تبنت موقفا سياسيا مخاصما للوضع السياسي في زمن الرواية ،وحاولت الإشارة إلى كثير من المواقف التي يرفضها الكاتب سياسيا أو فكريا.
             فمن حيث اللغة والأسلوب نلحظ أن الكاتب اتكأ على لغة فنية مبهرة وباذخة وملفتة لنفسها مفتونة بجماليتها، تجلى ذلك في مقدرته الفائقة على رسم الصور والجمل الوصفية، والتي لا تغيب إلا لتعود من جديد. لعل الرواية في مجملها شاهدة على هذا الأسلوب التصويري البديع؛ مما يغنينا عن ضرب الأمثلة، فالرواية كلها اتسمت بلغة عربية فصيحة وصياغة فنية جمالية مع التزام بالفصحى، ولم يغرق في استخدام العامية في الحوار، بل جاءت بصورة بسيطة ومقبولة مرتبطة بالموروث الثقافي والاجتماعي.
           أما من ناحية الفانتازيا أو العجائبية: وهي طريقة في التعبير الجمالي تربط بين الواقع وما فيها من أساطير وحكايات عجيبة غالبا ما ترتبط بالموروث الثقافي في الفضاء الزمكاني للعمل الروائي.  
             وبما أن هذه الرواية قد دارت أحداثها في شمال السودان حيث الآثار النوبية القديمة وارتبطت بمنطقة اسمها مرو وبالجبل المقدس في إشارة إلى جبل البركل في تلك الآفاق، وما يرتبط بهذه الحضارة من قيم إنسانية وثقافة دينية. كل ذلك يحاول الكاتب الإشارة إليه. ويربط بين هذا الفضاء وبين السكان المحليين في تلك المنطقة في الفترة من منتصف السبعينيات وحتى أواخر عهد حكومة الإنقاذ. مشيرا إلى قيمهم الاجتماعية والثقافية وطبيعة حياتهم البسيطة. ومن هنا يبدأ الكاتب في بناء شخصية الباترا فبدأت الرواية بالطريقة التي أطل بها المولود على الكون، وأنها طريقة تخالف الدين والأخلاق وأنها مدانة من المجتمع وتتقاطع مع قيمه الاجتماعية ودينه. ولأن من ارتكب هذا الجرم هو العمدة (الذي يمثل واجهة السلطة في القرية) تكون المواجهة معه صعبة للغاية من قبل المجتمع الذي يعرف همسا من هو الذي ارتكب الجرم، ولكن لا أحد يرغب في مواجهته. ويظل هذا الطفل يتحمل هذا العار الذي لم يرتكبه، ويتحمل دفع ثمنه غاليا. ولكن الكاتب لا يواصل في تعميق هذه القضية من هذه الناحية ليقود الصراع حول فساد العمدة ومدى هدمه لقيم مجتمع هو المسؤول الأول فيه، ولم يحاول محاكمة العمدة أخلاقيا أمام المجتمع أو مواجهته، ولم يقد الموضوع إلى حيث يخدم هذه الطبقة من أبناء المجتمع الذين هم ثمرة أخطائه. وإنما يلجا إلى خلق نموذج أسطوري خاص قد يكون هو هذا الباترا، أو أي طفل آخر من أبوين شرعيين ...فكون الباترا طفلا معاقا خلقيا ،وكونه لا يحسن الحديث بصورة سليمة ،هذه الأشياء قد تكون في أي طفل طبيعي ،ولا تخدم فكرة النص الأصلية وهي محاربة الخطيئة خاصة إن كانت من الحاكم وهنا لا بد للإشارة إلى المقبوس الذي قدمه الكاتب فقي الإهداء من كلام "الأمير خاليوت بن الملك بعانخي" الذي أشار إلى أخلاق الملوك وكيف تكون حين يقول: "إنني لا أكذب ولا أعتدي على ملكية غيري ولا أرتكب الخطيئة، وقلبي ينفطر لمعاناة الفقراء ".فلم يعمق الكاتب المعالجة الفنية لهذه القضية الاجتماعية الواقعية.
              أما شخصية الباترا (المبروك)ذي الصفات العجائبية "مخاوي الطير" والذي هو في نظر المجتمع أبله أو مبدّل، ولكنه يمثل في نظر الكاتب شخصية تتمتع بصفات أسطورية عجائبية، وقد أبدع الكاتب في خلق هذه الشخصية العجائبية: فهو مخاوي الطير ويفهم لغة الطير وهو يحفظ القرآن الكريم برواياته السبع، رغم أنه لم يجلس ليتعلمه مع الصبية، وكأنما فقده القدرة على طلاقة اللسان قد عوضه الله إليه في قدرته الفائقة على السمع والاستماع...
             على كل فالكاتب خلق شخصية الباترا لتكون نموذجا للشخصية العجيبة التي تتمتع بقدرات لا يتمتع بها الآخرين وهي صفات عجائبية، فهو يفهم لغة الطير ويتحدث معه، وهو حكيم وفيلسوف تلقى هذه الحكمة من البومة الحكيم الذي هو في نظر المجتمع نذير شؤم، وهو مخاوي الحمام وكل أنواع الطيور التي مثلت الراعي له والمدافع عنه منذ طفولته حتى لحظة إنهاء حياته بالنيل غرقا. كما للباترا القدرة على التنبؤ بحدوث الأشياء قبل وقوعها وهذه من الصفات العجائبية التي تدل على أنه شخص مبارك؛ فقد علم أخبر أحدهم بموت العمدة قبل وقوعه فعليا، كما أنبأ صاحب البقرة بموت بقرته من غير أن يكون شاهدا على ذلك، ولكن هذه الحدس القريب وقوع الأشياء لا تفسير له غير كونه مباركا. أيضا قدرته على علاج المرضى وكيف أنه عالج سائق الشاحنة التي أقلته إلى ام درمان من ألم ظهر مزمن، كما عالج الدكتور عصام الذي التقاه بمستشفى الأمراض النفسية من آلام الصداع...إلخ
            في تقديري ثمة نوع من هذه الشخصيات في واقعنا الاجتماعي وقد أشار إلى ذلك الطيب صالح في روايته عرس الزين من خلال شخصية الزين (المبروك) وغيرها من قصصه الأخرى كقصة دومة ود حامد التي نجد فيها إشارة أيضا لهذا النموذج البشري. وهذه المسألة ترتبط بطبيعة المجتمع السوداني الذي يؤمن بأن هؤلاء البسطاء (المبدلون)لهم قوة خفية وأسرار لا يعلمها إلا الله. وقد نجح الكاتب في تصوير هذه الفئة.

حبكة الرواية: من حيث البناء الفني للرواية أو الحبكة يمكن تصنيف هذه الرواية ضمن روايات "الشخصية" حيث اهتمت بشخصية محورية واحدة هي شخصية الباترا مخاوي الطير التي رافقتنا منذ بداية الرواية، وانتهت بغرقه في النيل. وانصب اهتمام الكاتب –كما أشرت-إلى أسطرة هذه الشخصية ووضعها في قالب شخصية عجائبية هي شخصية (المبروك/المبدل).وقد بدأ الكاتب الرواية بطريقة سرد سريعة لخصت قصة الرواية وقصة المولود الذي أطل على الكون من غير أب شرعي في مجتمع يستعظم الخطيئة ويستنكرها، ثم تجاوز الكاتب سريعا فترة طفولته المبكرة إلى أن أطل علينا فتى يافعا يتمتع بهذه الصفات العجائبية، كما يتمتع بالحكمة ،وأنه ذو طبيعة مزدوجة (مبدل) فهو عندما يتحدث مع الدكتورة سارا أو الدكتور عصام يتحدث بعمق عن فلسفة الوجود وفلسفة الصمت وعن الأسلاف والموروث الحضاري الذي يرقد عليه مجتمع لا يعرف قيمته، حينئذ تشعر أنك أمام عالم كبير وفيلسوف متبحر في المعرفة، ولكنه لا يلبث أن يبادرك بابتسامته البلهاء وعدم استيعابه لأبسط الكلام! وهذا ما يجعله أبلها ومبدلا في نظر المجتمع. ثم تتساوق الأحداث بشكل متصل ومقبول حتى وصول الباترا لأم درمان وسؤاله عن جامعة الخرطوم وتنبؤه بأن الخرطوم "موقدة نار حمرا" في إشارة إلى المظاهرات التي صادفته مشتعلة وهو في طريقه للجامعة للسؤال عن الدكتورة الفرنسية سارا ولكننا نتفاجأ بأنه اندرج في هذه المظاهرات وأصبح واحدا من أبطالها بلا مبرر كاف لإدراجه في هذه المظاهرة التي لا تعني له شيئا. وما تبع ذلك من متاعب سياسية وأمنية زج بها الكاتب زجا ليتحدث عن خصومه السياسيين. ثم مسألة كونه قد أتى للبحث عن أمه في هذه المدينة المترهلة مسألة تبدو عسيرة ، وكيف أن الكاتب جعل الصدفة وحدها هي التي تقود الدكتور عصام "أخيه لأمه" لمستشفى الأمراض العقلية ليكون الباترا دون غيره موضوع بحثه للماجستير. وكيف يوظف الكاتب البومة الحكيم للبحث عن أم الباترا" فرحين" أو" الدولة" والتي لا يجد علامة تميزها في هذه المدينة المترهلة غير لون عينيها التي هي نفس لون عيني الباترا، وكيف أن هذا البومة الحكيم استطاع أن يلتقطها فعليا ويحددها دون غيرها من نساء العالمين ويراقبها.
            ثم أن يجعل للباترا أخا شبيها طبق الأصل يحمل نفس صفاته، مما يجعل البومة الحكيم أكثر تأكدا من أن أمه هي أم الباترا.
            وعندما ينكشف هذا السر أمام الأم عندما علمت بقصة الباترا من ابنها عصام كانت ردة فعلها غير طبيعية (اندلقت القهوة من يدها، دخلت غرفتها وأغلقتها عليها لم تتكلم مع أحد حول هذا الموضوع) فهي امرأة حاولت أن تقطع صلتها بالماضي، ولا تريد أن تفتح كوة قد تدخل إلى حياتها الوادعة الكثير من المتاعب.
         ولما علم الباترا بأن الأم هي التي حدثه عنها البومة الحكيم، يقرر الهرب من السجن برفقة البومة وكأنه في طريقه إليها، ولكنه يعدل عن ذلك فجأة ويتجه إلى النيل ليضع حدا لحياته ويحتضنه حضنا أبديا.         
               فقد لا يجد القارئ مبررا واضحا لهذه النهاية القاسية، ولكن لأن الباترا شخصية غير عادية لها قدرات خارقة كقدرته على التنبؤ بحدوث الأشياء قبل وقوعها فعليا، فقد يكون أنهى حياته بهذه الطريقة المفاجئة حتى لا يكون سببا في جلب الشقاء والمتاعب لأمه، فأغلب الظن أنه تنبأ بالحالة الحرجة التي تعيشها والدته، وأن ظهوره للعلن أمامها سيخلق لها مشكلات تؤثر على استقرار أسرتها السعيدة فاختار الموت.
          ولو أن الكاتب فتح القصة أمام نهاية طبيعية وهي مقابلة الباترا لأمه وإخوته|؛ لجعل من الموضوع "موضوع الطفل غير الشرعي" الذي بدأ به الرواية موضوعا قابلا للمعالجة "التقبل أو الرفض". ولكن الكاتب حسم هذه المشكلة بموت البطل.
         أيضا قصة صديقته الفرنسية الدكتورة سارا وعلاقته بها التي تجاوزت الصداقة إلى ممارسة الجنس، وكيف أنها ظهرت بعد غياب أربعة عشر عاما تحمل طفلا يعاني من التوحد، وأن أباه هو الباترا نفسه!؟ وهذا قد يطرح تساؤلا وهو: هل كل طفل يولد من ذوي الاحتياجات الخاصة بالضرورة أن يكون نتاجه فيما بعد يحمل نفس العاهات؟
        ثم إن الكاتب أيضا قد أبدع في إشارته إلى الفارق الثقافي بين المجتمع السوداني الذي لا يتقبل الابن غير الشرعي، في مقابل المجتمع الغربي الذي لا يمثل هذا الأمر أي إزعاج له، أو خروج عن المسموح به. فالدكتورة سارا تحمل طفلها وتسافر به إلى الخرطوم لكي يلتقي بأبيه ، ولكن الكاتب وإمعانا في القسوة على بطله، يجعل هذا البطل الباترا يهرب في نفس الليلة التي يتوقع فيها وصول سارا التي أقلعت طائرتها من إحدى المطارات الفرنسية متجهة صوب مطار الخرطوم ومعها المفاجأة التي قد تغير نظرة الباترا لنفسه وللحياة، فيموت انتحارا في النيل وهو لا يعلم أنه قد خلف من ورائه باترا آخر يحمل نفس الكروموسوم الزائد .الفرق أن له أمّاً تهتم به وتتقبله؛ لطبيعة مجتمعها المتصالح مع هذه الطبقة من الأبناء غير الشرعيين.

             المذهب الأدبي والأيدولوجيا: يمكن تصنيف هذه  الرواية ضمن مذهب الواقعية السحرية لما تمتعت به  من خطاب لقضايا الراهن الاجتماعي والسياسي والثقافي، ولكننا لا نغلو إذا ادعينا أن بالرواية ملامح رومانسية تمثلت في حالات كثيرة في تعبير السارد وبطريقة غنائية وشعرية باذخة عن حبه لحياة الطبيعة والعودة لأحضانها كمقابل لحياة المدينة المادية والخانقة ،فهو في كل حين وكلما يصدم بالواقع يلجأ إلى أحضان الطبيعة متمثلا ذلك في ذكريات الراوي في القرية مرو والجبل المقدس وموكب الطيور...
              ولكن قد ينهض سؤال هنا عن الدعوة للنقاء والطبيعة وحياة الريف والبداوة ومدى تعارضها مع الواقع وما فيه من دعاوى للتنمية والنهضة والتحديث. وهذه التنمية سواء أكانت سدود (كسد مروي) أو مشاريع زراعية فإنها بالضرورة تقضي على كثير من التراث المادي الذي تقام على أنقاضه هذه المشروعات التنموية. فدعوة الكاتب هنا المناهضة لقيام السد بحجة الحفاظ على التراث ذات دافع عاطفي رومانسي لا يتسق ودور الكاتب في تحفيز المجتمع على النهوض وقيادة الرأي العام نحو التنمية والإصلاح. وقد يكون وراء موقف الكاتب دافع سياسي ولكنه لم يدافع عنه كما ينبغي، بل عالجه بطريقة عاطفية رومانسية كما ترى. ويظهر موقف الكاتب غير الداعم لقيام السد بخلاف موقف الطيب صالح مثلا في قصته دومة ود حامد وكيف أنه أوضح الصراع الذي يكشف عن تباين وجهات النظر بين السكان المحليين والحكومة في موضوع اقتلاع الدومة لتقوم في مكانها طلمبة المياه ومرسى للباخرة، وتجلت عبقرية الطيب صالح في الجملة التي تلت بيان هذه الحالة من الصراع: "ولكن فات على كل هؤلاء أن المكان يتسع لكل هذه الأشياء الطلمبة والمرسى والدومة" فجملة الطيب صالح تمثل دعوة إيجابية لترك التعصب لرأي واحد والتفكير بعقل مفتوح لأن الأدب الخالد لا يكتب ليقرأ في ظرف سياسي معين، ولا ليخدم طائفة معينة، وإنما ينبغي أن يتحلى بالعواطف الإيجابية التي لها صفة الديمومة والتي تتسق مع الإنسانية في كل زمان ومكان من غير أن تصاب الشيخوخة أو انتهاء الصلاحية.      وقضية تحفيز المجتمع وإدارة صراعاته وإيجاد حلول لها وفق قيم إيجابية إنسانية خالدة هو من واجبات الكتابة الروائية الهادفة.
                بل قد امتد هذا الحنين إلى الماضي وبشكل قوي في هذه الرواية حين يعود بنا إلى حضارة كوش القديمة والجبل المقدس وأبا داماك إله الشمس وتهراقا وبعانخي في تمجيد واضح لهذا التراث، قابله نعي على سكان تلك القرية التي تحتضن هذا التراث ولا تفخر بآبائها ولا بدينهم وتنتمي إلى آباء متوهمين- من وجهة نظره - ودين لا يمت لتراثهم بصلة (في إشارة إلى العرب والإسلام) :"لا أحد من سكان القرية يلتفت للحجارة لا يقرؤون ما سطره الأسلاف ...أصبحوا حين يمرون منها بالليل يقرؤون الفاتحة والمعوذتين وآية الكرسي ويتعوذون من الشيطان الرجيم، بل تمادوا أكثر من ذلك حين روجوا الشائعات ...قالوا إن الجبل مسكون بأرواح شريرة".(الرواية ص58) وهنا يوحي الكاتب بأن هدفه فقط ليس المحافظة على التراث لأنه حضارة إنسانية وينبغي أن نحافظ عليه لأنه يمثل موروثنا الثقافي، ولكن محاولة إحيائه في واقعنا وتجاوز حضارتنا وعقيدتنا الحالية (الإسلام)لنعود أدراجنا لعبادة الحجارة والآلهة كما هو الشأن في الثقافة الكوشية القديمة، فهذا تأسيس لصراع في مخيلة القارئ يتصل بأخص الأشياء لديه وهي العقيدة، وهو –في تقديري –صراع هدم لا صراع بناء. فبث إشارات تمس عقيدة المجتمع وتكوينه العرقي أو الديني غرس لا يمكن أن ينبت ورودا تفوح بروائح طيبة. وفي الوقت نفسه فالكاتب أمامه فرصة ليكون أكثر توازنا وحكمة حيث بإمكانه أن يكون داعية للتسامح الديني والتنوع الثقافي واحترام هذا التنوع إلى غير ذلك من العواطف الإيجابية التي يمكن إرسال إشارات حولها.
         نختم القول بأن الكاتب الروائي جمال الدين علي استطاع أن يكتب نصا عالي الجودة من الناحية الفنية والتقنية في الكتابة الرواية، وأن ما أبديناه من ملحوظات تعبر عن وجهة نظرنا لا تقلل من قيمة هذا النص، بل بالعكس من ذلك تكشف عن أنه نص قابل لتعدد القراءات وإثارة الجدل والفكر حوله، وأنه ليس مجرد وجبة دسمة تستهلكها وينتهي الأمر، بل هو نص مشاغب سيظل عالقا بذاكرة القارئ لما يحمله من أفكار إنسانية وفلسفية ،استطاع أن يعبر عنها بصورة فنية ولغة سردية رفيعة فله كامل التقدير والاحترام.