قراءة في الخصائص الأسلوبية لومضات فاطمة السنوسي  لمياء شمت

قراءة في الخصائص الأسلوبية لومضات فاطمة السنوسي  لمياء شمت في لقاء أجرته معها صحيفة «الرأي العام» في مايو 2005 تقدم القاصّة فاطمة السنوسي تعريفها الخاص للقصة القصيرة جداً، والذي يراهن على فاعلية وكفاءة التلقي، قائلة: «هي نوع من الكتابة الإبداعية التي تأتي كعمل مشترك بين الكاتب والمتلقي. وهي تعتمد على تكثيف اللغة، وتركيز الحدث، وإسقاط الزوائد والتفاصيل، بحيث تتيح للمتلقي وضع التفاصيل وملء الفراغات الزمانية والمكانية، وبالتالي تصور النهايات وفق رؤيته الخاصة. فالكاتب يركز على الفكرة المحورية، والمتلقي هو من ينسج حولها».

قراءة في الخصائص الأسلوبية لومضات فاطمة السنوسي  لمياء شمت

قراءة في الخصائص الأسلوبية لومضات فاطمة السنوسي

 
لمياء شمت

في لقاء أجرته معها صحيفة «الرأي العام» في مايو 2005 تقدم القاصّة فاطمة السنوسي تعريفها الخاص للقصة القصيرة جداً، والذي يراهن على فاعلية وكفاءة التلقي، قائلة: «هي نوع من الكتابة الإبداعية التي تأتي كعمل مشترك بين الكاتب والمتلقي. وهي تعتمد على تكثيف اللغة، وتركيز الحدث، وإسقاط الزوائد والتفاصيل، بحيث تتيح للمتلقي وضع التفاصيل وملء الفراغات الزمانية والمكانية، وبالتالي تصور النهايات وفق رؤيته الخاصة. فالكاتب يركز على الفكرة المحورية، والمتلقي هو من ينسج حولها».

يكشف المنجر الإبداعي لفاطمة السنوسي قماشة سردية تحتفي بالواقعي المعيش الذي تمتد تفاصيله عبر الفضاء الحياتي الإنساني اليومي، فالنصوص مصوغة بعناية على هيئة ومضات خاطفة، ولقطات مركزة تنقدح من مواقف متنوعة الزوايا، تأتي في مجملها أقرب ما يكون إلى الوجداني الذاتي، والجواني الخاص منها للاجتماعي العام، لتلتمع كتجليات سابرة، وتأملات وجودية عميقة في سمت حكائي ملتمّ ومقتصد.

احتجت لبعض عقلي
فاتخذت قراراً بألا أذكرك
إلا على رأس كل ساعة
لكني ألفيت نفسي أقضي العمر
انتظاراً لرؤوس الساعات
فعدلت عن القرار.

تتوالى الحكايا المُكَبْسلة (من كبسولة) كبرهات تأمّل تنسكب عبر تقنية المونولوج الداخلي، أو التداعي النفسي والبث العاطفي الحميم، كارتحال متّئد في أدغال الذات، بسردية رهيفة متضامة تعرف كيف تطبع مضمراتها وأسئلتها وخبراتها في وعي القارئ. ولنصغِ للومضة التالية، والتي تتراسل بجمال مع العبارة القصصية الشهيرة للقاصة بشرى الفاضل «خرجت ممتلئاً بها حتى غازلني الناس في الشوارع».

على الطريق العام
كنت أسير ذات يوم وأفكاري معك
عاكسني أحد المارة ممتدحاً جمالي..
أدركت في الحال
أن الحب الذي يملؤني
قد فاض على وجهي

وبذات الثراء اللغوي والاكتناز الدلالي، تتسع الفسحة الحكائية المروحنة التي تتحرك فيها العلاقات الإنسانية بأبعادها المختلفة من عشق وأمومة، أو جوار وصداقة لتتكشف عبرها النوازع والميول، والخيارات والرؤى الذاتية، عبر تكثيف التجربة الشعورية والوجدانية والصعود بها للحظة كشف تطمح لتحقيق وعي عميق بالذات ومحيطها الإنساني. وذلك عبر تسريد مستقطر رهيف للرؤى والانفعالات والمشاعر، والشواغل والنوازع الإنسانية، في محاولة لاستكشاف غور الحياة وكنهها في برهة خاصة يتجوهر فيها المعنى الكامن ليستدرج قارئه إلى لحظة كشف وامضة، وعن ذلك يكتب الناقد عزالدين ميرغني:
«مما يُحمد لنصوص فاطمة السنوسي الخطاب المباشر للآخر دون مواراة أو خوف وتقية. ففي زمانها ما كانت حتى المرأة الشاعرة لتجرؤ على ذلك». ويكمل بأنها قد «كتبت ما يمكن أن نطلق عليه (الموقف العاطفي المعلن)، والإعلان هنا لا يعنى التقريرية والمباشرة، وإنما يعني قوة التعبير الذاتي والانفعالي. فالمعنى هنا في أوج حضوره، والأثر العاطفي في قمة قوته». وهو ما يصفه الشاعر والكاتب محمد جميل بـ«الهم الإنساني الحميم حيال الذات، والتعبير الفردي عن العوالم الخاصة».

شاعت روحه الحلوة
وعمّت مكان الاحتفال
رأيت الشمعات تضحك
حتى سالت دموعها
احتفلنا دون أن نطفئ شمعة
حتى لا نخرس ضحكةً من الأعماق..

وكما تبين النماذج المختارة فإن سردية فاطمة السنوسي تخلص للخصائص البنيوية للقصة القصيرة المستقطرة الوامضة، من حيث الصياغة المحكمة، والمعمار المتضامّ، والجملة السردية الكثيفة شديدة الإيجاز، عالية الإضمار والطاقة الإيحائية والإشارية، في مقابل الاسترسال العميق في الفكرة والرؤية والمخيال والدلالة. مما يؤهل تلك الومضة القصصية لبلوغ النضج الفني للحكاية على المستوى البنائي والبلاغي والدلالي، حيث تستعيض الشذرة عن زهدها السردي بكثافة ما يتلاطم من دلالات ورموز بين لجة العبارة وساحلها.

في قلب سحابة بعيدة
حفرا مخبأً لحبهما
أمطرت السحابة
انسكب الحب على المدينة

وهي ملامح تظل تقربها من مقام الهجنة السردية الشعرية، وتجعلها بالتالي في موقف أقرب لمقاومة التجنيس وأسواره. وهو ما يرصده محمد جميل وهو يتقصى «تقاطعات قصيدة النثر وإشكالية التجنيس» بمقاربة نصوص سردية للقاصة فاطمة السنوسي وأخرى شعرية للشاعر اللبناني وديع سعادة. ويمضي في تعريفه للومضة بأن «بنية القصة القصيرة جدا تنهض على التكثيف وإضمار معنى الحكاية أو بؤرتها، في تقطير شديد يقوم على الحذف والتجريد والمفارقة، ضمن صناعة الدهشة التي ربما كانت من أهم ثيماتها الدرامية»، مقارنةً بالشعر من حيث كونه «حالة تعبير تقوم أصلاً على ضغط النص -مهما طال- في علاقات خيالية تجعل من نسيج الكلمات صفة للشعرية كمعمار يقوم على قابلية الثيمة السماعية والقرائية، التي تجعل النص الشعري يتجدد تجدداً لحظياً أثناء القراءة والسماع بصورة لا متناهية، لا لمجرد كونه أثراً فنياً فحسب، بل أيضاً لكونه يمتلك تلك القدرة الخاصة على صناعة الدهشة، عبر تكثيف الطاقة الإيحائية والسحرية التي تتولد من علاقة الكلمات بعضها ببعض عند إعادة خلقها في عالم خاص لا يمكن الاستمتاع به إلا حين تتم استعادة قراءته وسماعه مرات ومرات».

كما تتميز تلك الكينونة الحكائية بخصائص مختلفة نذكر منها: فرادة قاموسها اللغوي، وخصوصية مزاجها، وطاقتها التعبيرية، وحساسيتها الجمالية ومنطقها الوجودي الخاص، الذي يعرف كيف يتماسّ مع روح الموقف ليتدبر اللحظة المواتية لينْفذ إلى مكمنه، فيقتنص معناه ويشعّ بسره. بالإضافة إلى الشغف الهائل باللغة، حتى لكأنها غاية أكثر من كونها وسيلة. حيث «يتكئ السرد بثبات على كفاءة الدال اللغوي»، ويحتفي بممكنات اللغة، واحتمالاتها وحمولاتها الإيحائية والدلالية والانفعالية «كإيماءات مفرداتية مرسلة، تحيل إلى بذخ المدلول» وفق ملاحظة الناقد محمد العباس عن الكتابة الشذرية الأيقونية. بالإضافة إلى حرصها على الترهين والانتساب إلى لحظة حاضرة تمتد عبر أفق إنساني مشترك، لا يسيجه زمان أو مكان. حيث تُصاغ النصوص كتأملات إنسانية مفتوحة على الكوني، الذي يمثل بدوره الخيط الوجودي الذي تنتظم عليه خرزات النصوص.

التقت الفتاة بصديق قديم..
حكى لها عن فكرة طريفة يتبناها
ومشى فيها خطوات..
تتمثل الفكرة في تكوين نادٍ للقلوب الخالية
ودعاها للانضمام للنادي..
التقيا مرة أخرى لمناقشة أبعاد الفكرة
كان اللقاء طويلاً.. والحديث حلواً
وشجياً
قبل ختام اللقاء.. أيقن كلاهما
أنهما فقدا شرط العضوية الوحيد.

كما تبرز تقنية استخدام المفارقة، كسمة أخرى مميزة لحكائية فاطمة السنوسي، يتم ترسيخها عبر تسلسل الشذرات الوامضة، والتي تعوّل على فراسة القارئ وخبراته. ووفقاً لملاحظة صلاح الدين سرالختم فإن «المفارقة بأنواعها المختلفة في اللغة والموقف والحركة تظل حاضرة حضوراً مدهشاً ودائماً فى مجمل التجربة الإبداعية للكاتبة، بحيث يمكن الجزم بعدم وجود نص خالٍ منها». وتمثل المفارقة عاملاً حاسماً يتم استثماره بدقة في مبنى ومعنى الشذرة الحكائية على المستوى اللغوي والتركيبي والدلالي والدرامي، والتي تتنوع مضماينها بين التأملي الاستبصاري، أو الكشفي الرؤيوي، والتهكمي الساخر. وغالباً ما تحضر المفارقة بين ثنائية الذات والآخر أو كتناقض فاقع بين حدّي ممكنات متضادة، فتتسلل في المسافة بين الواقع والمتوقع، لتكشف عن لغزها في العبارة الأخيرة. وهو ما يخلص إليه سرالختم حيث يكتب «النهاية عند فاطمة السنوسي دوماً صادمة ومفاجئة كدفقة ضوء في الظلمة»:

يضحكني حبيبي
فهو قصير القامة جداً
مستدير الوجه جداً
صغير الأنف جداً
يفشل في تقبيلي لأنني عندما أنظر إليه
أنفجر بالضحك
أحببته معنىً.. همت به حقيقةً
أعطيته الحياة.. أطال لي حياتى
ناداني.. يا ماما
ناديته.. يا رجل
فقد بلغ من العمر.. ثلاث سنوات.

وهو ما يتطابق مع ما سماه الناقد عزالدين لحظة التنوير الكبرى «هذا الإقفال مهم جداً في كتابة القصة القصيرة، فأنت لا تقرأ أي نص من نصوص فاطمة السنوسي إلا وتحس بقوة القفل المتقن في نصوصها القصيرة جداً. وهو ما يجعل نصوصها مفهومة وليست غامضة مبهمة».

كما تتوجب الإشارة إلى سمتين إضافيتين تميزان سردية فاطمة السنوسي، إحداهما الشفرة العطرية للومضات السنوسية، والتي تستثمر الحقل المعجمي العاطفي والوجداني في تجربة إبداعية جمالية يتحالف فيها اللغوي بالدلالي المكتنز لإنتاج الأيقوني، الذي يشع بإيحاءاته وإشاراته الوامضة الغامزة.

اختلفنا ذات مساء..
التقينا صباح اليوم التالي..
فاتفقنا
على عدد نجوم السماء
في تلك الليلة..

أما السمة الأخرى فتندرج تلقائياً ضمن ما أشرنا إليه سابقاً في عنصر المفارقة وتتمثل في الرهان المضمر على خرق أفق توقعات القارئ. فالنصوص تطمح في مجملها إلى تكسير المرتقب، وبالتالي إرباك الاحتمالات المطمئنة للقارئ، عن طريق مباغتته وإدهاشه، بما يشرع أفق الدلالة، ويعمل في ذات الوقت على مكافأة المتلقي بحوافز تأويلية وجمالية. كما في الحكاية التالية بإيجازها وكثافتها التي تقربها إلى كنف الأمثولة، واستدعاء المأثور:
تآلفنا ولم نتعارف
تعارفنا فلم نتآلف
افترقنا دون وداع

وكنا قد أشرنا سلفاً إلى أن القاصة تراهن في تعريفها لهذا النوع من الإبداع السردي على كفاءة التلقي، والخبرة القرائية التي تعين القارئ على الانخراط الفاعل في إنتاج النصوص، بالمساهمة في ملء فراغاتها، والدراية بانزياحاتها وتحويماتها ومضمراتها، مما يجوز معه اقتراح فرضية أن هذه الخبرات قد تسهم في جعل اللعبة السردية تتكشف رويداً رويداً أمام تلك الحواس القرائية النهمة، الواعية بملامح النص وخواصه الأسلوبية، وشفراته وروابطه الداخلية، لتعين على التكهن باتجاه بوصلة السرد. وتتنامى تلك القدرات ذات الطبيعة التنبؤية تدريجياً لتمكّن القارئ من فك الشفرات، والقبض على المفاتيح ذات الطاقة الإشارية، مما قد يؤدي إلى تحييد عنصري الإدهاش والمباغتة في بعض النصوص. ولنتتبع تلك الفرضية في النصوص التالية التي ينزلق فيها النص بتدرج إلى نبرة خطابية بمسحة تقريرية:
همّ طبيبها بالكشف على قلبها
وضع السماعة على صدرها..
نظرت إليه معاتبة..
استدرك أن قلبها لم يعد معها
فوضع السماعة على صدره..

والتي تشابه ثيمتها نصاً آخر ينقر على ذات مفاتيح اللعب اللغوي الإيحائي:
تحاببنا بصدق
توحدنا
سألني صورتي
فأعطيته المرآة

والجدير بالرصد كذلك أن اللحظة البؤرة أو الموقف الدرامي الواحد يمثل النبع الحيوي الذي تُستمد منه طاقة الحكي. حيث تتكاثف العبارات تدريجياً باحتشاد لغوي ودلالي، وتصعيد متدرج محسوب، وبإيقاع سردي نشط حتى تصل للحظة الكشف الباهرة، والتي هي لحظة الإفصاح كما تتجلى في العبارة الختامية في نهاية الشذرة، التي تومض كأنها لغز يغامز ذهن القارئ. وهي خصيصة تسخرها القاصة لتأثيث نصوص ذات طبيعة وصفية ومشهدية، حيث تتم مراكمة الجمل مع تفعيل عنصر الحذف الضمني، ليقوم بوظيفة مزدوجة حيث يعمل على حشد الحكاية في بؤرة مركزة، والدفع بعجلة السرد، مع إبقاء خيط السرد مشدوداً إلى نقطة مركزية مفردة.

طفلي الرائع يحبني
يغفر أخطائي
عند الشهيق أغضبته
عند الزفير سامحني

ويلاحظ الناقد محمد جميل أن في نهايات نصوص فاطمة السنوسي حضوراً للأفعال كدوالٍّ على ما يمكن أن يكون بمثابة خاتمة درامية للنص:
ضاعت مني بوابة الخروج
فأعطيته المرآة
صار في الدنيا مريضان.
خلعت ثوب عافيتي
لأنشره عليك..
ما وجدتك..
صار في الدنيا مريضان.
*

عبر منفذ صغير
اقتحمت حياته..
دخلت عالمه الرحب
استغرقتني كنوزه..
ضاعت مني بوابة الخروج.

تعتبر فاطمة السنوسي من رائدات القصة القصيرة جداً في السودان. وهي إعلامية وقاصة ومترجمة، تخرجت في كلية الآداب - جامعة الخرطوم، ثم عملت كمسؤولة في القسم الثقافي في الإذاعات الموجهة بالإذاعة السودانية، وكصحافية ومترجمة في صحيفة السياسة السودانية. كما ترجمت عدة كتب للمجمع الثقافي في أبوظبي صدر منها «الصراعات» للكاتب ادوارد دي بونو، في مجال حل الصراعات، الصادر (1997). وكذلك كتاب «فيتامين ج» لوالجي حسنين، في مجال التغذية من منشورات المجمع العلمي (1997).
عن المساهمة الإبداعية الرائدة لفاطمة السنوسي، وتأثيرها الملهم على ذلك الجيل تكتب سلمى الشيخ: «حين بدأت تلمس طريقي في الكتابة كانت تلك الفترة تشهد نوعاً جديداً من الكتابة استطاعت أن تشعل خيال ذلك الجيل، وتقدم لهم نموذجاً يستندون إليه في بحثهم عن الجديد، ومن ضمن ذلك ما قدمته الصديقة فاطمة السنوسي التي كنت أقرأ لها في مفتتح حقبة الثمانينيات».