قراءة جمالية في (حنين مبعثر) للشاب اليمني حميد الرقيمي صلاح محمد الحسن القويضي – السودان

قراءة جمالية في (حنين مبعثر) للشاب اليمني حميد الرقيمي  صلاح محمد الحسن القويضي – السودان

قراءة جمالية في (حنين مبعثر) للشاب اليمني حميد الرقيمي

صلاح محمد الحسن القويضي – السودان

20 مايو 2021م

salahmasrawa@yahoo.com

 

(حنين مبعثر) كتابة إبداعية صدرت في 2021م بقلم الشاب اليمني المقيم بالسودان حميد الرقيمي. الكتاب صادر عن دار )عناوين(  في أربع وثلاثون ومائة صفحة من القطع المتوسط (14X20 سم). بغلاف مصمم بصورة جاذبة ومتناسقة مع العنوان.

اعتمد الرقيمي لكتابته الإبداعية شكل (الرسائل)التي وجهها جميعًا إلى أمه، في خمسة وثلاثين عنوانًا انتقاها الكاتب بعناية ليناسب كل منها موضوع رسالته. وشكل (الرسالة) في نظري هو (قناع) إبداعي اختاره حميد الرقيمي لعرض نصوصه التي يمكن النظر لبعضها باعتبارها (مقالات) تعرض (فكرة) محددة بطريقة واضحة كما في (نهاية قبل البدء ص ص 87/88) و(الوطن أغلى ص ص 82/83). كما أن بعضها يدخل في باب (الخواطر) كما في حالة (ندوب ونصف حياة ص ص 19 /21) و(الجحيم ينتظرك ص ص 99/ 101).

بينما يبدو بعضها الآخر أقرب للنصوص (السردية) كما في حالة (سوماني ص ص 35 / 41) و(هل تراها مثلي ص ص 69/71) ومائدة دافئة بالضحك ص ص 95/96) و(حكاية طفل ص ص 99/101). ورغم تنوع (الأنماط) فإن (حنين مبعثر) في مجملها كتابة (وجدانية) تفيض بالمشاعر والأحاسيس والنوستالجيا والمحبة.

في كتابته الإبداعية هذه يعبر الرقيمي لأمه عن حنينه ومحبته لها، ولكنه يعبر أيضًا عن حنينه ومحبته (للأم / الوطن) اليمن وعن حزنه على حالته.

(لا أدري ماذا يمكن أن أقول وبلادي مخنوقة بالخذلان والجراح الراعفة. فلا ذلك النسيم الذي عهدناه صغارًا عاد ولا ذلك الصباح الذي أشبعنا حنينًا وحرمانًا أطل من جديد. تسير بي بلادي وكأني بها أسير أبدي مشنوق بحنينه وضياعه ومنفاه الشارد الأبكم ...) ص 109

كما يعبر الرقيمي في رسائله عن محبته لوطنه الثاني (السودان).ويجسد فكرة (السومانية) من خلال نصه (سوماني).

(ذات يوم قابلت سودانيًا نبيلًا. سألني :من أي بلد أنت؟ قلت له : من اليمن. فرد مبتسمًا: أن تكون يمنيًا وفي السودان فهذه من الأشياء العظيمة...

هل هناك محبة أكثر من ذلك يا عزيزتي)

وكل الرسائل تفيض ، بجانب ذلك، بمشاعر المحبة للبشر اليمنيين وبالتعاطف معهم.

(فأنا حريص على أن لا أعود إلى منفاي الآخر إلا وقد امتلأت بروائح اليمنيين) ص 21.

والرقيمي، من خلال رسائله لأمه، يعرض صورة قاتمة (للحرب) في اليمن ولآثارها المدمرة على البلاد والعباد، وذلك من خلال تجربته الشخصية وتجارب غيره من اليمنيين الذين تقاطعت مصائرهم مع مصيره في اليمن وفي (المهاجر)

(أتسكع في شوارع القاهرة ... وأنا لا أمتك إلا بلادي التي تنساب على أزقتها بأجساد ناقصة مليئة بندوب الحرب وتشوهاتها. لا يمر يوم لا يمر يوم دون أن أقابل يمنيًا دون عين، دون ساق، دون قدم ... دون حياة ... أجده يسير خائفًا وكأنه وسط حقل كبيرمن الألغام ...مرعوبًا من فوبيا الطائرات والمدافع وأزيز الرصاص الذي اعتاد عليه في وسط ملتهب بالموت ...) ص19

كما يستعرض الرقيمي في رسائله لأمه، بصورة (إبداعية) ملامح حياة (اليمني المعاصر) وكيف أفقدته الحرب طبيعته كإنسان (سعيد) وحولته إلى كائن يحمل (كفنه) على كتفه في إذا قرر البقاء في اليمن ويحمل (أحزانه) و(همومه) على ظهره في المنافي القصية.

(مشيت كثيرًا في شوارع القاهرة . كنت أحاول بالمشي والصمت والهروب من كل الأشياء حولي أن أتخفف من هذه الأثقال. لكنني لا أقدر يا أمي. أعود إلى ذاتي الممزقة فأجد كل شيئ حولي يتمثل اليمني المصاب بعشقه للأرض المسلوبة والوطن المنسي. كانت الجثة الملقاة على صدر الموت تطاردني لتزيد من صخب الشوارع المزدحمة بالمارة. وكنت أترنح بهذا كله كمسن سكران. اتمتم بالله وبكل الأشياء التي ألجأ إليها في لحظات ضعفي وهواني) ص 22

هاجس العودة لحضن الأم وحضن (الوطن / الأم) يتخلل كتابات الرقيمي كخيط ناظم يقطر بالنوستالجيا وأشواق العودة

(عندما أعود إليك سأتجرد من كل منافي العمر. أتجدد بك ومعك. سترقص روحي، قلبي، وقتي، وكل مشاعري بهوس لا يخمد) ص 79

غير أن رسائل الرقيمي لا تكتفي بذلك. فهو يطرح في بعض هذه الرسائل رؤىً وأفكارًا وتساؤلات حول أسئلة وجودية أشمل كأسئلة (الذات والآخر) وسؤال (الموت) والعزلة

(أكتب الآن تنهيدتي الأخيرة ...أعكف في غرقة صغيرة لا أحد يقترب مني فيها ...

أشاهد الموت يقترب مني فأقول في نفسي: ماذا لو يموت الموت ويتركني أقضي ما تبقى لي من شغف في هذه الحياة) ص 89

في كتابته الإبداعية هذه يعتمد الرقيمي (سجلًا لغويًا) يتميز بالوضوح والسلاسة وسهولة الفهم. لكنه لا ينسى أن ينتقي مفردته بعناية لتملأ النص بدفق وجداني خاص. وفي في كثير من لحظاتها تقترب لغة الرقيمي من لغة الشعر. بل وتقترب (تراكيبها) من التراكيب الشعرية.

(أشعر بعطش قاتل ... تتسرب الصحراء لروحي ... رمالًا ورياحًا ... وجمالًا مليئة بالتعب) ص 27

(تلبسني الحمى كخرقةٍ بالية ... لا أدري أين أنا ...كأنني في بقاع مختلفة ... بكلٍ واحد) ص 95

كما أن الشعر نفسه يسجل حضوره عبر النص الشعري (غريبان في هذا البلد) للشاعر اليمني عبد الله البردوني، والذي أورده الرقيمي في صفحات 123 و124 من (حنين مبعثر)

(عرفته يمنيًا في تلفته خوف

وعيناه تاريخ من الرمد

من خضرة القات في عينيه أسئلة

صفر تبوح كعود نصف متقد)

خاتمة

من ميزات الكتابة في شكل الرسائل – الذي اختاره الرقيمي – أنه يتيح للقارئ الملول - مثلي – حرية أن يتجول بين صفحات الكتاب كما يشاء دون تقيد ببداية ونهاية. وقد فعلت أنا ذلك مبتدئًا بنص (سوماني) الذي اغرورقت عيناي بدموع المحبة وأنا أقترب من نهايته. لكنني عدت فقرأت الكتاب رسالة رسالة قراءةً تجعلني أقول بكل ثقة أنني :

- قبل قراءة (حنين مبعثر) كنت أظن أنني أعرف اليمن. بعد قراءة (حنين مبعثر) صرت أعرف اليمن بصورة أفضل.

- قبل قراءة (حنين مبعثر) كنت أظن أنني أعرف انسان اليمن. بعد قراءة (حنين مبعثر) صرت أعرف انسان اليمن بصورة أفضل .

- قبل قراءة (حنين مبعثر) كنت أحب اليمن وإنسانها. بعد قراءة (حنين مبعثر) صرت أحب اليمن وإنسانها أكثر.

وما أجدر كتاب كهذا بالقراءة ...