حين يترك المثقف مكانهُ للطغاة
حين يترك المثقف مكانهُ للطغاة علي حسين عبيد شخصية المثقف تُبنى وتتشكل رويدا، وفقا لجهود المثقف نفسه بعد دخوله معترك الوعي، مضافا الى ذلك الظروف المحيطة (العائلة، المدرسة، الشارع، دائرة العمل)
حين يترك المثقف مكانهُ للطغاة
علي حسين عبيد
شخصية المثقف تُبنى وتتشكل رويدا، وفقا لجهود المثقف نفسه بعد دخوله معترك الوعي، مضافا الى ذلك الظروف المحيطة (العائلة، المدرسة، الشارع، دائرة العمل)، وعامل الوراثة وما يضفيه على هذه الشخصية باتجاهين متعاكسين، الجيد والرديء.
ثمة مثقف مبادر لايعرف السكون، أو الانتظار ريثما يظهر له ما يقدمه الآخر لكي يستفزه ويدفعه للمشاركة او المبادرة في هذا المجال الثقافي او ذاك، أي أنه يتمتع بصفة الاقدام والسبق، لهذا نلاحظ حضورا مميزا لمثل هؤلاء المثقفين، في المحافل المتعددة، ناهيك عن حضوره الاعلامي المتواصل، حيث يصبح نقطة اجتذاب لوسائل الاعلام بمختلف انواعها المعروفة، والسبب أنه يتمتع بعنصر التجديد ومفاجأة الآخرين بطروحاته، لذلك غالبا ما يُحاط مثل هؤلاء المثقفين، بهالة من الضوء والاهتمام، سواء من الوسط الذي ينتمون له، او من لدن عموم المهتمين والمتابعين، والسبب دائما عنصر المبادرة.
على النقيض من ذلك، هناك مثقفون كسالى، ينتظرون الآخر يتحرك ويبدع ويبادر لكي يستفزهم، ويزجهم في المضمار الثقافي الحي، وحين يتحرك هؤلاء وينشطون، فإن الخمول يتربص بهم وينقضّ عليهم بمجرد غياب المحفِّز، وهي إشكالية يعاني منها المثقفون التَبََعيون الذين لا يتمتعون بصفة الأصالة، على أننا لا ننكر بأن الاصالة تنمو بالتجربة، لكنها ايضا، ينبغي أن تُزرع مبكرا في الذات المثقفة، وهي مهمة شائكة مصدرها الذات والمحيط معا.
ولكن يبقى غياب المبادرة لدى المثقف، عيبا شخصيا فرديا بالدرجة الاولى، فحين يحضر الكسل ويشكل جانبا أساسيا من شخصية المثقف، عنذاك يضمر الابداع، وتغيب رغبة الابتكار، وتضمحل ملكة التجديد، ويسقط المثقف في فخ العجز، والخمول، والانتظار الدائم، لما يصل إليه من جرعات التحفيز والتحريك الخارجية، فيما تموت او تتباطئ فيه، رغبة الطرح والمبادرة لأسباب عدة، منها وربما أخطرها فقدانه لعنصر الثقة، وهو ما يتولّد عن الكسل الذي يحتل مساحة واسعة من ارادة المثقف الخامل مع عوامل اخرى.
ولأن المثقف المبادر ينتمي الى الندرة، أكثر من سواها في المجتمعات الراكدة، لذا قلما يحصل المجتمع الساكن او الخامل، على مثقف حيوي مبادر، لهذا يسود مثل هذه المجتمعات، مثقفون فارغون، إستعراضيون، يبحثون عن المنفعة الفردية على حساب الابتكار والابداع المتميز القادر على انتشال المجتمع من حالة الركود، والسكونية التي تهيمن على حركته وذائقته، بل وذاكرته اللحظوية ايضا، فيغيب دور المثقف بسبب خفوت روح المبادرة، وضآلة قوة التأثير بالآخرين في الوقت نفسه.
تُرى أين نحن من هذا الكلام، أو الآراء التي تم طرحها فيما سبق؟ وهل نعاني فعلا من غياب المثقف المبادر او الحيوي؟ ثم هل هناك بدائل يمكن طرحها في هذا الصدد، سواء للتوضيح او المعالجة؟.
إن الاجابة تستدعي الصدق اولا، واتفاقا على مبدأ إصلاح الذات ثانيا، وتستدعي ايضا فهما للدور الكبير الذي يقع على عاتق الثقافة والمثقفين، في نقل المجتمع الى مراتب أعلى، في الوعي والحياة.
نحن مجتمع متخلف عن الركب العالمي، نفتقد الى المعاصرة، تكبلنا تقاليد وسلوكيات، وربما أفكار ديدنها السكون والمحافظة على ماهو كائن وكان، مجتمع يقبع مثقفوه (وربما معظم نخبه) في خانة التردد والكسل، وفي حالة الحركة ثمة لهاث نحو المكاسب والمصالح الفردية إلا ما ندر، الكل يريد أن يصبح في الواجهة، وإذا لم يتصدر الصفوف، يقنط ويغتاظ، وربما يلجأ الى الاقتصاص بالعداوة المعلنة او الخفية، مثل هذا السلوك يسلكه المثقفون والسياسون وغيرهم من النخب، من إذن يا تُرى يصحح أخطاء المجتمع، ويزيح او يمحو حالة اللهاث الجماعي نحو مراعاة الذات وتضخيمها وتبجيلها، حتى لو تم ذلك على حساب الآخرين؟.
كانت هناك مسارات حياة جهنمية، مسخت الشخصية العراقية والعربية والاسلامية، من لدن طغاة ضخّموا ذواتهم، الى الدرجة التي مسخت شخصية الشعوب، وزرعت الشعور بالدونية لدى الجميع، اليوم يريد الناس أن يشعروا بأنهم مهمون، فيتصدرون المجالس الخاصة والعامة، وقاعات الاحتفالات والمناسبات والمهرجانات، كل ذلك وغيره الكثير من السلوكيات، تأتي من اجل استرداد الشخصية المستلبة.
ومن هؤلاء المثقف بطبيعة الحال، لكن ما لا يجوز ولا يُبرر للمثقف، هو أن يلهث مثل غيره الى معالجة انكسار وانمساخ الذات بالسبل والطرق التي لا تبني الذات ولا تحفظها، لذا نحن ندعو الى بناء الذات الثقافية المبادرة التضحوية التي تتمتع بروح الإيثار والمبادرة في آن، فلا سكونية مقرونة بالخمول والانعزال الكلي، ولا حركة ونشاط مقرونا بتحقيق المنفعة الفردية اولا، إنما نحن بأمس الحاجة الى نزعة التجديد المقرونة بنكران الذات، بمعنى أوضح نحن نحتاج بشدة الى المثقف المبتكِر والمضحّي في آن.
هذا النوع من المثقفين (المبادِر وناكر الذات)، هو القادر على بث روح الوعي بين الجميع، وهو المثال الذي يحقق نوعا من النمذجة التي يبحث عنها المجتمع، كي يتعلم منها ويسير على هديها، أما من يبحث عن معالجة ذاته باللهاث وراء المنفعة المادية، فسوف يتضح نهجه للجميع آجلا أم عاجلا، ولا يمكن أن يؤدي مسك العصى من الوسط الى نجاح المثقف في خداع المجتمع، بمعنى ثمة مثقف يحلو له اللعب على الحبلين، فهو من جهة يريد أن يكون علما من أعلام المجتمع يُشار له بالبنان، ومن جهة اخرى ينتهج حب الذات ويؤثر نفسه على الآخر، خاصة في مجال البحث عن المراكز والوظائف وجمع الاموال، لهذا فإن منهجه هذا مفضوح وغير قابل على الصمود أمام الخط البياني المتصاعد للوعي الشعبي عموما.
لذا فالمثقف المبادر التضحوي، والمؤمن بدوره الانساني الحقيقي والكبير، هو ما نحتاجه اليوم، في هذه المرحلة المحورية من تأريخنا الراهن.